الأربعاء 21 كانون الأول (ديسمبر) 2011

ملمع الأحذية و«وول ستريت»

الأربعاء 21 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par أمجد عرار

لم يعد رصيف الشارع في واشنطن حكراً على المهاجر البيروفي غوستافو كاربيو الذي يلمع أحذية رجال المصارف من مجموعات الضغط في الولايات المتحدة، تلك البلاد التي غرقت وأغرقت أسواق المال في العالم معها في أزمة مالية تقصم الظهر، إلى إشعار آخر. فالمتظاهرون من الحركة المناهضة لـ «وول ستريت» عرفوا طريقهم إلى الشارع لدوافع أخرى غير تلك التي دعت ذلك البيروفي الفقير للتحالف مع الرصيف طمعاً في بعض الدولارات تنتقل إلى جيبه الممزّق من حذاء يلمع. كاربيو الذي ترعرع في بيرو يعتقد أن احتجاجاً مماثلاً لو نجح في بلاده قد يفضي إلى وضع يبقى أسوأ من الوضع الذي يحتج عليه مناضلو الحركة المتعاظمة ضد «وول ستريت». هكذا يفعل منطق النسبية فعله، إذ ليس منطقياً بنظر هذا الرجل أن يحتج الناس على وضع يتمنى آخرون، في بلد فقير، أن يصلوا إليه وينعموا به. إنه البريق الذي تبهر شدّته عيون من لا يستطيع رؤية ما وراءه من ظلام الرأسمالية الأشد جشعاً في مسار التطور التاريخي.

عندما يتحول ماسح أحذية إلى ما يشبه الماسح الضوئي الذي يصور سطح الصورة، ليس بإمكانه سوى أن يرى الأعمال تسير على أفضل حال، ولن يوصله منظاره الخاص إلى ما وراء الأضواء المبهرة ما دام يكسب قوت يومه من أحذية الشرائح الأعلى في نظام الرأسمالية الذي بدأ يتهاوى مهما أجرى منظروه وخبراؤه من عمليات ضغط على الصدر لإنعاشه.

قد لا تكون «حركة وول ستريت» هي الأداة التي ستهيل التراب على الرأسمالية التي حفرت قبرها بيدها، لكنّها تطلق شرارة البداية لثورة الصراع الطبقي في بلاد أوصلت تناقضاته حد استحلاب الحسم، وهي قد تتبلور أيديولوجياً وتتجه إلى الأفضل تنظيماً طردياً مع اكتشاف قدرتها على التوسّع والتأثير، ولعل التعامل العنيف والقاسي من جانب الشرطة الأمريكية معهم يعكس التوجّس من كرة الثلج. وإذا كان ملمّع الأحذية البيروفي ليس مرتاحاً للثورة على مصدر رزقه، فإنه يمثّل ظاهرة الانسلاخ الطبقي التي لها تجليات في تاريخ الثورات الاجتماعية على نحو متبادل، لكنها لا يمكن أن تكون قاعدة. فهذا النموذج يختزل القناعة والاستكانة كونه عثر على حل لمشكلته الشخصية ولو بالحد الأدنى المتمثل بقوت يومه. وهو لم يأخذ بالحسبان أن الحيوانات تحصل على قوتها أيضاً، وأن الواقع الذي لا تستطيع فيه أن تعرف إن كنت ستحصل فيه على الوجبة التالية يجب أن يتغيّر. وهو لم يدرس تطور النظام الرأسمالي الذي يراكم الثروة في أيد يتضاءل عددها مع الوقت لتتسع بالمقابل الأيادي التي تتشابك بحثاً عن رغيف الخبز فلا تحصل عليه أو بالكاد، وإن كانت ترى في حصولها عليه «فضيلة» بالمقارنة مع ملتقطي غذائهم من أكياس النفايات، وارتكنت إلى هذه «الأفضلية» النسبية سيأتي دورها وتنبش في الزبالة.

وهكذا فإن التواطؤ القائم بين عالم السياسة وعالم المال المتمثل بأعضاء مجموعات الضغط الذين يلجأون إلى كاربيو لتلميع أحذيتهم، سيفضي حتماً بالمنطق الرأسمالي إلى مكننة تلميع الأحذية في سياق الاستغناء عن الأيدي العاملة، كما حصل في عشرات المهن وملايين المصانع التي تخلّت عن الأعداد الكبيرة من العمال نتيجة التطور المطرد في المكننة والأتمتة. ونخشى على مصير هذا البيروفي وأمثاله من صرعة رأسمالية تأتي ببديل للأحذية، كحل يحيل ماسحيها إلى جيش البطالة، ويحمي بعض المسؤولين عن شقاء الإنسانية من «مغامر» معجب بمرتضى الزيدي ابن العراق.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165391

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165391 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010