الخميس 15 كانون الأول (ديسمبر) 2011

أنا كفاح.. ابن الجبهة الشعبية.. عرفت كارلوس وعملت مع وديع حداد

الخميس 15 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par نبيه عواضة

صوّبت والدته فوهة المسدس نحو رأسها وضغطت على الزناد لتنطلق منه رصاصة الخلاص، مختارة الموت على الوقوع في قبضة رجال الأمن العراقي الذين حاولوا اعتقالها. لحقت الزوجة بزوجها «الشيخ» الشيوعي الذي أعدم قبل انتحارها بأيام غداة انقلاب عبد السلام عارف في العراق. يروي المناضل حسين العطار حكاية استشهاد والدته ووالده وهو يردّ رأسه إلى الخلف مسترجعاً تلك الأوقات بخليط من الحنين والحزن والعزة والفخر.

هو ابن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي بلغت من العمر 44 سنة. قصته قصة واحد من مناضليها يؤمن أن أسوأ ضريبة يدفعها الثائر هي ضريبة التقاعد عن الثورة لا الموت. وهو اذ كان يكشف للمرة الأولى أسرار مرحلة حساسة جداً في العمل الثوري الفلسطيني بداية سبعينيات القرن الماضي، فإنه يرفض أن يظهر بمظهر البطل، فتلك مرحلة صنعها رجال مجهولون، يعيشون بيننا او في بلادهم. وأجمل ما في القضية الفلسطينية أنها استطاعت أن تستقطب شباناً وشابات من مختلف جنسيات العالم لتصبح بذلك قضية الأحرار وجواز سفرهم الحقيقي الذي لم يكن يوما بحاجة الى إذن شرعي او ختم خاص من حراس الحدود.

[**حفيد المرجع الديني.. شيوعي ففدائي*]

كان اسمه كفاح حين ولد في العام 1951. هكذا سماه أبوه نجل آية الله سيد علي سيد عبدالله «بحر العلوم» وأحد أبرز مساعديه في الحوزة الدينية في النجف الاشرف، قبل ان يخلع عمامته وينضم للشيوعيين «كردة فعل» على إعدام الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي يوسف سليمان يوسف المعروف بـ«فهد» في الرابع عشر من شباط من العام 1949.

يبدأ إبن «الشيخ» سرد قصته ضاحكاً فيتحدث كيف ذهبت والدته الى محلية النجف التابعة للانتداب البريطاني بعد ولادته بثلاث سنوات كي تسجله واثنين من إخوانه في دائرة الأحوال الشخصية، فشتمها الموظف بعدما أخبرته بأسماء أبنائها الثلاثة، ساخراً منها لعدم تسميتهم لينين وماركس وستالين. تعود الأم خائبة وتضطر لتستبدل الأسماء. أخوه الأكبر نضال صار اسمه عبد الأمير أما هو فقد أصبح اسمه حسين فيما أخوه جهاد أضحى اسمه جواد. لحقهم آخرون إلى أن باتوا ستة أشقاء.

شب الأولاد على الشيوعية وعلى معاناة الوالد مع التزامه الحزبي والعقائدي حتى يعدم الأب وتنتحر الأم سنة 1963، ليتشردوا بين عائلات عدة تتناوب على الاهتمام بهم. ومن النجف يغادرون الى بغداد ليعيشوا في غرفة صغيرة في احد الأحياء الفقيرة في العاصمة في فقر مدقع يدفع حسين الى ترك مدرسته والتفرغ للعمل لدى إبن عمه في محل لتصليح الأحذية، ومن «أسبوعيته» صار بالإمكان تسيير الحال من دون الاضطرار الى العوز والعناية.

يكبر الأولاد وقد تغلغلت الحكاية في قلوبهم، حكاية القضية الفلسطينية. يستمرون في النضال السري داخل صفوف الشيوعيين العراقيين. حسين يمضي وقته بعد العمل في احد مكاتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بغداد يحفظ الأناشيد الثورية، ويبدي حماسة شديدة لمتابعة الأخبار الواردة عن معركة الكرامة حيث دارت هناك مواجهات عنيفة بين القوات «الإسرائيلية» والفدائيين على الضفة الشرقية لنهر الأردن في 21 آذار من العام 1968 منيت على إثرها «إسرائيل» بهزيمة كبيرة. في حينها كان حسين قد قطع صلته بالشيوعيين ودخل «الجندية» في الجيش العراقي آملا الذهاب مع فصيل بلاده الذي أرسل الى الأردن كي يشارك بالحرب الى جانب الفدائيين لكن ذلك لم يتحقق فبقي في معسكر قرب بغداد.

مع الوقت راحت علاقته تتوطد بالجبهة الشعبية الى أن طلب من مسؤولين فيها الالتحاق بصفوفهم كي يذهب للقتال في فلسطين، وهو كان قد اطمأن حينها الى مصير إخوانه ولم يعد هناك ما يقلقه بشأنهم معتبراً ان التحاقه بالفدائيين يحرره من أعباء الفقر ومن الاستبداد ومن مطاردات النظام، كما أنه كان معجباً جداً بطريقة عمل الشخصية الأسطورية في الجبهة، الدكتور وديع حداد، وقد بدأت أخبار عملياته تملأ الدنيا.

وافقت الجبهة على طلبه، وحدد موعد رحيله من العراق إلى الأردن. ذاك الصباح لم يكن بحاجة الى وداع أحد، حتى بندقيته التي تركها جانباً. نزع عنه ثيابه العسكرية دون طقوس خاصة ولبس ثياباً مدنية وتوجّه الى باحة المدرسة العسكرية التابعة للجيش العراقي، ومن ثم تسلق حائطها وخرج إلى حياته الجديدة في الأردن.

[**إنه كارلوس*]

وصل إلى معسكر كبير قرب مدينة جرش يضم مقاتلين من دول مختلفة عربية وأجنبية. يستعيد اسمه الأول، «كفاح». يذهب مع المجموعات وينفذ عمليات ضد أهداف «إسرائيلية» في فلسطين المحتلة. في المرة الأولى لم يصدق انه يخوض الاشتباك مع حامية إحدى المواقع على الحدود الأردنية قرب الأغوار. عاد مغموراً بالفرح. شعور دفعه أكثر فأكثر نحو الحياة «الفدائية». غدا المعسكر بيته. يعيش وينام فيه. ويتطور فكرياً وعسكرياً ويبني صداقات متينة أبرزها مع شخص أجنبي اسمه الحركي «سامي». كان «سامي» فتى شديد الوسامة وشجاعاً ويتكلم سبع لغات ويبدي مهارة استثنائية في التدريب برغم بدانته وتأخره عن البقية في الركض الصباحي.

تعمّقت لاحقاً العلاقة بين الرجلين اللذين ينقلان مع آخرين الى معسكر في جبال السلط قرب مخيم البقعة الواقع على طريق عمّان - جرش، وهناك يخوضان المعارك جنباً الى جنب ضد الجيش الأردني الذي حاول مراراً وتكراراً اقتحام المعسكر، لكنه في كل مرة كان يفشل. في فترات الهدنة ووقف إطلاق النار اخبر سامي كفاحاً بهويته الحقيقية : انه ايليتش راميريز سانشيز من فنزويلا. سرد له حكايته ووجد فيها كفاح تشابهاً كبيراً مع سيرته إلا لناحية المال. فإيليتش الذي سيشتهر لاحقاً باسم كارلوس كان ابن احد اكبر الأثرياء في فنزويلا لكن أبوه كان يسارياً ومن شدة إفراطه في اليسارية سمى أولاده الأربعة تباعاً باسم «فلاديمير إيليتش أوليانوف لينين». كارلوس، كما نعرفه، حمل الاسم الثاني.

حين عقد اجتماع موسع في أحد المعاقل في جبال جرش شارك فيه مختلف قيادات الجبهة الشعبية، من بينهم جورج حبش وأبو علي مصطفى وليلى خالد ووديع حداد، تقدم الاثنان، العراقي والفنزويلي من وديع وعانقاه وتبادلا الكلام معه. أعجب الرجل بالشابين، وعلى عجل قرر أولاً الانفراد بكارلوس فعقدا اجتماعاً سرياً وتناولا فيه تفاصيل العمل وكيفية التعاون. أسرّ كارلوس لرفيقه كفاح ببعض مما دار مع وديع وأخبره بأنه انتقل الى العمل في فرع العمليات الخارجية التابع للجبهة، ليختفي بعدها كارلوس، ولا يلتقيه كفاح بعد ذلك قط.

ذكراه الحزينة هي أحداث جرش في تموز من العام 1970. أسبوعان لا يوصفان. الموت والجوع والحصار في وادٍ سحيق في آخر جبال جرش باتجاه الأغوار قرب مجرى نهر الأردن، فقد حاصر الجيش الأردني في ذاك العام ما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل من مختلف التنظيمات في واد يبلغ طوله 22 كيلومتراً. كان المقاتل المحاصر يقتات بست قطع من البسكويت المالح في اليوم الواحد، ولا يحصل إلا على القليل القليل من الماء في أشد لحظات الصيف حراً. ومع ازدياد الجوع والعطش كانت قيادة المقاتلين تضطر الى إرسال الأشداء منهم الى النهر المحاذي كي يجلبوا الماء. يتسلل في كل مرة قرابة العشرين مقاتلاً يحملون «غالونات كبيرة» فارغة ويذهبون بها الى النهر فيصلونه ويرمون أجسادهم به، ويتحولون الى أطفال صغار يلهون بالماء، وما ان يفرغوا من ذلك ويهمون في حمل الغالونات الى رفاقهم حتى يشرع الجندي الأردني بقنص وقتل عدد منهم فيما تنجو القلة وتعود بكمية قليلة من المياه للرفاق. يوماً بعد يوم، كان الذاهبون إلى المهمة الأصعب يتساقطون، حتى بلغ عددهم 200 شهيد.

[**حطّموا بنادقكم*]

كل صيغ الاستسلام رفضت من قبل الجانب الأردني الذي أصر على أمر واحد وهو ان يضع الفدائي بندقيته أرضاً ويخرج من الوادي رافع اليدين. وهذا ما حصل لكن البنادق لم تترك سليمة في تلك الجبال القاحلة. أوعز الشهيد أبو علي مصطفى وهو القائد الميداني حينها الى رفاقه بضرورة تحطيم البنادق في الأودية. اجلس مقاتليه في حلقة نصف دائرية وأعطى إليهم تعليماته بتحطيم بنادقهم. أطرقوا، فصرخ بهم : «الآن». وبينما تدوي في الوادي قرقعة التحطيم، رفع أبو علي مصطفى المسدس إلى رأسه لينهي حياته، فسارع القيادي عبد الرحيم الملوح إلى دفع المسدس بعيداً لتخرج رصاصة إلى الأرض. راح الجميع يبكي.

عند رأس الجبل تجمّع المقاتلون واقتيدوا مكبلي اليدين الى معسكر للجيش الأردني فيه مرآب كبير للطائرات الحربية كان أشبه في حر ذاك الصيف بالجحيم. كان كفاح قد أصيب قبلاً فأعطاه الشباب بطاقة هوية لأحد الذين قتلوا على النهر وهو مدني يعمل في الهلال الأحمر الفلسطيني، فنقل على أساس انه المسعف الى المستشفى ومن هناك تمت مداواته من ثم نقل الى سوريا حيث خضع لعلاج إضافي في احد المستشفيات السورية لتستقر حالته ويأتي أبو عمار لزيارته ويعرض عليه الذهاب الى بغداد والاستقرار في وطنه. لم يلتقه جورج حبش في دمشق لأنه كان ممنوعاً من دخول الأراضي السورية.

حصل الرفيق على العضوية «الفتحاوية» برتبة ملازم تحت اسم مزور، وذهب الى بغداد ليمضي إجازة بين إخوانه قبل ان يقطعها ويذهب ثانية الى مكتب الجبهة ويطلب الرجوع الى رفاقه فتعود وتنقله سيارة تابعة لمجلة «الهدف» الى سوريا ومنها... الى بيروت.

[**الى فرع العمليات الخارجية*]

أوصلته السيارة الى قصر صالحة الكائن في منطقة الحمراء في بيروت وهناك التقى ثانية بوديع حداد الذي تذكّره كصديق لكارلوس. كان حداد الطبيب يعاين الجرحى القادمين من معارك الأردن. يشخص حالاتهم ويحوّلهم الى أطباء مختصين في المستشفيات اللبنانية. وكانت سيارة «الهدف» تقل يومياً الجرحى من الأردن الى ان أصبح المكان مكتظاً، فقام وديع «بطرد» من بدأ يتماثل للشفاء ومن بينهم كفاح الذي احتار ومن معه في كيفية التصرف. قرروا بداية الذهاب الى مكتب الجبهة في مخيم شاتيلا، ظنوا بذلك ان وجهتهم سليمة لكنهم لاقوا هناك من نعتهم باليمينية وبالمهزومين والمستسلمين. صعقهم الاتهام فحصل تلاسن كاد يتطور الى عراك لولا استدراكه من قبل احد مرافقي «الحكيم» ويدعى أبو الحكم فاصطحبهم الى منطقة على البحر بين الرملة البيضاء والاوزاعي وهناك تعرفوا الى صياد لبناني راحوا يبيتون عنده في كوخه الذي على الشاطئ.

ظلوا هناك حتى أرسلتُ بطلبهم ونقلتهم الى شقة مقابل الملعب البلدي. كان في الشقة من ينتظرهم : وديع حداد وأبو علي مصطفى وأبو احمد فؤاد والملوح. أفرغ الكل ما في جعبته من كلام حمل الكثير من العتب خاصة على وديع بسبب طرده للرفاق من قصر صالحة وبدرجة اقل على من وصفهم بالمهزومين. بعدما غادر من غادر، بقي في الغرفة أبو علي مصطفى ووديع وكفاح، حيث عُرض على الأخير العمل في قسم العمليات الخارجية اي مع وديع حداد.

أقلته سيارة في اليوم الثاني الى صيدا. كانت المهمة التدرب على الغطس. استقبله «أبو محمد» رجل الظل الأبرز في هذا الميدان. بدا الرجل ودوداً ومفعماً بالحيوية. لا تفارق وجهه ابتسامة تخفي خلفها الكثير من العبء الآتي من كل الاتجاهات. لم يكن كفاح يعرف من يكون هذا الشخص إلا انه اطمئن وارتاح لطريقة العمل معه خاصة بعد ان عرف انه عراقي مثله. التدرب على الغطس كانت الغاية منه التسلل بحراً لتفخيخ سفينة سياحية ترسو في ميناء بيروت وهي مقبلة من ايطاليا واليونان ومن ثم تتجه إلى قبرص ومنها الى حيفا وعلى متنها سياح يحملون جنسيات مزدوجة «إسرائيلية» - أوروبية وبعض هؤلاء يعمل لحساب المخابرات «الإسرائيلية».

أعطاه أبو محمد ثانية «اللوازم» أي جواز سفر مزور وتأشيرة الى أثينا حيث ذهب لخطف السفينة التي ستذهب من ايطاليا الى اليونان فقبرص ومن ثم الى حيفا. لكن العملية فشلت بعدما أقدم احد أفراد المجموعة وهو إيراني على تسليم نفسه الى مركز للشرطة من شدة خوفه. علم الرفاق بالأمر وقبل تسلم السلاح في أثينا غادرت المجموعة بشكل طبيعي الأراضي اليونانية وعادت أدراجها الى لبنان.

يعاود أبو محمد الاتصال به ويطلب منه التوجه الى ايطاليا لمحاولة الاستيلاء على السفينة نفسها، ولكن هذه المرة من خلال الصعود إليها من مرفأ باري الايطالي.

كانت العناصر المساندة والعاملة في أوروبا قد وفّرت كل الاحتياجات اللوجستية وأمنت وصول المجموعة الى المرفأ والصعود منه الى السفينة التي كان على متنها قرابة الف مهاجر يهودي مغربي الى «إسرائيل» يجلسون في الدرجة الثانية. أما أفراد المجموعة فجلسوا في الدرجة الأولى بموجب الحجز الأساسي وهو خطأ لأنهم وهم ينتحلون صفة مواطنين أفغان لا يعرفون كيفية التعامل في الدرجة الأولى على سفينة ترفيهية سياحية لناحية اللباس الرسمي وطريقة الأكل وهم فدائيون قادمون لتوهم من جبال ومعارك طاحنة، الأمر الذي أثار ريبة امن السفينة وقبطانها وسهل عملية مراقبتهم خاصة بعد تمنع العناصر عن النزول مثل سائر «السياح» الى الموانئ التي سبق وتوقفت عندها السفينة.

كانت الخطة استلام السلاح في قبرص، وأن يتمّ تهريبه في آلات موسيقية. لكن القبطان رفض السماح لهم بالنزول واستدعى الشرطة على عجل. ومع صعود الأمن وإخلاء السفينة شرعوا يفتشونهم فلم يجدوا شيئاً ما أثار حفيظة الفدائيين ودفعهم الى افتعال عراك قلبوا في خلاله الطاولة وحطموا الأثاث في حركة الغاية منها هي إبعاد الشبهة عنهم، فاتهموا القبطان بالعنصرية لأنهم «أفغان» «ومسلمون» وشكوا للشرطة ممارساته. وغادروا السفينة في قبرص إلى مطار لارنكا.

[**كوزو اوكاموتو*]

كانت الطائرة اللبنانية على وشك الإقلاع من مطار لارنكا الى بيروت ما استدعى تأخيرها ريثما يتم وصول المجموعة وسط إجراءات أمنية مشددة إليها. سمعوا الكثير من الإهانات اللفظية من ركاب الطائرة بسبب «نقعهم» في الطائرة لساعات ظانين أنهم أفغان ولا يتكلمون العربية.

وصلوا إلى بيروت لينقل كفاح الى بغداد على وجه السرعة لتدريب مجموعة على عملية خاصة وحساسة جداً. لم يكن يعرف طبيعة المهمة، لكنه تفاجأ هناك بالمجموعة اليابانية : كوزو اوكاموتو ورفاقه وعمل على تدريب هذه المجموعة وتحضيرها جيداً ومن هناك ذهبت الى باريس لتصل الى مطار اللدّ على متن طائرة فرنسية وتنفذ عمليتها الشهيرة في مطار «تل أبيب» والتي أسفرت عن مقتل ما يقارب المئة واستشهاد رفيقي كوزو الذي اعتقل بعد إصابته. العملية تلك مثلت فاتحة جيدة في العلاقة بين الرئيس العراقي محمد حسن البكر ووديع حداد فأرسل إليه مساعده أبو جبار ومعه مبلغ كبير من المال (مليون دولار) كهدية من الرئيس العراقي الى الجيش الأحمر الياباني فاستلم وديع الأمانة وسلمها لليابانيين.

[**الاعتقال الأول في ايطاليا*]

بداية العام 1973 ذهب كفاح بجواز سفر إيراني مزور الى ايطاليا لتدمير طائرة «العال» «الإسرائيلية» على مدرج المطار وهي تحاول الإقلاع. كان الحائط الشائك جانب المطار مرتفعاً ومن الصعب إصابة الطائرة بقذيفة «آر بي جي» مما اضطر المجموعة الى اختيار مكان آخر لقصف الطائرة وهو شرفة المسافرين. صعد كفاح ورفاقه الى الشرفة واندسوا بين المسافرين، لكنهم فوجئوا بتغير موعد سفر الطائرة «الإسرائيلية» وهي عادة درجت عليها الشركة «الإسرائيلية» لأسباب أمنية، ما دفع بالمجموعة الى محاولة إطلاق النار، لكن السلاح تعطل الأمر الذي أدى الى انكشاف أمرهم واعتقالهم والحكم عليهم لمدة 12 عاماً. لكن بعد مرور تسعة أشهر تم الإفراج عنهم بموجب صفقة تبادل بين مجموعات وديع والسلطات الايطالية بعدما تم اختطاف ضابط استخبارات ايطالي ومقايضته بالمجموعة فتم الإفراج عنهم الى القاهرة ومنها توجهوا الى العراق الذي أقفل معسكرات التدريب اثر اتهام وديع بالضلوع بمحاولة انقلاب نفذتها مجموعة من الضباط ليتوجّه كفاح الى اليمن.

[**اليمن قاعدة الثوار*]

في تلك الفترة شهدت معسكرات الجبهة الشعبية في اليمن أوسع عمليات تدريب لمقاتلين من دول عدة، أبرزهم مجموعة عبدالله أوجلان المفرج عنهم يومها من سجون فرنسا بسبب حيازة أسلحة لكارلوس والمجموعة الإيرانية يتقدمهم أبو أكرم الحسيني احد المقربين من مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الإمام الخميني الذي التقاه كفاح في النجف برفقة الحسيني، وقد حمّله التحية لوديع والجبهة الشعبية على الدعم الذي تقدمه لمعارضي الشاه، كذلك المرور الساحر دوماً للمناضلة ليلى خالد، فحين يذكرها كفاح يخفض صوته قليلاً متمتماً لكونها المسؤولة التنظيمية عن هذا العمل وأحد العقول المنفذة والمدبرة لمجمل العمليات.

كذلك فإن اليمن أصبح قاعدة لانطلاق عمليات عدة كان من بينها محاولة قصف طائرة «العال» في مطار اورلي، ضرب ناقلة النفط «الإسرائيلية» في مضيق البحر الأحمر، عملية تفجير مصفاة للنفط في سنغافورة تمد الأسطول الأميركي بالوقود. احتلال السفارة اليابانية في الكويت. خطف طائرة تقل 13 وزيراً من منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك». العملية الأخيرة دفعت بوديع للتعلق بساعديه بغصن شجرة وراح يتأرجّح فرحاً ما أن سمع بخبر نجاحها. يومها كان وديع وكفاح وآخرون في الصومال.

وهناك سيُصاب كفاح بالملاريا ويعالجه وديع بعدد من الحقن اليومية وهو في طور تجهيز نفسه للذهاب إلى كينيا، وقبل أن يتماثل للشفاء نهائياً توجّه على رأس مجموعة الى نيروبي. لم يكن من وداع بينه وبين وديع في كل مرة يخرج بها إلا هذه المرة، فقد تعانقا طويلاً ربما لكون العملية في غاية الحساسية ومترابطة مع عملية ثانية هي عملية عينتيبي. كان هدف كفاح إسقاط طائرة «العال» بالصواريخ.

في أواخر الشهر الأول من بداية سنة 1976 وبعد تأخير في الموعد لمرة واحدة، التقى السفير الصومالي يومها في كينيا حسين عبد الله بالمجموعة وأخذهم الى البيت السري على ان يستلموا منه الصواريخ وينطلقوا نحو المطار فموعد الطائرة قد اقترب. استمهلهم السفير قليلاً واصطحبهم أولاً الى حديقة حيوانات وهناك امضوا بعض الوقت قبل أن يصروا على ضرورة التوجه الى المطار. كانت المجموعة مؤلفة من ستة أفراد : الألماني توماس، والألمانيتان برجيت شولز ومونيكا هاسبا، إضافة الى محمود القوصي وإبراهيم توفيق وحسين. ذهبت المجموعة الى المطار ومعها الصواريخ، وما إن وصلوا الى محاذاته حتى وصلت قوى كبيرة من الجيش الكيني، حاولت المجموعة الفرار وحصلت عملية مطاردة تخللها إطلاق نار في بعض الأحيان الى ان وقعت المجموعة في قبضة الجيش الكيني. وشى بهم السفير الصومالي وأبلغ عنهم وحصل على اللجوء السياسي في كينيا لقاء ذلك.

تم احتجاز المجموعة في ظروف سرية وبتكتم شديد من قبل السلطات الكينية. حضر كبار ضباط «الموساد» للتحقيق معهم إضافة الى كبار الضباط من كينيا، ومن هناك سينقلون الى «إسرائيل».

كان التحقيق قاسياً، فقد بقيت المجموعة في العزل وخاضعة للاستجواب لمدة عام ونصف، استخدم خلالها المحقق وسائل التعذيب كافة من التعليق على عمود، الى الربط بالكرسي بطريقة معكوسة، الى وضع سيجارة مشتعلة في الأنف عدا عن الصعق بالكهرباء في أماكن حساسة من الجسد إضافة الى رمي الماء الساخن والبارد. والسؤال الوحيد الذي كان يوجه للمجموعة : هو مسار عمل وديع حداد.

في تلك الفترة حصلت عملية خطف طائرة فرنسية وعلى متنها قادة من الحركة الصهيونية العالمية. تمّ التوجه بها الى عينتيبي حيث بقيت عشرة أيام. فشلت المفاوضات وحصلت عملية اقتحام للطائرة قتل فيها 17 «إسرائيلياً» بينهم أربعة من الرهائن والبقية من الكومندوس على رأسهم قائد الهجوم، فيما سقط أعضاء المجموعة شهداء وكان عددهم ثمانية بينهم لبنانيان والمانيان وأربعة فلسطينيين. على إثرها أعلنت «إسرائيل» ان مجموعة نيروبي تم اعتقالها في عينتيبي. استجوب كفاح على خلفية عملية عينتيبي، لكنه لم يعترف بشيء حتى باسمه وجنسيته العراقية، فقد عرف بها المحققون من خلال لكنته بعدما صادفه أحد المحققين وهو يهودي عراقي، ليعترف لاحقاً ان جواز سفره التركي مزور.

مضت سنوات الأسر العشر على كفاح متنقلاً بين سجون الرملة ونفحة وعسقلان وقد خاض خلالها تجربة مريرة خلف القضبان، وأثناءها جاءه خبر استشهاد رفيق دربه الدكتور وديع حداد، فبكى.

في 21 أيار من العام 1985 نفذت الجبهة الشعبية - القيادة العامة عملية تبادل للأسرى مع العدو، تم بموجبها الإفراج عن أكثر من ألف أسير بينهم حسين.

كل شيء كان قد تغير بالنسبة إليه. شيئاً فشيئاً بدا يدرك حقيقة ذلك أنه خرج الى عالم لم يعد فيه وديع حداد. عالم لم تعد فيه الظروف التي خلقت وديع حداد.

في بداية شهر شباط من العام 1990 وبينما كان في دمشق، التقى بصديقه عمر عبد الستار فطلب منه الأخير التوجه معه الى موسكو. هذا ما حصل. سافر حسين الى موسكو وهناك التقى بمدير مكتب يفغيني بريماكوف وزير خارجية الاتحاد السوفياتي الذي تربطه صداقة قوية بعبد الستار فعرض عليه أمر صديقه.

صبيحة الثامن من شباط من ذاك العام، وقف حسين أمام سلم الطائرة والى جانبه زوجته وطفلاه. توقف للحظات؟ للمرة الأولى، كانت بيده حقيبة صغيرة خالية من السلاح وكان فيها أوراق ثبوتية غير مزورة. نظر الى الحقيبة وابتسم، ثم تأبطها كما تأبطه ذات يوم رفاقه في معسكر الرشيد وصعد وعائلته الى طائرة تابعة للخطوط الجوية الألمانية الشرقية «انتر فلوك» في آخر رحلة لها من موسكو الى برلين وهناك قدم لجوءاً سياسياً في ألمانيا الموحّدة وقد انهار جدارها



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 271 / 2165357

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165357 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010