الخميس 22 كانون الأول (ديسمبر) 2011

«ثورة مصر» إجهاض أم مخاض جديد؟

الخميس 22 كانون الأول (ديسمبر) 2011

صار الاقتناع راسخاً لدى قطاع واسع من المصريين بأن هناك من يستهدف إجهاض ثورتهم الشعبية، والتي اندلعت في 25 يناير الماضي ونجحت في إطاحة الرئيس السابق محمد حسني مبارك بعد ثلاثين عاماً متصلة قضاها في حكم البلاد .. وتبدو دوافع هذا الاقتناع واحدة لدى مختلف الفرق، حيث تتركز جميعها في الأحداث المتتالية التي بدا منها أنه كلما خطت الثورة الشعبية خطوة للأمام يعيدها حدث منها للخلف عشر خطوات، وفيما بين أحداث كالمصادمات الطائفية وأعمال البلطجة ثم المصادمات التي صارت سمة الفترة الأخيرة ما بين قوات الجيش والمتظاهرين، تطلق قطاعات مختلفة من المصريين تحذيرات بأن هناك من يستهدف الثورة ويسعى إلى إجهاضها، لكن الحدث يتلو الآخر ليثبت أن أحداً لم يكن يستمع إلى التحذيرات أو يعطي لها بالاً.

آخر تلك الأحداث ما شهده محيط مقر الحكومة والبرلمان منذ يوم الخميس الماضي من مصادمات دامية أسفرت عن مقتل ما يزيد على 13 شخصاً وإصابة المئات، بعد اشتباكات بين عشرات من المعتصمين كانوا يحيطون بالمبنى الحكومي ويمنعون دخول رئيس الحكومة إليه، للإعلان عن رفضهم لحكومة الجنزوري ومطالبتهم بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، وهي اشتباكات بدأت بعد اختطاف أحد المتظاهرين من قبل قوات الشرطة العسكرية المصرية والاعتداء عليه بالضرب المبرح ثم إطلاق سراحه، أدى إلى تأجيج مشاعر المتظاهرين وبدء الاشتباكات بينهم وبين قوات الشرطة العسكرية، وهي الاشتباكات التي ألقى فيها المجلس العسكري باللائمة على عدد من المعتصمين أمام مجلس الوزراء، متهماً إياهم بالاعتداء على ضابط يؤدي واجبه اليومي المعتاد في المرور على عناصر التأمين في داخل وخارج مجلس الشعب «البرلمان»، مؤكداً أن هؤلاء المتظاهرين قاموا بالتعدي على المنشآت الحيوية، والتراشق بالحجارة وأعيرة الخرطوش وزجاجات المولوتوف، ما أسفر عن هدم أحد أسوار مجلس الشعب في محاولة لاقتحامه، بالإضافة إلى تعرض بعض أجزاء مجلس الشورى إلى التدمير وإصابة العديد من الأفراد، إلى جانب احتراق المجمع العلمي المصري، والذي يضم آلافاً من المخطوطات والوثائق النادرة، وهي الأحداث التي جاءت بعد أيام من اشتباكات دموية جرت في شارع محمد محمود القريب من مقر وزارة الداخلية بعد قيام قوات الأمن بفض اعتصام لأسر الشهداء ومصابي الثورة بميدان التحرير بالقوة، وأسفرت هذه الاشتباكات أيضاً عن سقوط مئات الضحايا بين قتلى ومصابين في الجانبين.

الاتفاق على دوافع الاقتناع بوجود محاولات و«مؤامرات» لإجهاض الثورة، لا يخفى أن هناك خلافاً واضحاً وواسعاً في تحديد من يقفون وراء تلك المحاولات، أو من يدبرون بليل لتلك المؤامرات، فهم لدى فريق من المصريين رموز النظام السابق والمحبوسون على ذمة التحقيقات في قضايا فساد وإهدار للمال العام وكسب غير مشروع واستغلال للنفوذ، إضافة إلى آخرين محبوسين على ذمة قضايا تتعلق بقتل المتظاهرين خلال الثورة، وبين هؤلاء وفي مقدمتهم الرئيس السابق حسني مبارك ونجلاه علاء وجمال ووزير داخليته حبيب العادلي وقيادات وزارته، إضافة إلى رجل التنظيم السابق في الحزب الوطني المنحل أحمد عز، وكل منهم يرى قطاع من المصريين أنه ما زالت لديه القدرة على إدارة مؤامرة لنشر الفوضى في البلاد، بدافع الانتقام أو حتى بدافع أن تطال الفوضى السجون ليتمكنوا من الهرب منها.

فريق آخر من المصريين يقتصر على نخبتهم السياسية والمثقفة، يلقي بتبعة الأحداث على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويرى أنه صاحب المصلحة الأول في استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد لإطالة أمد وجوده على سدة الحكم، وراجت في الأيام الأخيرة تحليلات تقول إن رجال «العسكري» غير راضين عما أظهرته نتائج المرحلتين الأولى والثانية من انتخابات مجلس الشعب «البرلمان»، وما أظهرته من تفوق ساحق للقوى الإسلامية ممثلة في حزب الحرية والعدالة «الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين»، وحزب النور «السلفي»، ما يضمن للإسلاميين السيطرة على البرلمان المقبل بأغلبية مطلقة، وبالتالي السيطرة على اختيار اللجنة التأسيسية المنوط بها وضع دستور البلاد الجديد، وذلك على الرغم من حالة التقارب الواضحة بين المجلس العسكري والقوى الإسلامية في البلاد وترجيح الجيش الاختيار الذي دعمته هذه القوى بإعطاء الأولوية لإجراء الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية وقبل وضع الدستور الجديد، وفي المقابل فإن أعداداً من المثقفين والسياسيين يرون في المقابل، وعلى عكس سابقيهم، أن رغبة المجلس العسكري في الاستمرار في الحكم لا ترتبط بالانتخابات أو نتائجها، وأنه لن يتخلى بسهولة عن حكم البلاد، مشيرين إلى أن تصاعد الأحداث بهذا الشكل ووصولها إلى حد استهداف مؤسسات حكومية وسيادية كمبنى الحكومة ومباني البرلمان، ربما ينتهي بإقدام الجيش على إعلان الأحكام العرفية في البلاد، ما يعني إجهاض خريطة الانتقال الديمقراطي للسلطة، والتي حدد المجلس العسكري نهايتها بانتخاب رئيس للبلاد قبل نهاية يونيو المقبل.

ويبدو رد فعل جماعة الإخوان المسلمين إزاء الأحداث معبراً عن خشيتها من أي تراجع عن استكمال الانتخابات، حيث تركز في بياناتها وتصريحات قادتها بشأن الأحداث على التحذير من أي تراجع عن استكمال «المسار الديمقراطي»، والذي ترى الجماعة أنه بدأ أولى خطواته بإجراء الانتخابات التشريعية، معتبرة في الوقت نفسه أن تكرار الحوادث المؤسفة بهذا المعدل الكبير، وفي أوقات شديدة الحساسية، وكثرة الضحايا والمصابين تقطع بأن هناك قوى يضيرها نجاح الثورة وتحقيق أهدافها في الحرية والديمقراطية والعدل والعدالة الاجتماعية، وأن هذه القوى لن تكف عن مؤامراتها، محملة ما وصفته بغياب الشفافية والتستر على نتائج التحقيقات السابقة والبطء في محاسبة المخطئين ومحاكمتهم بإغراء تلك القوى بالاستمرار في إثارة الفتن والاضطرابات في البلاد.

البحث عن صاحب محاولات إجهاض الثورة الشعبية لا يتوقف عند قطاع آخر من المثقفين المصريين وعامتهم عند الأطراف الداخلية لكنه يمتد إلى ما هو أبعد، وإلى أطراف دولية وإقليمية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل»، وهو ما يظهر بشكل واضح في مؤلف أخير للاقتصادي الكبير الدكتور سمير أمين، والمعنون بـ «ثورة مصر وعلاقتها بالأزمة العالمية»، حيث يؤكد الاقتصادي المعروف أن الرئيس الأمريكي أوباما وإدارته وضعا خطة لإجهاض الثورة المصرية وأن الاستعمار الرأسمالي يضع ثورة مصر الشعبية بين خيارين لا ثالث لهما، فإما «العلمانية الفاسدة غير الديمقراطية أو الفاشية الدينية»، ويرى أن ذلك يستهدف، ضمن ما يستهدف، ضمان السيطرة على قلب الأمة العربية الذي أثبت أنه لا يزال نابضاً بثورة 25 يناير.

ويقول أمين : إن أوباما وحلفاءه في «إسرائيل» دعموا الاستعجال في الفترة الانتقالية في مصر «بغرض أسلمة السياسة والمجتمع والإغراق في التأويل المُتجمد السلفي للإسلام»، ويخلص من ذلك إلى أن تنفيذ ذلك على أرض الواقع المصري «يضمن عجز المجتمع عن مواجهة فاعلة لتحدي العصر، ما يقود في النهاية إلى إجهاض ثورة مصر ونهضتها»، مشيراً إلى أن خطة إجهاض الثورة المصرية كانت تتضمن «مرحلة انتقالية قصيرة يبقى نظام الحكم خلالها في أيدي الطبقة الحاكمة ذاتها في مصر، بعد الحفاظ على الدستور الحالي بتعديلات تافهة، وانتخابات سريعة عاجلة تضمن مساهمة الإخوان في البرلمان واستمرار النظام»، مؤكداً أن هناك وثيقة أمريكية تم تداولها مؤخراً وتؤكد أن هذه هي بالفعل الخطة الأمريكية.

يوضح أن جزءاً من الخطة تم تنفيذه بالفعل بإجراء استفتاء على الدستور في مارس/ آذار الماضي، مؤكداً أن الولايات المتحدة تعتقد أن النموذج الأفضل للتطبيق في مصر، هو النموذج الباكستاني، لا التركي، حيث الأول يضمن أن يقدم النظام الجديد في مصر تنازلاتٍ في المجال السياسي، على رأسها احترام شروط السلام مع «إسرائيل»، والامتناع عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في مواجهة التوسع الاستيطاني «الإسرائيلي» في الأراضي المحتلة، واستمرار التبعية الاقتصادية للعولمة واقتصادها.

فريق آخر من المصريين يضم هذه المرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الوزراء الدكتور كمال الجنزوري، وهو يتبنى كالعادة اتهام طرف ثالث، لم يسمه باستهداف إجهاض الثورة والوقيعة بين الجيش المصري وقوات الأمن من جهة والمتظاهرين من جهة أخرى، وهو ما تبناه رئيس الحكومة في خطابه حول الأحداث، حيث أكد أن ما حدث يشير إلى أن هناك أطرافاً لا تريد للتحسن الأمني الذي كان قد بدأ يحدث خلال الأيام الماضية أن يستمر، واصفاً ما يجري في الشارع المصري بأنه «ليس ثورة وإنما التفاف على الثورة»، مبرئاً قوات الجيش الموجودة داخل مجلسي الوزراء والشعب «البرلمان» منذ 28 يناير/ كانون الثاني الماضي من استخدام أي طلقات نارية، وقال إن من خرج في الأحداث الأخيرة من قوات الأمن كان يستهدف وضع الحواجز والأسلاك الشائكة للفصل بين المشتبكين، وأن الطلقات النارية خرجت من داخل المعتصمين، مؤكداً أنه كرئيس لحكومة «إنقاذ الثورة٢ يحاول إسراع الخطى لتحقيق العديد من الأمور، وعلى رأسها تحقيق الأمن بالشارع وتحريك عجلة الإنتاج حتى يشعر بها المواطن.

في مقابل حديث المؤامرات والسعي لإجهاض الثورة الشعبية فإن قطاعاً لا بأس به من السياسيين والمثقفين المصريين يرى أن ما يجري في البلاد هو مخاض لولادة جديدة في البلاد تقود إلى تطهير البلاد من بقايا النظام السابق، وتؤسس لنظام ديمقراطي، وبنى عدد من هؤلاء على ذلك دعوتهم إلى المسارعة بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتخابات مجلس الشورى «الغرفة الثانية من البرلمان» على أن ينتهي ذلك في موعد أقصاه 25 يناير/ كانون الثاني المقبل، ما يوافق مرور عام على اندلاع الثورة المصرية، وهم يرون في إنجاز ذلك تعجيلاً بنقل السلطة من العسكريين إلى رئيس منتخب، ما يحقق واحداً من أهم مطالب الثوار، ويمهد لتحقيق بقية المطالب، خاصة ما يتعلق منها بالعدالة الاجتماعية، فيما يدعو آخرون لتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية تختص بوضع قواعد المحاسبة وتطهير مؤسسات الدولة وضمان عدم تكرار الجرائم والانتهاكات وتعويض الضحايا وتخليد ذكرى الشهداء.

حال مصر التي يتجاذبها حديث المؤامرات عن إجهاض ثورتها وتفاؤل القليلين بأن يكون ما تشهده مخاضا لعهد جديد دفع بالعالم الكبير الدكتور أحمد زويل إلى أن تغالبه دموعه وهو يطرح مبادرة للخروج مما وصفه بحالة الهمجية والعشوائية التي وصلت إليها البلاد، مشيراً إلى أن العالم يرى مصر في صورة متناقضة الآن، بين ثورة يناير العظيمة، وهمجية وعشوائية ما يحدث الآن في الميادين، مطالباً بالوقف الفوري لحالة العنف في الشوارع، وانصراف الشباب الموجودين بالميادين الآن إلى هدنة حقيقية، وإعلان الحركات الشعبية بوضوح عدم التواجد في ميادين مصر، ليمكن حصر البلطجية، مؤكداً أن على الشعب المصري التركيز على وضع دستور مبني على قيم العدالة الاجتماعية والمواطنة والتغيير الحقيقي للبلاد، وقال العالم الكبير : أريد أن يظل العالم مذهولا بثورة مصر وشعبها العظيم بعد 50 عاماً من الآن، ولكننا للأسف نضيع هذه الثورة في الحزبية والكلام «مع أن مصر أكبر من ذلك بكثير».

- **المصدر : صحيفة «الخليج» الإماراتية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 54 / 2165820

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165820 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010