الجمعة 16 كانون الأول (ديسمبر) 2011

الإسلاميون في السلطة : هل تتحقق أهداف الثورة؟

الجمعة 16 كانون الأول (ديسمبر) 2011

لا شكّ في أن الحركة الثورية العربية التي أطلقتها دماء المضحّين بأجسادهم، تحتاج اليوم إلى تفكّر المتميّزين بعقولهم وعلومهم، لأن متطلبات الانطلاق تختلف عن مقومات الانجاز والإنجاح. ويبدو بديهيا في هذا الإطار الاستماع إلى ما تبثه التجربة التونسية السبّاقة، من رسائل يجدر فكّ رموزها للمساهمة في تصويب مسار الثورة داخل مختلف الأقطار العربية.

وتبدأ «السفير» محاولة فتح النقاش حول مغزى هذه الرسائل، بمقاربة البعد الذي يشغل اليوم جلّ المراقبين للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية من المحيط إلى الخليج، أي الدور المتعاظم لما يسمى «الحركة الإسلامية» أو «الإسلام السياسي» بحلّة قديمة جديدة مرتكزة على الإرث المستمد من تجربة جماعة «الإخوان المسلمين». ففي تونس كانت أول انتخابات في عصر الثورة العربية، أنتجت انتصارا لحركة «النهضة» الإسلامية، وضعها في الموقع السياسي السلطوي الأول في تونس.

وليس المقصود هنا، استباق تجربة «النهضة» في حكم تونس، أو قيادتها في المرحلة التأسيسية، علماً بأن الأمين العام لهذا الحزب الإسلامي حمادي الجبالي كلّف أمس الأول بتشكيل حكومة لم يعلن عنها بعد. لكن، بما يتوفر من معطيات عن الطرح الفكري لزعيم «النهضة» وشيخها راشد الغنوشي، ومن تصريحات وتحالفات وطروحات هذه الحركة منذ سقوط النظام المخلوع، يمكن استنباط جزء يسير من المشروع الذي تحمله «النهضة» إلى الحكم.

وسنعتمد في الآتي بشكل محوري على ما يطرحه الغنوشي في مقالة بعنوان «مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام» لما تشمله من أبعاد مختلفة للرؤية «النهضوية». ونشرت هذه المقالة في كتاب بعنوان «مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين» صدر في العام 2010، عن مكتبة مدبولي المصرية بالتعاون مع موقع «إسلام اون لاين» القطري الذي أسسه الشيخ يوسف القرضاوي.

[**الإسلام و«العلمانيون»*]

يقول الغنوشي في معرض رسمه المشهد السياسي العربي الحالي في ما يتعلق بقضية الدين والدولة، إنه «إثر الغزو الغربي لديار المسلمين، وما زرعه من فكر وقيم وأساليب تنظيم حضاري فقد اختلف الأمر، إذ طلعت على المسلمين دعوات في مجال علاقة الدين بالسياسة تروج بينهم لمذهب الفصل بين المجالين». ويعتبر أن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق «تعلق به العلمانيون كما تعلق الغريق بقشة»، منتقدا هؤلاء «العلمانيين» لأنهم بقوا «معرضين عن كل مراجعة لموقفهم حتى بعد أن امتلأ عالم الإسلام بحركات إسلامية قامت على أساس فكرة شمول الإسلام لقضايا الدنيا والدين»، مقدما على ذلك مثل «الجمهورية الإسلامية في ايران والسودان وافغانستان بصرف النظر عن مدى توفيقها في تجسيد مثل الإسلام في العدل والشورى».

ويختم شيخ «النهضة» تعليل حكمه على «العلمانيين» بالحديث عن «انزواء الفكرة العلمانية وتواتر وتفاقم أوضاع فشلها، بما فاقم من تعويلها في البقاء على جهاز الدولة القمعي وعلى الظهير الخارجي».

إذاً، فإن الغنوشي، يشهر بداية اتهامه «العلمانيين» بأن أفكارهم ومعتقداتهم ليست سوى حصاد «زرع» الغزو الغربي «لديار المسلمين»، وبأنهم يعتمدون في استمراريتهم على القمع الأمني والدعم الخارجي. هذا التوصيف لمجمل «العلمانيين» يقلق اليوم المعارضين لـ«النهضة» وحلفائها في النظام، خاصة بعدما صدرت عن قيادات هؤلاء تصريحات تجسّد رؤية الغنوشي، ويقول مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد التونسي العام للشغل فتحي دبك لـ «السفير»: «إنهم يتكلمون عن اليسار بطريقة بن علي، فيتحدثون عن مؤامرات خارجية ومحاولات مزعومة لإغراق البلاد في الفوضى»، مبديا قلقه من توجه «النهضة» نحو إقصاء المعارضين على أساس «أنهم أقلية»، وهذا ما رشح من شعارات مناصري «النهضة» في الشارع التي وصفت المعارضة بأنها «قوى الـ0,00 في المئة».

ويبدو اتهام «النهضة» لـ«العلمانيين» بالاعتماد على النظام القمعي، مستغربا إذا ما قسناه بـ«تعويل النهضة على الآلة الانتخابية لحزب التجمع الحاكم سابقا» كما يصفه المحامي عبد الناصر العويني الذي اشتهر بصراخه «بن علي هرب» في شريط مصوّر كان من أكثر المواد الإعلامية للثورة التونسية انتشارا. ويقول العويني لـ«السفير»، إن «هذه الآلة الانتخابية التي كان يمدّها حزب بن علي بالمال مقابل حشد المؤيدين والمقترعين، تعمل على قاعدة الانتفاع المادي لا على أساس الانتماء العقائدي والايديولوجي. أتت النهضة وقالت لهؤلاء: سنمدّكم نحن بالمال، وتقومون بنفس عملكم السابق لكن لصالحنا».

[**«الديموقراطية» والشورى*]

في ما يتعلق بنظام الحكم يعتبر الغنوشي أن شرعية الحكم في «دولة إسلامية» تستمد من مصدرين: «المرجعية القانونية القيمية العليا»، و«الشورى». ويوضح زعيم «النهضة» أن «أي مصادمة لنصوص الشريعة ومقاصدها تمثل طعنا موجعا في شرعية تلك الدولة من حيث انتسابها للإسلام»، ما يجعل «النص كتابا وسنّة السلطة المؤسسة للدولة الإسلامية».

أما «الشورى» فيعتبر الغنوشي أنها «العمود الفقري في الحكم الإسلامي باعتبارها رمزا لسلطة الامة»، وأنها تقوم على «ترتيبات آليات تجعل أمور الامة بيد الامة». لكن في ظلّ غياب الصيغة الإسلامية الجاهزة لآلية «الشورى» هذه، يبقى ايجاد المؤسسة الضامنة لدينامية «الشورى» هذه، وهنا يرى الغنوشي أن «إسهام التجربة الغربية كان معتبرا» في تطوير «الآليات القمينة بترجمة قاعدة الشورى وسلطان الأمة».

إذاً من المنصف اعتبار أن رؤية «النهضة» لدولة الإسلام «المدنية»، تقوم على عدم مخالفة أحكام الشرع الإسلامي من جهة، واستنباط آلية «الشورى» أو «الديموقراطية» (حكم الشعب) من خلال التجربة الغربية في هذا المجال. لكن ما هي آلية «الشورى» التي اتبعها التحالف الفائز في انتخابات المجلس التأسيسي، وعلى رأسه «النهضة».

يشير دبك في هذا الصدد إلى تأكيد الرئيس التونسي منصف المرزوقي خلال مرحلة التصويت على «الدستور الصغير» أو قانون التنظيم الموقت للسلطات العمومية، تمسكه بعرض الدستور المنبثق عن المجلس التأسيسي على الاستفتاء الشعبي. ويتعجّب مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد العام للشغل، لأن «أعضاء حزب «المؤتمر» الذي يتزعمه المرزوقي نفسه صوّتوا لصالح «النهضة» ضد طرح زعيمهم بعرض الدستور على الاستفتاء». ومن الواضح بذلك، أن «النهضة» توجهت نحو حجب الدستور عن الاستشارة المباشرة للكتلة الشعبية. ويوضح دبك أن «تسوية سياسية حلّت محل التوجه نحو التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب، فقبلت النهضة بمنح المرزوقي صلاحيات رئاسية إضافية قليلة، في مقابل التنازل الضمني عن مطلب الاستفتاء».

في المقابل، يقول عميد المحامين التونسيين عبد الرزاق الكيلاني لـ«السفير»، الذي تصفه بعض الأوساط السياسية بأنه مقرب من «النهضة»، إن «النهضة قدمت تنازلات في قضية توزيع الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث، ونزعت المنحى الوفاقيّ»، مضيفا في الوقت نفسه «تلك هي قواعد اللعبة الديموقراطية، الغالبية هي التي فرضت رأيها بحسب ما هو معمول به في الديموقراطيات العريقة». والحديث عن «قواعد اللعبة» ونموذج «الديموقرطيات العريقة» ليس بمستجد على قيادات «النهضة»، لكن الغنوشي نفسه في معرض حديثه عن ضرورة الاحتكام إلى «المشروعية العليا: الوحي»، ينتقد «سلطان الدولة الديموقراطية العلمانية... فإذا أقرت تدمير شعب ونهب خيراته ولو عبر نشر المخدرات وحروب الإبادة وحتى لو قررت تلويث مصادر الحياة في الأرض كلها كما تفعل الولايات المتحدة اليوم... لا حق للمواطن في الامتناع عن تنفيذ تلك السياسة بينما يحق في دولة الإسلام بل يجب على كل مواطن أن يزن كل سياسات الدولة بميزان الإسلام».

لكن إذا كانت «النهضة» هي الطرف الديني الأبرز في تونس، فمن يقرر مثلا مشروعية رفضها للاستفتاء الشعبي من المنظور الديني؟ من هي المرجعية الإسلامية المستقلة المتوافق عليها في تونس؟ أم هي مرجعية إسلامية عالمية، كالشيخ القرضاوي مثلا؟ أو المؤسسات العلمية في قطر التي كانت أول من زار الغنوشي بعد فوز حزبه في الانتخابات؟

[**الاقتصاد*]

يقول الغنوشي إن «الفكر السياسي» ما فعل «سوى عقلنة الآلهة القديمة، عقلنة العنف والنهب وتنظيم الصراع على الغنائم المنهوبة، وتنظيم توزيعها بين النخب بتفويض شكلي محتال عليه من قبل الجماهير التي أتاح لها النهب الرأسمالي لثروات الشعوب المغلوبة أن تلقي لتلك الجماهير بفتات من الغنائم امتص شحنات غضبها وثبطها عن الثورة»، ويسترسل في هجومه العنيف على النظام العالمي الرأسمالي بالقول إنه «ما دامت الذئاب الرأسمالية قادرة على مواصلة نهبها الخارجي ما توفر منه فضلة تلقيها للجماهير فستظل اللعبة متواصلة والاستقرار قائما وميكانيزم الديموقراطية شغالا».

وينتقد الغنوشي الذي أمضى العقود الأخيرة في لندن، ما يسميه «الدولة الحديثة» التي هي «صنيعة القارون الرأسمالي العامل باستمرار على تهميش الدين... واستئثار الأقلية بثروات ومصائر الأغلبية عبر فصل الاقتصاد والسياسة والثقافة عن الأخلاق والدين تعبيدا للبشرية كلها لديانة السوق وشياطينها». لكن المفاجئ أن الغنوشي في المقالة نفسها يؤكد أن «دولة الإسلام ليست شمولية»، وأن «سلطانها محدود جدا في مجال السلطة المالية، سلطة فرض الضرائب المحددة بالشريعة في قسم كبير منها»، وهو بذلك يناقض ما سبق من قوله عن انتقاده فصل السياسة عن الاقتصاد، لا سيما أن التجربة النيوليبرالية الغربية تؤكد أن تجريد الدولة من الصلاحيات في مجال السلطة المالية، يؤسس لرأسمالية متوحشة، تحكّم الأسواق فعلياً بالشعوب. فهل ستتجه «النهضة» مثلا من منطلق عدم مخالفة الشريعة الإسلامية إلى منع نشاط المصارف غير الإسلامية؟

إلى الآن، المؤشرات تدفع في الاتجاه المعاكس. وكان الغنوشي اجتمع مع مسؤولين تنفيذيين في البورصة التونسية بعد فوزه الانتخابي، «وشجع على القيام بالمزيد من عمليات إدراج الشركات بسوق الأسهم». وأبلغ رسالة لمسؤولي البورصة بأن هذه السوق المالية مهمة للغاية وأن زيادة إدراج الشركات «ضرورية لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي وتنويع اقتصاد البلاد»، كما أكد في تصريحات عدة ان «حزبه يؤيد اقتصاد السوق وتطوير البورصة والاغتناء المشروع لأصحاب الأعمال»، إضافة إلى تأكيد الجبالي أن «رجال الأعمال شركاء في القرار وفي كل الملفات الاقتصادية»، في ظل توجه واضح نحو الإبقاء على الارتهان التونسي للنظام المالي العالمي لجهة العلاقة بمؤسسات كصندوق النقد والبنك الدوليين، ولجهة العلاقة بأميركا التي وصفها الغنوشي بعد فوزه الانتخابي بـ«الصديق التاريخي»، وهي نفسها التي وصفها في مقالته بأنها «تدمر» و«تنهب» و«تلوث»!

لكن في ظلّ هذه التساؤلات الكبرى تتعهد حركة «النهضة» في برنامجها الانتخابي تحقيق معدل نمو سنوي يناهز 7 في المئة خلال الفترة ما بين العامي 2012 و2016، وهو ما من شأنه بحسب «النهضة» أن يرفع الدخل السنوي للفرد بتونس من 6300 دينار (4491 دولارا) في العام 2011 إلى عشرة آلاف دينار (7129 دولارا) في العام 2016.

وهنا يؤكد فتحي دبك لـ«السفير» ان «خطورة النهضة ليست في الشق الإسلامي، لكن الخطر في برنامجها الاقتصادي والاجتماعي»، متسائلا «كيف ستحقق النهضة وعودها بالتشغيل ورفع الأجور؟»، ومحذرا من ارتباط «النهضة» بالأميركيين و«المال الخليجي». ويستدرك دبك قائلا «لا نريد أن نستبق الشعب... لكنني اتوقع أن هذا الشعب سيقف ويقول لهم: ارحلوا!». ويرى دبك أن «الحركة الإسلامية ستموت في تونس. لا في المغرب ولا في مصر ولا في اليمن، بل في تونس، حيث ستثبت أنها غير قادرة على تلبية تطلعات الشعوب».

هو إذاً، مشروع يعوّل على التجربة الغربية في الآلية الديموقراطية، وعلى الشريعة الإسلامية في تحديد التوجه الأخلاقي الأعلى، لكنه ينتقد «الدولة الحديثة» لما انتجته من مآس، ويرفض فعليا استفتاء الجماهير على الدستور التأسيسي للبلاد. يرفض الرأسمالية و«ديكتاتورية السوق»، لكنه يؤكد «صداقته» لهذه السوق، ويبعث الرسائل لطمأنة أسيادها. يقدم أميركا نموذجا عن تناقض «الديموقراطية العلمانية» مع الأخلاق، ويحجّ إلى واشنطن ليكرّس صداقته بها. الثابت الوحيد، عداؤه المطلق للعلمانيين الذين يتهمهم ضمنا بالعمالة للخارج والأنظمة القمعية.

المرحلة تقتضي إذاً، عدم الخلط بين المسار الانتخابي والمسار الديموقراطي، لضمان ألا يتحول فوز «النهضة» في صناديق الاقتراع إلى استفراد بالسلطة يؤسس لديكتاتورية جديدة، فيما يراهن كثيرون على أن الحركة الإسلامية تكتب اليوم بداية نهايتها مع انطلاق تجربتها في الحكم، على أن هذه الأخيرة ستعرّيها من ورقة «الاضطهاد» التي لطالما لعبتها، وتضعها امام اختبار الواقع.

رسالة تونس اليوم: الإسلاميون يثيرون الريبة والقلق لجهة غموض خطابهم وتحالفاتهم وقدرتهم على النهوض بالبلاد، لكنّ الضمانة تبقى في يقظة الشعب بفئاته المتعددة وسهره على التحقيق الفعلي لمبدأ «الشورى» بعزل الحاكم إذا تجاوز حدود تفويضه من الشعب.

- **المصدر : صحيفة «السفير» اللبنانية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2182186

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2182186 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40