السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2011

بوعزيزي في ذكرى اندلاعه الأولى .. يا مُشعِل الحرائق ماذا فعلت بنا؟

السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par نصري الصايغ

لستُ أول من يكتب لك، في ذكرى اشتعالك. سبقني كثيرون، وأحب أن أبدأ رسالتي، بنص كتبه الروائي الجزائري بوعلام صنصال، بمناسبة مرور ستة أشهر على اندلاعك، يوم قررت أن تتحرر من بؤسك المتوحش، بالتطهر من هذه الدنيا، فسكبت على الجسد، نيرانك... فاستضأنا بها، ولا نزال نراك هناك، ولا نزال نسير على ضوئك إلى هنالك... هنالك الذي أمامنا، ولو كان بعيداً وشاقاً ودامياً.

قال لك بوعلام في رسالته : «أكتب لك هذه السطور القليلة لأعلمك أننا مبدئياً بخير». (صح. اننا بخير، برغم الاصابات الكثيرة). «قال المسيح شيئاً: من صنع النبيذ، ليس من يشربه. أنت، يا محمد، النبيل الشجاع، ابن سيدي بوزيد، أشعلت الشرارة. مهمتك قد انتهت، وبقي علينا مواصلة العمل مهما كان الثمن، أكان صليبَ خشبٍ أم حديد، لا فرق. سنقوم بذلك لينعم أولادنا بالسلام». (صح. ما زلنا في الطريق. في وسطها. ولسنا على القارعة ننتظر. إننا نكمل الحرائق. ولا عودة إلى زمن كان قبلك، فقطعت عليه الطريق).

يطيب لي ولك، ان نستذكر نص رسالة أخرى كتبها الروائي اليمني أحمد زين: «عزيزي محمد. سلام لروحك. لا أعرف أين هي الآن، لكن الشعوب العربية تعرف جيداً، أين هي الآن، واي مسافة اجتازت، حاملة أحلامها الجميلة وأملها بحياة كريمة... وكل هذا بفضلك».

مثلهما، أبدأ رسالتي: عزيزي محمد. أسألك، ماذا فعلت بنا، على غفلة منك؟ كنت تريد النجاة بنفسك، لوحدك، من مأساتك، فأخرجتنا معك... نجاتك المأساوية، كانت نجمتنا، وكنتَ المجوس المبشر بالخلاص.

قيل عنك في كتابات فائضة: كسرت حاجز الخوف، وفتحت الباب أمام من كانوا حتى أمس، منذ عام، ينامون وهم يسيرون على أقدامهم، ويخبئون أحلامهم في ثيابهم الداخلية، ويلوكون كلام الاتكال وجمل الصبر وحكم «العين لا تقاوم المخرز». كم كان الخوف عقيدتنا. مارسناه تقية وجبنا. كم كان الحاكم مرعباً؟

أنت، لست صنمنا الجديد. أنت نحن، بصيغة المفرد. كان لا بد من رجل يتقدم الصفوف ويعلن: «كفى»... سمعناها.

قلنا معك: كفى. وخرجنا شعوباً «تريد إسقاط النظام». كم كنتَ جاهلاً يا عزيزي محمد. ما كنت تدرك أنك اندلاعنا، الذي صار عمره اليوم، عاماً كاملاً، بطول قرن.

كسرتَ حاجز الخوف، عندما قلت: «خلص». «كفى». عندما قلت لنفسك، في لحظة تجلي الخلاص الفردي، لا غد بعد اليوم. غدي سيكون صنو أمسي لا أريده. الخلاص الجماعي (الشعبي) مستحيل. هذه شعوب نائمة، لا يوقظها ظلم او استعباد أو قمع. قلت: لن أعود إلى غد يشبه أمسي، كي أهان مرة أخرى كي أقود عربة الخضار، أمضغ اليأس والمرارة، أتشرّد بين الحاجة والفاقة... قلت لن أعود. قطعت «الروبيكون»، كما فعل يوليوس قيصر. لا خلاص إلا بالقطع. قطعت مع حياتك. تماما كما فعل المسيح. بصليبه كانت القيامة. تماماً كما فعل طارق بن زياد : أحرق المراكب. لا عودة إلى الأمس. القتال وحده مراكب انتصاركم. وأنت باشتعالك كانت الانتفاضة، شحذت قريحة الشجاعة. فأنت الأب الحقيقي لهذا الوحي المتدفق، لهذا الإلهام الثري. أنت الأب، وان أنكر البعض ذلك، لاعتيادهم أن يكونوا أبناء الاستبداد، وأبناء الكتب، وأبناء العقائد وأبناء «المقدس» وأبناء الجواري خدم السلطان. أنت، لم تكسر حاجز خوفك فقط، لأن بك تحررنا من الجبن، واندلعنا مثلك، وها هي أمتك تملك قبضتها وتسير إلى حتف الطغاة.

لقد كسرت حاجز الخوف، ولكم كان سهلاً، وان كان باهظاً وثقيلاً. ثقله أخف بكثير من قيود الاستعباد والإدمان على العبودية. قلت: كفى. كفى اعادة انتاج للبؤس والمرارة والخيبة والانكسار واليأس. كفى عيشاً في مقبرة، من الخليج إلى المحيط. كنا نمضغ «القات» واليأس، كنا نلوّن سواد أيامنا، بتفاهات الحداثة، وفقاقيع المهرجانات المنظمة من فوق... كنا نمارس فضيلة الانعدام، خوفا من ان يقبض علينا بتهمة مواطنين، يحبون ويحلمون ويفكرون ويعملون و... يتطلعون إلى الحرية.

عزيزي محمد. لستَ عابراً في حياتنا. أنت مبتدؤنا. قبلك كثيرون سبقوك إلى نهج الانتحار، إلى ممارسة اليأس الجميل. أنت، وُهبت نعمة الإشعاع. اشتعلت فاندلعنا، انتقلت بسرعة الهواتف النقالة، إلى عائلتك، إلى أترابك، إلى مدينتك الباسلة، مدينة الشهداء الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي، مدينة البؤس والبطالة والقمع المنظم... باشتعالك، خرجت من مدينتك إلى الأرياف المحيطة بعاصمة روحك وبؤسك والظلام فيها. وصلت القصرين ثم بلغت صفاقص، ثم دلفت إلى تونس.. وكان من جاؤوا بعدك بواسل في الكتابة. كتبوا له: «ارحل». فرحل.

لقد رحل الطاغية يا عزيزي محمد. لقد فضحت هشاشة حبر الطغاة. إنهم صغار. بن علي تسلّل ليلاً كاللصوص. قبطان الطائرة الأولى، رفض أن يقل الطاغية وعائلته المتمرسة بنهبك ونهب شعبك. قال للاعلام أمس الأول، كيف أنقل من يقتل شعبي؟ سئل: هل كنت تتوقع عقوبة؟ أجاب: كنت أتوقع القتل الفوري. لكنه جبان. وأمنه جبان...

هذا القبطان مثلك. قال: كفى. رفض تهريب بن علي كما تهرب حقائب الممنوعات والمخدرات. وجد له مأوى في بلد مظلم شديد الوطأة على شعبه ومنطقته، خفيف كالريش إزاء غرب يجد في نفطه «المن والسلوى» لمصارفه الاجتياحية.

كشفت يا محمد عجزهم وبؤسهم وعارهم. الطغاة العرب لا يسيرون في بلادهم، خوفاً من شعوبهم، إلا على عكازات أمنية، تصوّب باتجاه «الأعداء» من أبناء شعبك. بن علي كان أولا... مبارك ثانياً... انه يخجل من الظهور أمام الكاميرا في قاعة المحاكمة. القذافي غادر الدنيا وهو مشدوه وخائف ومذعور. والبقية، لا مفر لها. انها لا تستطيع كسر حاجز خوفها. ذعرها يدفعها لارتكاب المجزرة.

عزيزي محمد.

حررتنا من وثن الخوف. والخوف دين السلطة التي تطغى. من دروس الخوف: تقديس الطاغية، تطويب السلطة للرئيس وعائلته. أسماؤهم، أفضل من أسماء الله الحسنى... لا يساء إليهم ولو بالإشارة، أو بالنية، أو بالهمس... الطغيان، لا يستمد شرعيته من الدساتير والقوانين والأعراف والقيم. يستمد شرعيته من خوف الشعب. لذا، يفضل الاذعان لا الاقتناع، يفضل الأمر على المشورة. لا يقبل النصح. يستطيب المدح والامتثال للأوامر. أفضل مواطن عنده، هو المطيع، والطاعة سياسة تؤدي إلى الانصياع. ولأن الطاغية يخاف، يمارس القوة ضد شعبه. يوظف أمنه لإقلاق أمن الناس. يعمم عن قصد، نظام العقوبات الوحشي الذي يمارسه جلاوزته وشبيحته وبلطجيته وزعرانه.. وجماعة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. يوظف الرعب، عبر إشاعة التعذيب والاعلان عنه والتباهي به. ينشر مجموعة من القيم السافلة: «الشجاع متآمر»، «الذكي عميل»، «الكاتب مأجور»، «الوطني خائن»... لا يطمئن الطاغية، إلا لمن يواليه مدى الحياة. لا يريد ولاء للدولة أو الحكومة أو السلطة. يريد ولاء للشخص... كل هذه الوسائل التي ابتكرتها عبقرية الاستبداد الجهنمية، تعمم لتشكيل عقل جمعي يؤمن بأن العجز خير الأفعال والأعمال والأقوال.

عندما قلت «خلص»، كنت قد صوّبت نارك إلى عقيدة السلطة :

الطاعة أولا، التواطؤ دائما، الرضوخ نموذجاً، الخداع وسيلة... وكل ذلك يبنى على إفراغ الإنسان وكرامته، ومنعه من لقمة العيش، عبر احتكار المال والاقتصاد، والانفتاح على النهب المنظم. كل هذا، مصحوب مع مرتبات بائسة وعطالة دائمة، ومكاسب لا يحظى بها الا لصوص السلطة...

أنت يا عزيزي، أنزلت السلطة إلى القاع، فارتفع الشعب إلى الصدارة. «إذا الشعب أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر». ولقد استجاب في تونس. وها هي بوادر السلطة المنبثقة من الشعب، بالانتخاب الحر، تسير على قدميها، رافعة جبينها، وتنشد بملء حناجرها، بإيقاع مهيب: النشيد الوطني... ولكم ذرفنا فرحاً عندما سمعنا هذا النشيد، في جلسة البرلمان التي انتخب فيها رئيس جديد موقت (وليس لمدى الحياة). وكان سجين بن علي، وبعض النواب كان منفياً مزمنا.

أنكر كثيرون منا ريادتك العفوية، لأنك سبقتهم. المثقفون والكتاب والمفكرون والحزبيون والإسلاميون وسواهم، أنكروا ان يكون لك، ثم لمن اهتدى إلى نارك، دور في الثورة... اغفر لهم، انهم أصنام الكتب والأفكار والأقوال الجاهزة. إنهم أهل الكهف العربي، ينتظرون دائما، من يخرجهم من بؤسهم، من الخارج.

لقد كانت كتاباتهم تبشر بالعجز العربي، تنعى بؤس الثقافة، تدلل على تفاهة التراث، تشيّع على الإسلام أقوالا تظلمه، تتهمه بأنه هو العلة... لم يوفروا رواد النهضة. نعتوهم بالاغتراب. لم يوفروا حركات التجديد، وصفوها بالاستشراق.. وفي المقابل، كان البعض يروّجون لازدهار السلف. و«صلنا في ماضينا»، و«أملنا بالعصور الراشدة الإسلامية».

كنا يا عزيزي بؤرة العفن الحضارية. أقنعونا بأن العلة فينا دينا وثقافة وحضارة. فنحن في نظرهم، ظلاميون ومتخلفون وقبائل وطوائف وأعراق وهمج... ولا بد من طاغية يضبط وجودنا... قالوا لنا: البديل عن الاستبداد، هو الفوضى. انهم يكذبون.

كنا يا محمد، في حفلة تأبين لذواتنا. نحن الأموات، ونحن من يرثي كذلك. أقنعونا بأن هذا مبتدؤنا وهذه هي نهايتنا. ثقافتنا تعيد انتاج قيم الجهل والخرافة والاتكال... والشعب غير موجود.

أنت فتحت الباب، فجاء الشعب ليسقط النظام المسؤول وحده، أولاً وأخيراً، عن كل ما حل بنا سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً. انه هو الغول وهو القرصان وهو الذي شوّهنا، وهو الذي أخرجنا من التاريخ، ليستقر فيه، جثة جليلة مكللة بالنياشين والثروات والبطش.

أنت يا محمد، عبرت الحدود العربية، جئت ميدان التحرير، زرت خالد سعيد ومن معه من شباب مصري قرر ان يكون على صورة الاندلاع العظيم. زرت ليبيا، ورأيناك في درعا مع الطفل حمزة الخطيب، رأيناك في اليمن، وفي البحرين... وسنراك حيثما يوجد طغاة.

عبرت جبل طارق. شباب مثلك يقتدون بشباب العرب الثائرين، ينزلون الساحات في دلما دل سول، في لشبونة، في روما، في اليونان. عبرت المحيط، وصلت إلى «وول ستريت». انهم هناك، يقرعون قبضاتهم العارية، لإسقاط الاستبداد الدولي المالي، وإشعال الحرائق في نظام الحرمان والمجاعة والتلوث...

أنت... رجل العام، ولو لم يشاؤوا ذلك.

عزيزي محمد... بعضنا ليس مقتنعاً بك. يقول: هذه الثورة ليست اسماً على مسمّى. انها ناقصة، انها ملغومة، انها مؤامرة، إنها وليدة الغرب... هؤلاء، هم في الأساس، ضد الثورة ومع الاستبداد. قصدوا تشويهك، فباعوك إلى... لا تغفر خطيئة هؤلاء، لأنها من الكبائر (في الإسلام) وتجديف على الروح (في المسيحية) وخيانة لمبدأ الحرية (في السياسة).

عزيزي... لقد رفض هؤلاء أن يشربوا العنب الذي عصرته. قالوا عن خمرتك البهية، كفراً وحراماً دنيئين. صحيح ما قاله المسيح: عاصر العنب ليس شاربه. لكنهم، لانحراف عقولهم ومشاعرهم، حوّلوا الخمرة الجيدة، الموضوعة في جرار الجراح النبيلة، إلى علقم. بات أشقاؤك في دول الظلام الاستبدادي، ملعونين من الأنظمة واعلامها وزبانيتها.

عزيزي محمد. المعركة لا تزال في ألفها. الباء قادمة حتما، وبلوغ الياء البعيدة، لا مفر منه. وإننا لواصلون... انما، نخاف على الثورة من بعضها، عندما يبلغ السلطة. مستنداً إلى مرجعية قديمة، ولا يستند إلى مرجعية الميادين، حيث الحرية هي الحاضر الدائم، وحيث الوطن هو الحاضن المقيم، وحيث الديموقراطية هي آلية العمل للتغيير.

اننا خائفون من انحراف آخر، أشد خطراً. بعضهم، بدلا ان يواجه الاستبداد، بالصدور العارية، فضل الاحتماء بالناتو، واستدراج عروض التدخل من أعداء حقيقيين، جديرين بالجلوس في قنص الاتهام، لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، في العراق وفلسطين (وغزة) ولبنان. ولارتكابهم الأفظع، حماية قتلتنا الطغاة، ودعم جزمات عسكرهم لسمعتنا.

بعض ذلك حدث في ليبيا. وبعضه يحدث في سوريا. لا تبرر وحشية الاستبداد، الاستعانة بوحش غربي. نعرف ذلك، لكن البعض انتهز فرحة الاحتقان، فكاد يصل إلى بيع الثورة، لقاء وهم ضحل.

عزيزي محمد، فاتح العصر الجديد، عصر الثورة الديموقراطية... ونحن إذ نكتب لك، فكي نخاطب أنفسنا كذلك، وكي نذكرها بأن البيان التأسيسي الجديد لهذا العصر الجديد، يبدأ بمقدمة، مختلفة عن تلك التي جاءت في «فاتحة» البيان الشيوعي. إننا نقول، بعدما حررتنا من خوفنا، «لا يعدو ان يكون تاريخ البشرية، هو تاريخ النضال من أجل الحرية، ومن أجل المزيد منها».

تونس اليوم، حرة.. مصر اليوم، حرة.. ليبيا اليوم، حرة (برغم الناتو)، سوريا اليوم، في مخاض الحرية. البحرين كذلك. أما الممالك العربية، فقد داوت استبدادها، بمحاولة رشوة شعوبها المظلومة بعطاءات، كي توفر على نفسها، ثورة متوقعة.

بعد عام يا عزيزي محمد، سنكتب اليك. وتكون الحرية قد افتتحت دولاً وأوطانا وشعوبا. وتكون فلسطين قد استعيدت إلى أرضها...

نستودعك حيث أنت... سلام إلى من التحق بك. وإنا للوطن، وإنا إليه راجعون.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2181102

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2181102 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40