الأحد 25 كانون الأول (ديسمبر) 2011

الوحدة الوطنية والقوة الناعمة المصرية

الأحد 25 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par شعيب عبد الفتاح

ظلت مصر عبر تاريخها الطويل نموذجاً فريداً في احترام كافة الأديان والعقائد، فهي من الدول القليلة التي اعتنقت الرسالات السماوية الثلاث، لذا تزخر ربوعها بالآثار اليهودية والمسيحية والإسلامية التي ظلت جميعها باقية منذ بنائها وحتى اليوم في تقديس تام لدور العبادة واحترام شديد لأهلها ومعتنقيها .. من هنا كانت الوحدة الوطنية بين أبناء النسيج المصري الواحد هي أيقونة القوة الناعمة المصرية التي تفاخر بها بين أمم الأرض وشعوب العالم.

ليس من قبيل المبالغة القول إن الوحدة الوطنية المصرية كانت أساس توحيد مصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، حين أقام المصريون رغم تعدد معتقداتهم أول دولة مركزية وأمة واحدة موحدة في التاريخ الإنساني على يد الملك (مينا) عام 3200 ق .م . وأن قبول واحترام الآخر المختلف دينياً كان ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا وهو المعروف تاريخياً باسم «وحدة القطرين» أو «وحدة الأرضين»، حيث سُمح ببناء معابد آلهة كل من سكان الصعيد، وسكان الدلتا على أرض الآخر، بعدها عرف المصريون «الإله الواحد» وعرفوا بأمة التوحيد الأولى في التاريخ الإنساني، وبزغ فجر الضمير البشري على حد قول المؤرخ المعاصر الكبير «جون برستيد» في كتابه السفر عن مصر «فجر الضمير». ومع مطلع الرسالات السماوية كانت مصر طرفاً دائماً في قصة التوحيد بفصولها الثلاثة وحسب جمال حمدان كانت لموسى قاعدة ومنطلقاً، ولعيسى ملجأ وملاذاً، بينما كانت مع النبي محمد هدية ونسباً.

ففي البداية جاءها إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام، وجاءها يوسف الصديق ومن بعده الأسباط اليهود، وولد على أرضها موسى عليه السلام نبي اليهودية، ثم جاءتها العائلة المقدسة وقت أن كان عمر السيد المسيح (عامين)، وقد مرت العائلة بثلاثة مواقع في شمال سيناء، وثمانية عشر موقعاً في وادي النيل ودلتاه، وزارت وادي النطرون في الصحراء الغربية، وجبل الطير في الصحراء الشرقية، وعبرت المجرى الرئيسي لنهر النيل أربع مرات.. بعد ذلك دخل مصر «مرقص الرسول» عام 43 م، وأسس أول مدرسة لاهوتية مسيحية بالإسكندرية.

قدمت مصر «الرهبنة» هدية منها إلى العالم المسيحي، فالرهبنة تقليد مصري أصيل ويعد الأنبا أنطونيوس المصري الجنسية أبو الرهبنة في العالم، وقد ولد عام 251م بقرية قمن العروس مركز الواسطة أسيوط، بعدها انتقلت الرهبنة من مصر إلى فلسطين وبلاد ما بين النهرين وسوريا وإيطاليا وفرنسا وآسيا الوسطى واليونان ثم العالم أجمع.

وفي عام 642 م فتحت مصر أبوابها أمام الدين الإسلامي الحنيف الذي أمن الديار والأملاك ودور العبادة وكفل حرية العقيدة وحرمة الدين. وقد أجمع كل المؤرخين المصريين المسلمين الأوائل مثل ابن عبد الحكم والمقريزي والسخاوي وابن تغري بردي، والكندي، وابن زولاق، والنويري، وابن إياس، وجلال الدين السيوطي، وغيرهم الكثير، أجمعوا على وحدة النسيج المصري الواحد، وأرّخوا جميعاً لوحدة الأمة المصرية، ووصفوا أقباط مصر بأنهم أكرم الأعاجم وأسمحهم يداً وأفضلهم عنصراً.

ويمضي بنا تاريخ الوحدة الوطنية المصرية وإرثها الحضاري العظيم حتى نصل إلى الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، حيث فشل نابليون بونابرت في إثارة النزعة الدينية لدى الأقباط وخابت كل مساعيه في جعلهم طائفة مختلفة.

ومع تولي محمد علي الحكم عام 1805م كان الميلاد الحقيقي لمبدأ «المواطنة» في تاريخ مصر الحديث، حيث دحضت الفتنة الطائفية بإلغاء الجزية المفروضة على أهل الذمة (أقباط ويهود) عام 1855م، وصدر قرار بتجنيدهم ودخولهم الجيش أسوة بالمسلمين دون تمييز ديني أو اجتماعي بين كافة المصريين.

وقام الخديوي إسماعيل بترشيح الأقباط في مجلس شورى النواب، وكذلك قضاة في المحاكم، وأصبح الأقباط قوة حقيقية لها وزنها وقوامها في الأمة المصرية.

ومن المعروف أن الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م اتبع ما يسمى سياسة «فرق تسُد» بين المسلمين والأقباط، وبدأت بالفعل إرهاصات تحويل الأقباط من (ملة دينية) إلى أقلية دينية وسياسية، وحاول الإنجليز إدخال «الطائفية» إلى مصر على غرار ما تمت ممارسته في الهند، وكان الهدف أن يشعر الأقباط بأن الرابطة الدينية بينهم وبين الإنجليز وأوروبا هي أقوى من الرابطة الوطنية بينهم وبين إخوانهم المسلمين شركاء الوطن. وفشل الإنجليز في تحقيق ذلك، كما فشل الفرنسيون من قبل، وصارت «المواطنة» قرينة الدولة المدنية في مصر الحديثة، حيث التف المصريون حول قادتهم الوطنيين بعد قرون من الانطواء تحت القيادات الدينية.

وكانت كتابات الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي التنويرية وتلاميذه هي بدايات مفهوم المواطنة في مصر، وعليها سار مفكرو الثورة العرابية وعلى رأسهم عبد الله النديم خطيب الثورة حيث قال بوضوح «إن العيش الكريم في ظل الاستقلال والانتشار الشامل للوطنية، هو أفضل من العيش المهين ولو كان في ظل وحدة العقيدة». وأبرز النديم في العديد من المقالات والخطب أن الروابط القومية أقوى من الاختلاف في العقيدة الدينية، وهكذا تحدث النديم عن مصر «الدولة الأمة».

وعلى نفس الصعيد جاء البيان الأول للحزب الوطني في 4 نوفمبر 1879م لينص على «أن المسلمين والنصارى وجميع من يرث أرض مصر ويتكلم لغتها إخوان، وحقوقهم في الشرائع والسياسة متساوية».

ودحض الزعيم مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني عام 1907 الفتنة الطائفية، حين قال «وما المسلمون المصريون إلا أقباط غيروا عقيدتهم .. إذن هل يا ترى تغيير العقيدة يكون بالضرورة تغييراً للدماء»؟

ورسخ الأستاذ الإمام محمد عبده فكرة دولة المواطنة المدنية حين أصدر فتواه الفاصلة، والتي تعد من أهم أحكامه على الإطلاق حين قال «علمت أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى الموعظة الحسنة والتغيير من الشر» وكانت هذه الفتوى بمثابة الحصار المبكر للفكر الطائفي والتيار التكفيري.

وكما كانت السلاح الأساسي في المعركة التي بدأها الشيخ علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الصادر عام 1925 ضد محاولة الملك فؤاد بدعم من هيئة العلماء والإنجليز لنقل الخلافة إلى مصر بعد سقوطها في تركيا على يد كمال أتاتورك .. كما لا ننسى أيضاً في هذه الفترة الشعار الوطني الكبير الذي أطلقه أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد وهو أن «مصر للمصريين».

جاءت ثورة 1919م ضد الاحتلال الإنجليزي لتمثل أزهى أحقاب الوحدة الوطنية والمواطنة والدولة المدنية ودولة الأمة المصرية، أمة عمادها أن الاختلاف في العقيدة لا يغير من وحدة العنصر والدم والوجدان المشترك، أمة أسلم فيها من أسلم، وبقي على مسيحيته من بقي، وقد تجلت الوحدة الوطنية في أروع صورها عندما رفعت الثورة شعار «الدين لله والوطن للجميع» وشعار «يحيا الهلال مع الصليب» كذلك عندما وقف الأب سرجيوس خطيباً على منبر الأزهر الشريف ليقول «ليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحراراً» وعندما بادله رفيقه الشيخ القاياتي ووقف خطيباً في الكنائس المصرية.

وتستمر تجليات ثورة 1919م في كشف المعدن الذهبي لهذه الأمة، فعندما قرر الإنجليز نفي سعد زغلول عام 1921 إلى جزيرة سيشل كان البيان الذي أصدره حزب الوفد احتجاجاً على هذا النفي موقعاً من خمسة أفراد (مسلم واحد وأربعة أقباط). وكان أعضاء الوفد المنفيون ستة أفراد (أربعة مسلمين واثنان من الأقباط وهما «سينوت حنا» ومكرم عبيد. كما كان أعضاء الوفد الذين حكم عليهم الإنجليز بالإعدام سبعة أفراد منهم 3 مسلمين و4 أقباط.

ولا ينسى التاريخ أن الأقباط أنفسهم هم الذين رفضوا مبدأ التمثيل النسبي في دستور 1923 مثلما رفضوا من قبل حماية قيصر روسيا لهم وحماية اللورد كرومر، وأن قبطياً مصرياً وهو «عريان يوسف» تطوع لاغتيال رئيس الوزراء القبطي المرشح يوسف وهبة عندما خرج عن الجماعة الوطنية وإجماع الأمة المصرية، وقبل رئاسة الحكومة بإيعاز من الإنجليز، بينما كان سعد زغلول ورفاقه في المنفى، خاصة أن الكنيسة المصرية كانت قد اجتمعت وطالبت يوسف وهبه بعدم قبول رئاسة الحكومة وعدم التفاوض مع لجنة ملنر المعادية للوفد ولشعب مصر.

وجاء العصر الحديث بمفكريه العظام رواد حركة الاستنارة والتنوير، والداعية إلى حفظ السلم الاجتماعي وقوام الأمة المصرية الواحدة ذات النسيج الواحد، من خلال قيام الدولة المدنية، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الطهطاوي والنديم وأحمد لطفي السيد وطه حسين وأحمد شوقي والعقاد، وسلامة موسى، ووليم سليمان قلادة ومكرم عبيد وأحمد عزت عبد الكريم، وجمال حمدان وغيرهم الكثير .. فما أروع من قول المؤرخ والجغرافي الكبير جمال حمدان في كتابه الفذ «شخصية مصر» بأن «جنس المصريين سابق لتميزهم الديني، فالمسلمون المصريون ما هم إلا أقباطٌ أسلم أجدادهم منذ قرون». وقوله «إن مصر تملك من وحدة الدم والأصل أقصى درجة يمكن أن تحوزها أو تحرزها دولة في مثل مساحتها وعددها .. فمن الوحدة اللغوية إلى الوحدة الثقافية إلى الوحدة السيكولوجية، جاء تطور مصر الوطنية .. ووحدة الأصل بين المسلمين والأقباط ليست عملياً إلا تحصيل حاصل ومجرد بديهية، من منطلق أن تكوين مصر العرقي سابق على تكوينها الديني فالأساس القاعدي لسكان مصر أسبق من المسيحيين بأكثر من 3200 سنة، ويعد الأقباط من صميم الكيان الوطني المصري وكتلة رصينة رصيفة من جسم الأمة المصرية شديدة التماسك فيه والالتحام به، والواقع أن مصر لم تنقسم قط داخلياً ولا عرفت التقسيم، ولا هي قابلة للقسمة تحت أية ظروف أو ضغوط، وفي نفس السياق يأتي المفكر الكبير مكرم عبيد أحد رواد الوحدة الوطنية المصرية ليقول إن الأقباط «مسلمون وطناً ومسيحيون ديانة».

وبقول طه حسين في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام 1938 إن الكنيسة الأرثوذكسية هي مجد مصري قديم ومقوم من مقومات الوطن المصري .. وكما يذكر التاريخ بأنها كانت في فترة الاحتلال الروماني لمصر (31 ق.م 640 م) رمزاً للاستقلال القومي المصري ورمزاً للحفاظ على الشخصية المصرية في مقابل غياب الاستقلال السياسي الذي كان في أيدي الرومان.

كذلك فإن الأقباط لا يشكلون أقلية عرقية أو سلالية (اثنية) أو لغوية وهو الأمر الذي ميز الشعب المصري بدرجة عالية من التماسك و التكامل والاندماج الاجتماعي .. وعن ذلك يقول طارق البشري في كتاب «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية» إن الاندماج الحضاري بين المسلمين والأقباط في مصر كان المكون الأصيل للمناخ التاريخي والحضاري والاجتماعي والثقافي والنفسي لتبلور المفهوم القومي للجماعة السياسية المصرية.

ويرى الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود أن الأمة المصرية مرت بأربع حضارات، وهي الآن تعيش الحضارة الخامسة .. أما الحضارات الأربع فتمثلها المتاحف الأربعة : الفرعوني بالقاهرة، والروماني اليوناني بالإسكندرية، والمتحف القبطي بالقاهرة، ثم المتحف الإسلامي بالقاهرة . أما الحضارة الخامسة فهي الحضارة المعاصرة القائمة على الدولة المدنية الحديثة.

وعندما يأتي الحديث عن المفكر البارز دكتور «وليم سليمان قلادة» الملقب بفقيه نظرية المواطنة، نراه قد استطاع أن يحدد بامتياز ملامح نظريته المتكاملة عن المواطنة وذلك في كتابه الرائع «المواطنة» الصادر عام 1999.

وتأتي كلمة البابا شنودة «أن مصر ليست وطناً نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا» كأيقونة مسيحية تجسد في مثال مبهر نسيج مصر الواحد وعنصرها النقي الأصيل .. كما كان الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف معبراً بنقاء خالص عن تلك الروح المصرية السامية في قوله إن على المسلمين المصريين حماية الكنائس مثلماً يحمون المساجد ويدافعون عنها.

وهكذا تظل الوحدة الوطنية هي الدرع الصلب، والحائط المنيع لحماية الأمن القومي المصري من كافة المحاولات التي تريد العبث به، وبنسيج الأمة المصرية الواحد، سواء كانت هذه المحاولات من الداخل أو من الخارج.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 87 / 2165497

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165497 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010