الأحد 25 كانون الأول (ديسمبر) 2011

قراءة في الإعلام (2) : صناعة الخبر

الأحد 25 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par د. عبد الله البياري

«أن تعرف أكثر»... «الرأي والرأي الآخر».

فضاءاتنا الإعلامية الإخبارية مليئة بادعاءات على ألقها الحداثي في عصر الصورة والمسرحة والعالم القرية، وجاذبيتها البنيوية تكنولوجياً، إلا أنها - وإن لم تتعمد - تقدم سيرورة صادقة للإعلام باعتباره يقدم «المعرفة» المراد تقديمها عبر «معرفة» الحكاية، وليس الحقيقة، قابلا بوجود «رأي» و«رأي آخر» ضمن فضاء نفس «الحكاية»، على حساب موضوعية الحقيقة.

إن تلك الادعاءات تستمد وجودها من القول إن «الإعلام هو مرآة الواقع»، بينما ما يقدمه المتن أدناه، يؤسس للإعلام باعتباره «نظام ترميز معرفي يعمل على معالجة الواقع»، وإعادة تقديمه، واختزال المسافة بين «الحكاية» و«الحقيقة»، عبر محاكاة/خلق واقع افتراضي وظيفته خلق فضاء مصادقة على المسرود، وليس فضاءً نقدياً مشتركاً، عن طريق خلق قيمة مرجعية أو معيارية، تستمد روحها من فكرة «الإطار»، وهي فكرة سلطوية في أصلها، تقوم على افتراض بنية ثابتة من استحواذ القيمة والمعرفة، حيث تجعل من صناعة الخبر صناعة قائمة على اختيار جوانب معينة من واقع مدرك، وجعلها الأكثر بروزاً في النص الخبري المسرود، ضمن ذلك «الإطار» المحدد سلفاً، وبالتالي وضع حدود معينة تتحكم في تعريف المشكلة وتفسيرها سببياً، بل وأيضاً تصور سبل حلها، فما يهم في صناعة الخبر هاهنا ليس الخبر كواقع مدرك في ذاته، إنما «الإطار»/ المرجعية / المعيار، فما يقع خارج «الإطار» لا يستحق «الإخبار».

[**إن النظرية الديموقراطية تفترض، وتدعي فيما يتعلق بالإعلام ادعاءين :*]

[**1.*] تقديم المعلومة الصحيحة الكاملة النقية، والمحايدة (غير المتأثرة بالانحيازات السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية، وذلك لتربية الروح النقدية والمساءلة في عقل المتلقي، وبالتالي خلق وعي جمعي أقرب ما يمكن للواقع المدرك موضوعياً.

[**2.*] خلق حيز حواري عام، وفق تعبير يورغن هابرماس، وظيفته استيعاب مختلف الرؤى والتصورات، ومقابلتها وتطويرها وتفعيلها، دفعاً للمشترك العام لاتخاذ مواقف جامعة ومنتجة وليست نابذة /إقصائية ومشتتِّة.

ولكن هذا المفهوم الديموقراطي (القائم على الخلط بين الديموقراطية كإجراء والديموقراطية كغاية)، ينبني في أساسه على الاعتقاد بأن الخطاب الاعلامي يمكن أن يكون متحررا من القيمة المعيارية، متجاهلاً الربط والعضوية بين الخبر والسياق الاجتماعي والثقافي والأهم السياسي «المنتج له»، وهو الربط الذي يؤسس لفضاء تلقي الخبر، إذ أن هنالك نسقا من العلاقات والبنى السلطوية ومؤسساتها، تعمل على الدوام على إنتاج وإعادة إنتاج «أطر المعنى»، فالأحداث الإخبارية تكتسب معناها بالطريقة التي نعتمدها في «عملية الوصف» أو ما يطلق عليه «الإخبار»، في الخطاب.

(مثال ذلك : مراقبة الخطاب الإعلامي والسياسي الخاص ببعض فرقاء الساحة السياسية المصرية قبل الثورة - التي أسقطت طاغية وبقي الطغيان - وبعدها، فالتيار السلفي المدعوم من البترودولار الخليجي، والذي ظل لعقود رافضاً العملية الديموقراطية باعتبارها «كفراً بواحاً»، بل وحرم الخروج على الحاكم حتى و إن ظلم وتجبر، قد تغير خطابه بأن اعتبر بعض رموزه المرشحة لكرسي الرئاسة، مقابلة «كفار» الولايات المتحدة لرموز حركة الإخوان المسلمين في مقرهم بشائر نصر، وهو الذي ظل يحاضر لسنين عن تأملاته في دلالة كلمة «بيبسي» باعتبارها رمزاً إمبريالياً مسانداً للكيان الصهيوني، وضمن نفس الفريق، يخرج علينا بعضهم، بالقول إن «إسرائيل» التي لطالما هددوها، بخيبر وجيش محمد، أصبحت الآن دولة صديقة، لا تستوجب عداءاً ومراجعة لاتفاقيات سياسية، بل ويمكن التحدث العلني مع إعلامها، والفخر بذلك، وبالبحث له عن ضوابط شرعية).

ما سبق يقودنا إلى ما يسمى «الواقع المعالج إعلامياً»، حيث يتم التركيز على «التشكيل» الاجتماعي للمعنى، وذلك «التشكيل» الذي تعمد إليه وسائل الإعلام لنقل موضوعات معينة، بعد إعادة ترتيب تفاصيلها، إلى الخارطة الإدراكية والذهنية الجمعية للمتلقين للخبر، بما يحقق المصلحة للبنية السلطوية وعلاقاتها المركبة والديناميكية وبالتالي : «ما دام لكل نص معنى، فإن بنية هذا النص تقصي المعاني الأخرى بصورة آلية».

وأياً كانت دلائل التحليل الخطابي للنص الإخباري، فيمكننا القول بالتفسير الماركسي لوسائل الإعلام في صورته الغرامشية، المعنية بإعادة هندسة الوعي الجمعي للمتلقي من ناحية، ومن أخرى النظر لوسائل الإعلام باعتبارها أداة هيمنة إدراكية للطبقة البرجوازية، مما يصب في ضمان ديمومة السيطرة الجمعية.

فالخطاب في وسائل الإعلام لطالما كان الهدف منه شرعنة السلطة والحفاظ على الأمر الواقع، بل وتطويع تفاصيل مدركات الواقع للسلطة، والاستتباع للنخبة الحاكمة. وحتى في عصر الفضاء الإعلامي المفتوح لم تنفصل مصلحة السلطة عن مصلحة رأس المال كثيراً.

(مثال من الساحة المصرية أيضاً : كان لتصريح أحد رموز تيار الإخوان المسلمين في مصر في الأحداث الأخيرة، من اعتداءات للجيش على المتظاهرين والمتظاهرات وتعريتهم وسحلهم وغيره من مشاهد عنيفة وغير أخلاقية، بأنها رد فعل طبيعي لمحاولات بعض التيارات اليسارية لتحويل الحراك الثوري المصري إلى «ثورة جياع» - نصاً -، في نوع من التماهي الخطابي لتفاصيل خطاب السلطة السياسية والتنفيذية الحاكمة، فيما يتعلق بوصف المتظاهرين والمعتصمين بـ «البلطجية»، وهو توصيفات طبقية، تصب في استثارة نفس الصور النمطية لدى المتلقين، وهو الخطاب السياسي لفرقاء الإسلام السياسي على الساحة المصرية، والذي اتضح كثيراً بعد فوز ذلك الفريق في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي لا تزال مستمرة، والذي لا يصدر عن اختلاف في الوسيلة لغاية متفق عليها - كما يُدعى - في الحراك الثوري، بقدر ما هو تماهٍ مصلحي مع «السلطة» القائمة عن طريق التوازي الخطابي في قنوات الإعلام «الخاصة»).

إن التفاصيل البنيوية (تركيبا) للخطاب الإعلامي، وتلك التنظيمية (سلطوياً) تتواطآن لإنتاج ما يسمى بـ «الاتجاه السائد»، والذي يقوم على مزاوجة عدمية غير منتجة على الأرض بين الأجندة الإعلامية والأجندة السياسية، لينتج ما يتعارف عليه بعض الباحثين بـ «مجال الخلاف المشروع»، وهو خلاف يتخذ شرعيته من كونه لا يساءل ولا يبحث في ثوابت بعينها، أو سرديات سياسية بذاتها أو حتى شخوص مسؤولة ما.

(مثالان من الساحة المصرية : حيث يسعى «مجال الخلاف المشروع» إلى توجيه الخلاف باعتباره ظاهرة طبيعية - وهو كذلك - إلى الحل و/أو الحلول التي تقترحها السلطة، وليس توجيه الخلاف في كونه مساءلة لشرعية تلك السلطة في حد ذاتها.

كما يمكننا أن نستشف ذلك أيضاً من مجموعة من التفاصيل والأحداث المترابطة، فالضحية الوحيدة لما سمي بـ «كشف العذرية» على المتظاهرات : سميرة إبراهيم، والذي يعد اعتداءاً وجريمة في حد ذاته، لم تلق تركيزاً إعلامياً، مثلما لاقته تفاصيل نشر خبر وصورة فتاة مصرية قررت تصوير نفسها عارية، ونشر صورتها، وهو الحدث الذي يكشف في توقيته وكيفية تناوله شبهة إساءة للدم الشبابي النابض في الحراك الثوري، وهو ما ينطبق أيضاً على الصور الشهيرة لـ«خير أجناد الأرض» (؟!!) وهم يعتدون على متظاهرات أحداث القصر العيني منذ أيام، ويعرونهم ويسحلونهم، تلك الصور التي لولا خروجها عن معية الرصاصة، لم يكن هناك اعتذار من المؤسسة العسكرية، لسيدات مصر الحرائر).

لعل أكثر ما يفسر دور الإعلام والصناعة الخبرية، في وقتنا الحاضر، هو فضاء النظرية الليبرالية التقليدية، والذي يعتقد أن الملكية الخاصة لوسائل الإعلام هي حفاظ للاستقلالية الإعلامية من السيطرة الحكومية، بما يؤسس له ذلك من دور راقبي فاعل (!!!). وذلك بما تفتحه تلك النظرية أمام الخطاب الإعلامي من مجال للمقاربات المختلفة، وهي مقاربات في طبيعتها تنافسية، من الطبيعة التنافسية للنظرية الليبرالية، حيث تمنح المتلقي عديد الخيارات المتقارعة - هكذا يفترض أن تكون - إلا أن تلك النظرة الطوباوية تقع ضحية جشع رأس المال وارتباطه بالمصالح السياسية، والاقتصادية وعلاقاتها المتشعبة والمركبة والناعمة.

(مثال : توتر العلاقة بين السعودية وقطر على خلفية بعض الرسائل الإعلامية على قناة «الجزيرة» الممولة قطرياً، والذي دفع بعض الأمراء السعوديين لتبني مشروع خطابي إعلامي مقابل، تجسد في قناة «العربية»، حيث تشير «النيويورك تايمز» أن زيارة للأمير القطري للسعودية في عام 2008، قد استوجبت مرافقة مدير قناة الجزيرة معه).

وهو ما يفسر ضرورة قراءة الإعلام وصناعته عبر نموذج الاقتصاد السياسي، وهو النموذج المفسر لسيرورة تراكم السيطرة الإعلامية في أيدي فئة قليلة، تحددها هرمية العلاقة بين الإعلام والمال والسلطة، وبالتالي فإن أي «فضاء حواري» لا يتحدد بالمدى الموضوعي للمعلومة والخبر، بقدر ما تحددها المصلحة الإعلامية والاقتصادية والسياسية (السلطوية)، أي أن «الفضاء الحواري» لا يتطرق إلى «تداول السلطة»، أو «العدالة الاجتماعية»، أو «حرية التعبير عن الرأي»، وهي أحد صور الرقابة.

(مثال : روبرت مردوك، وسيطرته على طيف إعلامي واسع، مما اضطر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير للاجتماع به لكسب وده، إبان سيطرته على صحيفة «الصن»، كما يمثل - أيضاً - بيرلسكوني تدليلاً آخر).

وهنا يمكننا الإشارة لنموذج إعلامي، يستحق التوقف أمامه، وهو هيئة الإذاعة البريطانية الـ «بي بي سي»، والتي تعد نموذجاً استثنائياً لفرادته البنيوية وليس لأفضليته التي لا يتسع لها المتن هاهنا، فهي مؤسسة إعلامية ممولة من المال العام، ولكنها غير خاضعة للسيطرة الحكومية، مما يعطيها رصانة ووجاهة فيما يتعلق بالخطاب الإعلامي ضمن فضاء «الممكن».

إن كان وقوع العقلية العربية لعقود، تحت سطوة أبوية عسكرية - في الحيز السياسي والديني والمجتمعي والثقافي -، فهي تجعل من أي مدرك خطابي/إعلامي مدركاً ذاتياً في ذاته لا يقبل المساءلة والتفحص والنقد، إلا أن الأهم من ذلك هو حالة الصلابة والجمود فيما يتعلق بالخارطة الإدراكية والعقل النقدي، اللذين تصطدم بهما «الموضوعية» الخبرية في الخطاب الإعلامي، باعتبارها في حد ذاتها قيمة نسبية. وهنا لا يمكننا إغفال أهمية دور الإعلام وصناعة الخبر في التنشئة والتركيب المجتمعي والسياسي والثقافي والمعرفي والديني، إلا أن الإشارة لأهمية «الفضاء الحواري» للخبر والإعلام لا باعتباره فضاءاً إخبارياً أو إعلامياً بقدر ما هو فضاء نقدي، فالموضوعية يجب أن يعززها العقل النقدي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010