الخميس 22 كانون الأول (ديسمبر) 2011

الثورات العربية والقضية الفلسطينية

الخميس 22 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par منير شفيق

سؤال أخذ يتردّد على لسان الصحفيين في لقاءاتهم مع المهتمين بالشأن الفلسطيني : ما هو تأثير الثورات العربية على الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية؟

الدافع للسؤال يعود إلى انكباب الثورات على الوضع الداخلي القطري، بالرغم من أنّها ذات طابع عربي، وإلاّ لماذا سميّت الثورات العربية أو «الربيع العربي»؟!

لا شك في أنّ القضية الفلسطينية غابت عن الشعارات التي راحت تركّز على إسقاط النظام أو تلك التي ركّزت على إصلاح، عدا في بعض الأحيان القليلة والمحدودة. وكان الأمر كذلك، غياب الشعارات التي تهاجم أميركا، وما لعبته من دور «الحليف» الأول لأنظمة أُريدَ إسقاطها أو إصلاحها.

هذه الظاهرة من حيث ما ركّزت عليه الثورات، وما غاب عن شعاراتها، يمكن أن يكون مفهوماً ومسوّغاً في معركة قاسية تتطلب التركيز على عدو واحد، ولا يوسّع بيكار الأعداء حتى لو كانوا وراء سياساته الخارجية والداخلية، بما في ذلك الفساد لأن النصيب الأول للفساد عائد إلى بنوك الغرب وعقاراته وشركاته، ولأن السياسة الخارجية اتّسمت بالتبعية لأميركا والتفريط في القضية الفلسطينية، والقبول باستباحة نظام العولمة لاقتصاد البلاد وثرواتها.

وإذا كانت هذه الظاهرة تدخل في منطق تحديد الأولوية في المعارك والصراعات والحروب، فإنها لا تعني أنّ الثورات تخلّت عن القضية الفلسطينية، أو عن قضايا الاستقلال والسيادة، أو نسيت ما فعلته أميركا في دعم الكيان الصهيوني وحروبه العدوانية أو في دعم أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، أو في احتلالها للعراق وأفغانستان. وهذا مما تأسّس عليه الوعي الشعبي العربي منذ عقود، وهو حيٌ وباقٍ بالرغم من عدم خروجه إلى السطح في مرحلة الثورات وما بعدها. وقد ساعد على ذلك ما أصاب أميركا والغرب من مفاجأة في ثورتيْ تونس ومصر، وما حلّ بها من ضعف في ميزان القوى العربي والعالمي والإقليمي، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية - المالية (الاقتصاد الورقي، الديون، العجز في الموازنات، انتقال الاقتصاد الإنتاجي من الغرب إلى الشرق).

الأمر الذي أفقدها زمام المبادرة، ولم يسعفها لنصرة من اعتُبِروا «الكنز الإستراتيجي» لها وللصهيونية، فراحت تنافق الثورات والديمقراطية، علّها تستعيد مواقعها من خلال ذلك. إنّها عملية لحاق بالثورات، وليس صنعها فيما الهدف إياه.

من هنا يمكن القول أنّ أميركا أصبحت وهي أضعف أشدّ خطراً منها عندما كانت الأقوى، وذلك لأنها تعمل الآن بعيداً من أن تكون المهاجِمة والمبادِرة وفي الواجهة، كما كان حالها، مثلاً في العقد الماضي حين شنّت حرب العدوان على أفغانستان والعراق واحتلتهما، وكانت شريكاً معلناً لشارون لإنهاء ياسر عرفات، وشاركت الجيش الصهيوني في حربيْ 2006 على لبنان و2008/2009 على قطاع غزة.

لقد كانت أميركا وكان الكيان الصهيوني في واجهة الصراع وكان العملاء، أو المتواطؤون يدعمون ويلعبون من ورائهما، أما الآن فالصراع انتقل إلى قوى الداخل وأصبح دور أميركا داعماً لمن يستنجد بها، ومراوغاً لاختراق الثورات وحرفها. وبهذا حملت معادلة الصراع سمات جديدة، وغدا دور أميركا أشدّ تعقيداً، وهي تحاول أن تحقق الأهداف نفسها من خلال الملمس الناعم والتسلل والاختراق والصيد في الماء العكر، والإفادة من حالات الاستقواء بها، أو من حالات الغفلة عن أهدافها ومراميها حين تنافق الثورات فيما الغيظ يأكل كبدها وأكباد حلفائها من الكبار والصغار.

وباختصار، أميركا لا تغيّر أهدافها وطبيعتها، ولا تَماهيها مع الصهيونية سواء أكانت قويّة سافرة العداء أم كانت ضعيفة تُدخل السمّ في الدسم. والأنكى بالنسبة إليها (أميركا)، في هذه المرحلة، يتمثّل في تعاظم الهيمنة اليهودية الصهيونية الأميركية على الكونغرس والإدارة الأميركية وعدد من مفاصل صنع القرار الأميركي. فأميركا بيل كلينتون وبوش الإبن وأوباما غير أميركا روزفلت وترومان وإيزنهاور، ولا حتى أميركا بوش الأب وبيكر، ولهذا إذا ما تحدثت مع مسؤولي أميركا اليوم اعتبِر نفسك تتحدث مع مسؤولي «الايباك» (اتحاد المنظمات الصهيونية الأميركية).

فعلى سبيل المثال لم يسبق لرئيس أميركا (أيام زمان) أن قال ما قاله أوباما حين أعلن «أنّ فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي»، أو حين أعلن غينغريش مؤخراً «أنّ ثمة اختراعاً لوجود شعب فلسطيني».

ومع ذلك فإنّ إدارة أوباما وبعض رجالات الكونغرس يحاولون الآن التقرّب من الثورات العربية ويفتحون باب الحوار مع قواها المختلفة أحزاباً ومنظمات وأفراداً، ويعلنون قبولهم بما تفرزه صناديق الاقتراع ما دامت نزيهة وشفافة حتى لو فاز الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية الأخرى فضلاً عن القوى القومية والوطنية والديمقراطية واليسارية التي كانت على قوائم العداء أو التهميش.

وقد حاول الرئيس الفرنسي ساركوزي أن يسوّغ هذا «الانفتاح» بالقول بما معناه «هل سمعتم الثورات ترفع شعارت ضدّ «إسرائيل» أو أميركا أو الغرب»، وهو بهذا يحاول الردّ على من يقولون لقادة الغرب : لا تنفتحوا على هذه الثورات ولا تأمنوها بل استمرّوا في اعتبار كل الحركات الإسلامية «إرهابية» وكذلك القوى الأخرى من قومية ويسارية، وقد دعمتم حكومات الاعتدال العربي في محاربتها.

ولكن إلى متى يمكن أن تستمر هذه المعادلة التي تتسم، بصورة عامّة، بتغييب الشعارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو بالاستقلال ورفض التبعية؟

الجواب : لن يطول شهر العسل هذا. وبالمناسبة إنّ حضور القضية الفلسطينية أو تغييبها ليست مسألة إرادية فحسب وإنما أيضاً مسألة موضوعية تفرض نفسها شاء من شاء وأبى من أبى، وذلك بمعنى أنّ الممكن للعقل الإرادي أن يعجّل أو يؤجّل، يُبّرد أو يُشعل، ولكن الاحتلال سيظل يتصادم مع الشعب الفلسطيني يومياً، وسيبقى الاستيطان والمستوطنات على تمدّد واستفزاز لا محالة، وستمضي عملية تهويد القدس والحفريات تحت المسجد الأقصى على قدم وساق.

أما من الجهة الأخرى، فإنّ أجهزة الأمن الفلسطيني العاملة ضمن الاتفاق الأمني الأميركي - نتنياهو - سلام فيّاض ومحمود عبّاس ستزداد فضيحة بسبب مطاردتها للمقاومين وكبتها المنتفضين في الضفة الغربية، فضلاً عن وصول ما سمّي باستراتيجية التسوية والمفاوضات إلى طريق مسدود، وبلوغ محاولات الهروب إلى مجلس الأمن أو المصالحة حالة دوران في المكان غير قابلة للاستمرار.

وبكلمة، إنّ الاحتلال والاستيطان والمستوطنين وتهويد القدس والحفريات تحت المسجد الأقصى، والدور المعيب للتعاون الأمني والأجهزة الأمنية، والهروب من مواجهة الفشل لاستراتيجية التسوية، وضرورة انتقال المصالحة إلى الانتفاضة والمقاومة سوف يعيد القضية الفلسطينية إلى الحضور جنباً إلى جنب مع شعارات الثورات العربية، كما سيعيد أميركا إلى موقعها الحقيقي ويكشف كل الزيف الذي تتغطّى به الآن، لأنّها لا تستطيع إلاّ أن تكون هي أيضاً الطرف الداعم للاحتلال والاستيطان وتهويد القدس والتآمر على المسجد الأقصى والطرف المشارك في الاتفاق الأمني، أو قل لا تستطيع إلاّ أن تكون صهيونية.

لهذا فإنّ الثورات العربية ستعود لتصبّ مباشرة في مصلحة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وستعود لتعلي في أقطارها نفسها شعارات الاستقلال والسيادة والوحدة العربية ومناهضة التبعية وإقامة نظام اقتصادي أكثر عدالة في ظل التعاون الاقتصادي العربي والسوق العربية المشتركة، بعيداً من الاقتصاد الليبرالي التابع للرأسمالية العولمية الساقطة.

فالثورات لا يمكن إلاّ أن تُسقِط من داخلها ومن حولها كل ما هو رديء ومنحرف وتابع للخارج، فقضية فلسطين وقضايا الاستقلال والتحرّر والوحدة والعدالة والهوية العربية والإسلامية أصيلة في وعي الأمّة ومصالحها العليا، تماماً كقضايا الحريّة والكرامة وحقوق الإنسان والديمقراطية. فما يحتل منها الصدارة والمركزية لا ينفي القضايا الأخرى والآتي دورها في الصدارة والأولوية. وهذا لا يتم إلاّ من خلال قوى لا يقتصر برنامجها على الحريّة والكرامة فقط.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2181856

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2181856 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40