الخميس 29 كانون الأول (ديسمبر) 2011

لماذا سنقاطع حفلَ فان بيورين؟ ..أسئلة في شأن المقاطعة الفنيّة والأكاديميّة لـ «إسرائيل»

الخميس 29 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par سماح ادريس

أثارت دعوى جهاد المرّ على حملات المقاطعة، التي يقول إنها خسّرتْه «ثلاثة آلاف مقعد» في حفل فرقةٍ موسيقيّةٍ بريطانيّةٍ داعمةٍ للكيان الصهيونيّ العامَ الماضي، أسئلة كثيرة عن الإرهاب الثقافيّ، والقدرة على محاربة العولمة الثقافيّة، وجدوى المقاطعة، وعلاقة هذه الأخيرة بمفاهيم الحضارة والحداثة. ثم جاءت دعوةُ حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان إلى مقاطعة حفل آرمن فان بيورين في 30 الجاري لتضيفَ أسئلةً جديدةً تداولتْها صفحاتُ «الفايسبوك» بشكلٍ خاصّ. هنا محاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة.

[**1ـ لماذا نقاطع مَن يقوم بنشاط فنيّ أو ثقافيّ أو أكاديميّ أو طبيّ أو رياضيّ في الدولة الصهيونيّة؟*]

إنّ مَن يقوم بأيّ نشاط من هذه الأنواع يتغاضى عمّا ترتكبه «إسرائيل» من جرائمَ واحتلالٍ واستيطانٍ وعنصريّة. إنه أشبهُ بضيفٍ دُعي إلى قصر أحد المجرمين، فعَزف وأطربَ السامعين في إحدى الغرف، متناسيًا هويّةَ صاحب القصر! وهذا «التناسي»، المدفوع في حقيقة الأمر بالاستهتار الأخلاقيّ، أو بالرغبة الجارفة في الكسب الشخصيّ والمادّيّ لا غير، تستغلّه الدولةُ الصهيونيّةُ المارقةُ لطمس ارتكاباتها المستمرّة منذ أكثر من ستة عقود ولتطبيعِها و«تعقيمِها» في عقول العالم.

ثم إنّ مثل هذا النشاط يُسهم في تنشيط العجلة الاقتصاديّة داخل تلك الدولة. فحضورُ 7000 متفرج حفلاً لفرقة بلاسيبو في «تل أبيب» في حزيران 2010، مثلاً، يدرّ مئاتِ آلاف الدولارات على الاقتصاد «الإسرائيليّ» ـ لا من إيرادات الحفل في حدّ ذاته فحسب، بل كذلك ممّا تجنيه المطاعمُ والفنادقُ ومختلفُ المرافق السياحيّة المرتبطة بهذا الحفل.

كما أنّ إحياء فنّان عالميّ حفلاً في هذه الدولة يشجّع الفنّانين الآخرين على القيام بذلك، الأمرُ الذي يزيد من اعتبارها «قِبلة» للثقافة والحضارة في العالم «المتمدّن»؛ فكيف إذا ترافق ذلك الإحياءُ مع دعوة فنّان مثل الكوميديّ المغربيّ ـ الفرنسيّ جاد المالح جميعَ فنّاني العالم، بل جميعَ الناس، إلى زيارة «إسرائيل»؟ يقول : «ثمّة أمرٌ علينا جميعًا أن نفعله : أن نحثّ الناسَ على السفر (إلى «إسرائيل») من أجل الإحساس بهذا البلد وحُبّه. إنني أتحدّث عنه إلى أصدقائي كلّ يوم... وتحديدًا (الممثّل الفرنسيّ الشهير) جيرار دوبارديو المفتتن بـ «إسرائيل» و«بتل أبيب»... (المجتمع «الإسرائيليّ») مجتمعٌ صحّيّ جدًّا، ومتوازنٌ، وحيّ».

أما في ما يخصّ النشاطات الأخرى، فتهمّنا الإشارةُ إلى ضلوع المؤسّسات الأكاديميّة والقانونيّة والطبيّة «الإسرائيليّة» في قمع الشعب الفلسطينيّ :

ـ الأولى عبر بناءِ سرديّةٍ زائفةٍ عن «الديموقراطيّة «الإسرائيليّة»»... بل عبر بناءِ جدار الفصل العنصريّ نفسِه الذي كان «من بنات أفكار علماء الجغرافيا في جامعة حيفا، وخطّط له مهندسون معماريّون بارزون في الجامعات «الإسرائيليّة»، ونفّذه مهندسون معماريّون من معهد تخنيون».

ـ والثانية عبر تزويد المحاكم العسكريّة بمتخرجي القانون من الجامعات «الإسرائيليّة» المختلفة.

ـ والثالثة عبر إشراف أطبّاء «إسرائيليين» على تعذيب الفلسطينيين؛ وذلك هو ما جزم به الدكتور يوران بلاشار، رئيسُ الجمعيّة الطبيّة «الإسرائيليّة» السابق، والدكتور إيران دوليف، رئيسُ قسم «الأخلاقيّات» فيها.

[**2ـ هل مقاطعتنا ستؤثّر في «إسرائيل»؟*]

بالتأكيد. وإذا اقتصرنا الكلامَ على المقاطعة الفنيّة وحدها، فإنّ تراجعَ فنّان عالميّ عن إحياء عرضه هناك سيشجِّع آخرين على أن يحذوا حذوه. وهذا ما يفسّر تعاظمَ «كرة ثلج» المقاطعة الفنيّة على الأقل : من ألفيس كوستيلّو، إلى روجر واترز، وكلاكسونز، وغوريلاز، وذا بيكسيز، وكارلوس سانتانا، وغيل سكوت هيرون، وبونو/يوتو، وناتاشا أطلس، وفانيسا بارادي، فضلاً عن الممثليْن القديريْن داستن هوفمان وميغ رايان، وعشرات الفنّانين الآخرين. ومن البدهيّ أنّ كلّ مَن يرفض تقديمَ عرضه في الدولة الصهيونيّة يُسهم في إضعاف حركة السياحة هناك، ويسهم في تقويض معنويّاتها وسمعتِها الحضارويّة الزائفة.

[**3ـ ألن تعزّز مقاطعة «إسرائيل» الإرهابَ الثقافيّ في بلدنا لبنان؟*]

هذا سؤالٌ يطرحه الخائفون من أن تؤدّي المقاطعةُ الفنيّة والثقافيّة والأكاديميّة لداعمي العدوّ وللمتغاضين عن جرائمه إلى تقوية الأصوليّة الثقافيّة عندنا. وقد يجد هذا السؤالُ جزءًا من مشروعيّته بسبب الرقابة التي ترْخي بظلّها البغيض على الأفلام وغيرها. جوابُنا متشعّب :

أـ نحن لا نرْهب أحدًا ولا نجْبر أحدًا على المقاطعة، بل نخاطب الناسَ بكلامٍ يستند، قدرَ الإمكان، الى المعلومة والضغط الأخلاقيّ لا غير. استراتيجيّتنا، كحملة مقاطعة في لبنان، وكحملة مقاطعة عالميّة (بي. دي. أس)، تقوم على خطوتين بسيطتين : نبعث رسالة إلى الجهة المدعوّة إلى «إسرائيل» نعْلمها فيها (أو نذكّرها) بانتهاكات هذه الدولة لحريّتنا وسيادتنا وللقوانين الدوليّة والأعراف الإنسانيّة، مناشدين إيّاها الامتناعَ عن تلبية الدعوة؛ فإذا فشلت الرسالة في تحقيق هدفها، عمدْنا إلى تنظيم احتجاجاتٍ سلميّةٍ لحثّ مشجّعي هذه الجهة على مقاطعة العرض. المقاطعة، إذنْ، وسيلة تعبير ديموقراطيّة عن امتعاض فئة من الناس، صغيرةٍ أو كبيرة، من أمرٍ تحاول تغييرَه : إمّا بإقناع مَن يمارسه بالامتناع عن ذلك، وإمّا بإقناع الآخرين بالامتناع عن تداول «منتوجه» حتى يستجيب مطالبَهم.

ب ـ نحن لا نقاطع دينًا، ولا عِرقًا، ولا فنًّا، بل نقاطع محتلاً عنصريًّا، أو داعمًا له، أو متغاضيًا عنه. وفي قناعتنا الراسخة أنّ المقاطعة الثقافيّة، بالمعنى العميق للكلمة، تعزِّز مناخَ البحث والتمحيص في مواقف الفنّانين والمثقفين العالميين (بما يتخطّى تُرّهات «الفنّ للفنّ»)، وتشجّع على ممارسة الرأي الحرّ وسط فيضان ثقافة الاستهلاك والإعلام الطائفيّ/المذهبيّ السائد.

ج ـ إنّ الدولة الصهيونيّة هي التي تمارس الإرهابَ الثقافيّ : بقتلها الأساتذةَ والطلابَ أو اعتقالِهم، وبإغلاقها الجامعاتِ والمدارسَ بشكلٍ دوريّ، وبمنعها انعقادَ المؤتمرات المعادية لسياستها الرسميّة (كمؤتمر نظّمه المؤرّخ إيلان بابيه عن النكبة في جامعة حيفا)، وبمنعِها دخولَ شخصيّات أكاديميّة مرموقة كنوام تشومسكي ونورمن فنكلستين إليها. وكلُّ ما تقوم به المقاطعة هو الردُّ على داعمي هذه الدولة، أو على الساكتين عن إجرامها، بانتهاج وسيلةٍ مدنيّةٍ توعويّةٍ يكْفلها الدستورُ اللبنانيُّ نفسه.

[**4ـ هل نقاطع كلّ شيء يدعم «إسرائيل»... أو لا شيء على الإطلاق؟*]

هذا منطق من لا يريدون أن يقاطعوا أيّ شيء. كلّما طلبتَ إليهم أن يقاطعوا شركةً بعينها، أو فرقةً في ذاتها، تذاكوْا عليك بالزعم أنّ «كلّ شيء يدعم «إسرائيل»» وأنّ «العالم قرية واحدة بسبب العولمة».

لقد سبق لحملتنا في لبنان، أثناء عملها على مقاطعة الشركات الداعمة للعدوّ، أن أوضحتْ أنها لا تدعو إلى مقاطعة بلدٍ أو دينٍ أو جنسيّة، بل إلى مقاطعة شركاتٍ بعينها. ورفعنا آنذاك، وما نزال، شعار «قاطعوا ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً»! بل حدّدنا شركاتٍ عشرًا للمقاطعة، وقلنا إنّ لها بدائلَ كثيرةً في السوق المحليّة. فإذا انتقلنا إلى المقاطعة الفنيّة غدا الأمرُ أسهلَ بما لا يقاس : أترانا سنموت مثلاً، أو ستتعطّل ذائقتنا الفنيّة المرهفة، إن امتنعْنا عن حضور فان بيورين، أو بلاسيبو، أو دي. دجاي. تييستو؟ وهل اقتصر «الفنُّ الراقي» على هؤلاء، تضاف إليهم جهتان أخريان دعوْنا إلى مقاطعتهما خلال العامين المنصرمين (جاد المالح ودايان كرال)؟ ألا تعجبكم، أيّها المستمعون وأيّها المنظّمون المستهزئون بالمقاطعة، آلافُ الجهات الفنيّة التي لم تؤدّ عروضَها في الكيان المجرم... فضلاً عن عشراتٍ أخَر قاطعتْه و/أو جهرتْ بعدائها لمواقفه (سنذكر بعضَها في المقطع القادم)؟

ثم إننا لا نقاطع من دعونا إلى مقاطعته إلى أبد الآبدين، بل سنوقف مقاطعتنا إيّاه ما إنْ يعلن رفضه أداءَ عروضه في «إسرائيل» أو تراجعَه عن ذلك... بل نحن لا نشترط أن يعلّل سبب ذلك الرفض أو هذا التراجع!

[**5ـ ألا تعني مقاطعة كلّ نشاط يقام في «إسرائيل» مقاطعتنا لركْب الحضارة والحداثة في العالم؟*]

ينبغي أولاً عدمُ حصر معيار الحضارة والحداثة بحضور فرقٍ فنيّةٍ إلى ربوع بلادنا، ولا سيّما إذا كانت تدعم الظلمَ والاحتلالَ، أو تغضّ الطرف عنهما. العكس هو المطلوب : أن نحرص على ألاّ تأتي الحضارةُ أو الحداثةُ على حساب دمنا وكرامتنا وسيادتنا على أرضنا.

ثم إنه، منذ فترة قليلة، لم تعد «إسرائيل» محجّةً لـ «الحضارة والحداثة» في العالم، بل صارت بعد أسطول مجزرة الحريّة بشكل خاصّ، وبفضل نشاط أنصار فلسطين في العالم، موضعًا للتشكيك، إنْ لم يكن للإدانة والمقاطعة الصريحتين. يكفي أن نتابع في هذا الصدد مواقفَ بعض الفنّانين والكتّاب العالميين الممتنعين عن المشاركة في محافل «إسرائيليّة» أو الداعين إلى مقاطعة «إسرائيل» :

فالمغنّي البريطانيّ ألفيس كوستيلّو، الذي فاز بجائزة غرامي خمسَ مرّات، قال إنّ «ضميره» لا يسمح له بالغناء في «إسرائيل». والكاتب البريطانيّ إيان بانكس دعا «كلّ الكتّاب والفنّانين...إلى إقناع «إسرائيل» بانحطاطها الأخلاقيّ وعزلتها الأخلاقيّة، ويُفضَّل أن يكون ذلك عبر عدم التعامل مع هذه الدولة الخارجة على القانون». والناشط والديبلوماسيّ الألمانيّ ـ الفرنسيّ ستيفان هاسِل صرّح بـ «أنّ غياب أيّ عمل حقيقيّ من طرف الحكومات لمحاسبة «إسرائيل» أمام القانون الدوليّ يفسح المجالَ لطريقٍ واحدٍ أمام أصحاب الضمير، هو أن يتنكّبوا بأنفسهم هذه المسؤوليّة، كما حصل ضدّ جنوب أفريقيا العنصريّة». والكاتب السويديّ الشهير هيننغ مانكل حثّ على «فرض عقوبات دوليّة عالميّة على «إسرائيل» أسوةً بجنوب أفريقيا». والكاتبة الأميركيّة العالميّة أليس واكِرْ ذكّرتْ بالمقاطعة التي بدأها مارتن لوثر كينغ وروزا باركس ضدّ شركة الباصات العنصريّة في ولاية ألاباما، واعتبرتْ مقاطعة «إسرائيل» عملاً أخلاقيًّا «للتخفيف من آلام الفلسطينيين والإصغاء إلى أحزان شعبٍ ظُلم طوال عقود». والمغنّية البلجيكيّة المعروفة (ذاتُ الأصول العربيّة) ناتاشا أطلس أكّدتْ «أنّ مقاطعة «إسرائيل» أقوى من قيامي بحفلٍ مناهضٍ لسياسات «إسرائيل»». أما روجر واتِرز، المغنّي والعازف في فرقة بينك فلويد البريطانية الذائعة الصيت، فقد خطّ عبارة «لا لضبط الفكر!» (نو ثوتْ كونترول) على جدار الفصل العنصريّ، مقتبسًا إيّاها من أغنية «الجدار» الشهيرة للفرقة نفسها. هذا ناهيكم بمن ألغى عرضَه في «إسرائيل» فجأةً ومن دون سبب، كعازف الغيتار المكسيكيّ كارلوس سانتانا، أو تعلّل بـ «أسباب مهنيّة»، كالمغنّية والممثّلة الفرنسيّة فانيسا بارادي.

ولم تقتصر المقاطعة على الفنّانين والكتّاب العالميين، بل كانت قد بدأتْ بأشكال متنوّعة من المقاطعة الأكاديميّة في أوروبا بشكل خاصّ؛ فقد ألغيتْ مثلاً معظمُ المؤتمرات الأكاديميّة العالميّة عاميْ 2002-2003 في «إسرائيل». كما شملت المقاطعة النطاقَ الرياضيّ؛ ففي العام الماضي، على سبيل المثال لا الحصر، انسحب فريقُ كرة القدم التركيّ تحت سنّ التاسعة عشرة من مباراة مع نظيره «الإسرائيليّ» عقب مجزرة أسطول الحريّة. أما على النطاق الكنسيّ، فقد تبنّت الكنيسةُ الميثوديّة في المملكة المتحدة، والكنيسةُ المشيخيّة في الولايات المتحدة، مقاطعة منتجات المستوطنات «الإسرائيليّة».

وبكلمة، فإنّ الكيان الصهيونيّ قد خطا الخطوة الأولى على طريق تحوّله إلى دولةٍ منبوذةٍ في عُرف الملايين من المثقفين والفنّانين والأكاديميين والنقابيين والمؤمنين في العالم. وقد آن الأوان لأن يتخلّى دعاةُ الحداثة المصطنعة في لبنان عن نظرتهم الفوقيّة المتكبّرة إلى مقاطعي «إسرائيل» ومقاطعي داعميها. فهؤلاء الدعاة، لا نحن، هم الذين لا يواكبون تحوّلاتِ العصر!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2165418

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165418 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010