السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2011

البوعزيزي في الشكّ والرؤية : خلّدوا ناري... لا رمادي!

السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2011

هنا في فلسطين، قبل نحو ألفي عام، صرخ عيسى بن مريم من تلك المساحة البشرية القلقة بين الموت والخلود، بين النبوة والقداسة: «الي الي، لما شبقتني؟» (مرقص 15:34)، أي بالعربية: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟

هنا في تونس، قبل عام واحد، شابه الجلد المحترق عذوبة الصليب، وتصافى العوام إلى مقامات الخواص. بالشكّ أيضا طبعت خاتمة الجسد. «اطفئوني! اطفئوني!»...الذي مشى إلى الحريق، ووطئ موتنا بموته، وصل إلى عتبة التضحية المفجّرة، فساورته البينية، والبينية آلة الشكّ.

سورة التضحية، تنقل الألم إلى دماء الجميع. من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له جسدك كلّه، ودع الصفعة تجلجل في آذان الدنيا. والصفعة إما يقظة أو موت. يموت القديس بها، لنعبر نحن إلى يقظتها. وكذلك الشكّ، من وقود الرسالة. الاختبار الأخير. كالمتصوّف يكاد يهلع مدبرا نحو إغراء الحرير، كلّما تقطعت أحشاؤه من اشتداد الوجد عليه. هو يغلب الشكّ حيث لم يعد من خيار، لنبلغ نحن اليقين، هنا حيث لم يبلغ الحريق الجلدَ بعد.

الشكّ للباحث خيل اليقين، إذا أجاعه أضاع سفره، وإذا اتخمه أخمد فيه بواعث السير. حتى اللحظة الأخيرة. هناك عند نقطة التماس بين وعائه الأول وذاته المقبلة، يبلغ الألم ذروته فيصيح الماضي صيحته الأخيرة، وتفتح أبواب التالي. لا تنكسر القيود إلّا عند أقصى توغّل للحديد في اللحم. مذبح الخوف، قناة الولادة.

سورة التضحية هذه جليّة الملامح. رفض لكليّة الصيغة البشرية. كأننا بكفّة ميزان اللحظة، تميل نحو الفائدة بالموت، لا بالحياة. على قارئها إذاً، أن يبحث عن جواب السؤال البيّن: كيف نعيد الإغراء للحياة؟ من هذا السؤال تنطلق الثورة - الرسالة، كما تنطلق الثورة - المعركة من غضب الدماء. ذكّرنا البوعزيزي، فأعاد لنا القدرة على الحلم، على العمل فوق ركام الأمل. من يسعَ للتغيير طامعا بالنصر، يسعَ لنفسه فإذا أدركه اليأس وجانبه الرجاء، انتحر بكلّه أو بعضه. أما من يدرك أن الفعل النقدي في زمن الحركة، مهما اختلفت تسمياته، لا يقلّ انتماء إلى قوانين الطبيعة عن سعي النحل في الزهور، يأتي ليشبع ما فطر عليه، فيحيي الميت باللقاح ويزاوج بين عبيرين لم يجمعهما مكان، وإذا مات وهب الحياة للذين في قبورها.

يروى عن الشبلي أنه كان يمشي في بغداد، فمرّ بشاب نحيل الجسد يضربه رجال الدولة بالسوط، في عقاب علنّي التم حول مشهده المعذّب نظر الفارغين من عيونهم. فوجد الشبلي الشابّ لا يصيح البتة، وهو يستقبل فوق جلده 99 ضربة سوط، فإذا به يصرخ ألما عند السوط المئة. تعجب الشبلي وقصده سائلا فأجاب الشاب: كان وجه محبوبي قبالة عيني، وقبل السوط الأخير حال رجل من هؤلاء المتعطشين لألمي بين بصري ومحياه، فأدركني ألمي عندما انكشفت عليّ نفسي.

الرؤية تبرّد الشك، إن غابت انصرف المرء إلى ألمه الدائم. لكن لو أدرك ليلى عاشقها لما جنّ، ولولا الجنون لما كانت الحركة.

أما القداسة فليست شيئا في صفات النبيّ، بل في تجليه داخلنا. إن أثمرت في معادلة الشكّ والرؤية صار محمد طه، وعيسى مسيحا. وإن فاق الشكّ البصر حضورا، أو صارت الرؤية صنما يعبد، يضِع التجلّي في وحشة العبثية أو في وهم العقيدة.

هكذا نعيد الإغراء للحياة، بالرؤية والشكّ، بالحلم والسؤال. بالايمان السائر نحو النبوّة لا نحو العبودية. الظلام لا يهزم، نصر الضوء في أن يجدّد نفسه كل لحظة ليبقى لا في أن يطفئ العتمة. لذلك فنحن اليوم لا نشبه أسلافنا. نزار قبّاني تحدّث باسم مجايليه عندما قال إنه «متعب بعروبته»، وجيل البوعزيزي «متعب بوجوده». الجواب عن سؤال التضحية المؤسّسة لن يسلك مسالك الايديولوجيا هذه المرة، بل هو مضطر الى الخوض في جذور شجرة أثمرت سموما، فلا نفع في مجادلة الغصون. وكلّ من يسعى لدون ذلك، يشتري بآية البوعزيزي ثمنا قليلا.

اليوم، بيننا من يريد أن يبني على جثث المضحّين بأجسادهم، كنيسة تسرق رسالة العراة لتبيع عنها نسخا مزورة وتحشو صولجاناتها بالذهب. وبيـننا من يكفّر الأنبياء، لأنه يقتات من الجمود. كلاهما يحتكر النبوّة وقد اصبحت أبوابها مشاعة للعموم. كلاهما يعاند الطبيعة، يعاند الآتي.

لم يكن البوعزيزي تقيا نقيا متعبدا ورعا، بل كان في أغلب الظن متذوقا شغوفا لزجاجات «سلتيا»، البيرة المحلية الرائجة. بل يقول البعض إنه كان ولدا عاقاً. جميل كلّ هذا، فلم يعد مقنعا تجريد النبيّ من قذارة إنسانيته، لم يعد مقبولا تأليه القدّيسين لقتل النبوة في نفوس الثائرين. صياحه وهو يحترق «أطفئوني»، شـكّه في قراره رسالة أخيرة للناس أجمعين. وكأنه يقول: خلّدوا ناري ولا تخلدوا رمادي.

كلّ من يشعل ناره اليوم في شوارعنا العربية، كلّ من يجبرنا على الشكّ والرؤية، كلّ من يرتمي إلى الموت انتصارا لا انتحارا، رسول من الحقّ مذكّر. ليدأب اولو الألباب على اختراع طيف ليلى، ليشتعل الجنون رحماَ لذات إنسانية مقبلة. ولن ينجّنا أحد، ولن تكون القيامة في يوم، بل في كل ساعة.

بين الرؤية والشكّ، لا مكان للخوف. بين الحلم والعمل، لا مكان للأمل ولا لليأس. أما الظالمون المتناحرون فقد تحصن كل منهم بمن استعبد من خائفين.

كلّ عام والثورة بخير، والثوار بين شكّ ورؤية. الظلم لن يفارق الزمان، والخلود للنار. نار البوعزيزي.

- **المصدر : صحيفة «السفير» اللبنانية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2181450

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2181450 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40