الثلاثاء 13 كانون الأول (ديسمبر) 2011

معجزة الثورة اليمنية وجحود المثقف العربي

الثلاثاء 13 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par علاء اللامي

لم ينصف الإعلام العربي، ولا نخبة المثقفين والكتاب العرب، الثورة اليمنية، رغم مرور عشرة أشهر على اندلاعها وتقديمها لآلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين والمعوقين. عدم الإنصاف والجحود يتجليان في المتابعة الإعلامية الباهتة للتفاصيل الدامية لتلك الثورة العظيمة، مع استثناء قناة معينة من هذا التقييم، ولكن ليس لموضوعيتها، بل لأنّها سقطت في مطب التحشيد والبروباغندا شبه الحزبية، ونقصد «الجزيرة» القطرية. صحيح أنّ هذه الأخيرة فتحت عينيها واسعتين على الحدث اليمني، وخصوصاً بعد تصاعد الخلافات والاتهامات المتبادلة بين الأسرتين الحاكمتين في اليمن وقطر، لكنّها عادت لتصطف مع زميلاتها في إيلاء الحدث السوري الأهمية القصوى على حساب الحدث اليمني.

تجلى عدم إنصاف المثقف العربي أو ندرة اهتمامه بثورة اليمن، في ندرة الأبحاث والكتابات التحليلية بأقلام عربية، لم تبخل بالكثير من النثر السياسي والتنظيري عن الربيع العربي في مناطق أخرى. وقد ظل «مركز أبعاد للدراسات اليمنية» وحيداً في الميدان، لا يكاد المختصصون العرب من غير اليمنيين، يعلمون شيئاً عن جهوده، هذا إن كانوا قد سمعوا باسمه أصلاً، مع انّه الأول في العالم الذي ينظم ندوة مفتوحة للأبحاث حول الثورة في إحدى ساحات الثورة وبين جماهيرها.

ولو أنّ عدم الإنصاف اقتصر على الإعلام العربي التابع للبترو - دولار الخليجي والحكومات الشمولية، لهان الأمر، وبات قابلاً للتفسير، لكنّه يمتد خارج هذا الإطار، ليشمل بظلاله دوائر معروفة في الإعلام التقدمي والصديق لانتفاضات الربيع العربي إلا ما ندر، فكيف لنا أن نفسر هذا الإهمال وعدم الاهتمام بالثورة اليمنية؟ هل هو عائد - كما قد يقول البعض - إلى الطرفية الجغرافية والسياسية لليمن كبلد تطوقه من جميع الجهات تقريباً الصحارى السعودية ونظامها الأوتوقراطي المتخلف والمعادي علناً للثورة والمتضامن مع جلادها؟ يصطدم هذا التفسير بواقع أنّ اليمن ليس بعيداً كثيراً عن مصر التي شهدت ثاني ثورات الربيع العربي، فلا يفصله عنها سوى البحر الأحمر، وتتشابك سرديتها السياسية المعاصرة مع سردية مصر ذاتها، وقد سُجِلت ذروة هذا التشابك خلال الحقبة الناصرية في ستينات القرن المنصرم.

وفي ما يتعلق بعدم اهتمام المثقف العربي، وتحديداً التقدمي، بالثورة اليمنية المستمرة، كيف يمكن تفسيره؟ هل يتعلق الأمر بنوع من تجاهل ابن المدينة المتبرجز، أو زاعم التبرجز ونظرته المتغطرسة للريف الفقير ولمظاهر التفاوت الحَدَاثي السائدة فيه؟ فإذا صحَّ هذا الاحتمال، وهو سيبقى فردياً حتى وإنْ صحَّ، فهو يهدر السياق الحضاري العريق لهذا البلد «الريف» الذي احتضن قديمُهُ المعجزة الهندسية الأشهر لسد مأرب ومعمار قصورها وغيرها، وأهدر أيضاً حقيقة أنّه بلد لا يقل قيمة استراتيجية عن العراق أو مصر أو الجزائر؟

هل سيحكم البعض على اليمن بالتخلف والتفاوت الحداثي حتى إذا كانت شعارات ثورته أكثر ديموقراطية ومساواتية من غيرها؟ أو حتى إذا كان ثوارها أكثر استعداداً للتضحية من كل تجربة ثورية سبقتهم في العالم، فنراهم يمشون إلى الموت كمن يمشي إلى نزهة؟ إنّ المظاهر الحياتية السطحية، كاللباس النسائي وحمل السلاح الفردي، كثيراً ما تؤدي بالباحث إلى الخلط في ما هو يريد التصنيف والتمييز، وإلى إضاعة الخيط المركزي الذي ينتظم السياقات والأحداث والظواهر فيما هو يبرز خيوطاً أخرى ليست بذات أهمية ويتمسك بها.

من الأمثلة على تلك القراءات المتعسفة وذات النفس الاستشراقي ما كتبته إحدى الموسوعات الأوروبية المفتوحة عن الثورة اليمنية، فنقرأ «ويخشى البعض أن تخرج الثورة في اليمن وغيرها بنتائج سلبية أكثر من إيجابيتها بسبب التوجهات الحزبية والدينية التي يتسلح بها غالبية شباب الثورة كما يبدو جلياً من الخطب والأدعية الدينية الملقاة كل يوم تقريباً داخل الساحات». والمعنى واضح، فكاتب الموسوعة هنا، يحكم على آفاق الثورة اليمنية والنظام الذي تبشر به من صيحات «الله أكبر» وبعض الأدعية الدينية التي يقولها المتظاهر السلمي، سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي، وهو يواجه رصاص جيش آل صالح وليس بناءً على برنامجها الديموقراطي والاجتماعي المعلن.

في السياق ذاته، نجد أمثلة معبرة تُهْمَل وتُطْمَس عمداً. ثمة مثلاً مشهد معبر لا يخلو من الطرافة والدلالات المعبرة عن تداخل القديم والجديد ضمن مسار الثورة، وهو مشهد السيدات اليمنيات المنقبات، وهن يشاركن بكثافة منقطعة النظير في التظاهرات، ويرفع بعضهن صور الثائر الأممي الاشتراكي تشي غيفارا! وبالمناسبة، فقد حرصت فضائيات البترو - دولار الخليجية على حجب هذا النوع من الصور ونقلتها القنوات الأجنبية. إنّ التدقيق ملياً في هذا المشهد، وتفحص مكوناته ودلالاته، سيعطينا مفتاحاً مهماً لفهم هذه الثورة وتحديد جوهرها البرنامجي الحقيقي، بعد نبذ القشور السطحية وتفحص المطالب والشعارات الحداثية الملموسة في الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية التي ينادي بها الثوار في التظاهرات المليونية، المتواصلة دون كلل أو ملل.

بكلمات أخرى : النقاب هنا لا يعدو كونه لباساً تقليدياً موروثاً منذ قرون، وهو موجود في الفوتوغرافيا القديمة التي أنجزها سائحون وعلماء آثار أجانب منذ نهايات القرن التاسع عشر، على أدنى تقدير، ولا علاقة مباشرة له بالنقاب والحجاب «الإسلامي» الذي أشاعته حركة الإخوان المسلمين ومثيلاتها في زمن السادات والثورة الإيرانية. أما تبنّي جماهير الثورة اليمنية من الرجال والنساء للشعارات الديموقراطية والمساواتية الاجتماعية وحقوق الإنسان ودولة المواطنة الحديثة، فهي اللبُّ الحقيقي الحداثي لها، والذي حاول الديكتاتور صالح شخصياً تشويهه وبأخسِّ الوسائل، ثم تجاوز ذلك إلى تشويه سمعة النساء اليمنيات الثائرات، قبل أن يعطي الأوامر لقناصته باستهدافهن مباشرة، فاستشهدت منهن من استشهدت وجرحت من جرحت.

إن فرادة الثورة اليمنية وغناها، لا يتأتيان مما يجود به الإنشاء البلاغي، بل من تعداد حيثيات قابلة للفحص والتحليل والبرهنة، فمن بين ميزاتها الإعجازية مثلاً، يمكن أن نذكر: قدرتها السريعة والواسعة والكثيفة على الحشد في الشوارع والساحات، حتى تمكنت فعلاً من إخراج مدن بكاملها من سيطرة الحكومة سلمياً، ومن هذه المدن يمكن أنْ نذكر شبوة والجوف ومأرب وصعدة وأبين وحضرموت والبيضاء، وأغلب أحياء العاصمة صنعاء. هذه القدرة على الحشد والاشتباك السلمي ليس لها نظير على الإطلاق في الثورات العربية ولا غير العربية، والعجيب، أنّها لا تزال بالزخم شبه الأسطوري نفسه، والاستعداد العالي للتضحية، ولم تفشل مرة واحدة أيةُ دعوةٍ وجهها الثوار إلى مسيرة مليونية!

تتجلى فرادة الثورة اليمنية أيضاً، في إنجازها للعديد من ثيمات برنامجها غير المعلن، فقد حققت الوحدة الوطنية الانتمائية الحقيقية بكسب دعاة الانفصال الجنوبيين وأقنعتهم بالتخلي عن شعاراتهم. كذلك نجحت الثورة في إخراج أغلب القبائل اليمنية من هيمنة وتضليل ديكتاتورية صالح وكسبتها إلى صفوفها حامين ومشاركين. وأخيراً فقد تمكنت الثورة من ضم الحوثيين بعد ست حروب خاضوها ضد ديكتاتورية صالح وأولاده إلى معسكرها، وأصبحوا جزءاً من حراكها العام.

الإنجاز الآخر، الذي لا يقل أهمية عن سابقيه هو الحفاظ على الطابع السلمي للثورة، رغم أنّ البلد يعيش حروباً حقيقية عدّة: الأولى بين جيش آل صالح، وجزء منه انشق عليه ليحمي الثوار، والثانية بينه وبين مجموعات تنظيم القاعدة التكفيري التي يُشَكُّ بوجود علاقات سرية له بها، وحرب ثالثة بينه وبين قوات عدد من القبائل المدافعة عن نفسها داخل العاصمة وفي بعض المدن. ورغم كل محاور العنف المسلح تلك، ومحاولات صالح وحلفائه جرجرة الثورة الشبابية لها، قدمت الثورة اليمينة مثالاً إعجازياً آخر ولا نظير له على التمسك بالطريق الثوري اللاعنفي لها، ودفعت قوافل الشهداء ثمناً لهذا الاختيار.

نختم هذه القراءة التحليلية، الأقرب إلى التحية المتأخرة للثورة اليمنية وثوارها البواسل، بكلمة تتعلق بطبيعة النظام الشمولي المتخلف الذي واجهته. فهو وإنْ كان لا يختلف نوعياً عن الأنظمة المتساقطة كأنظمة مبارك وبن علي والقذافي، أو تلك التي في سبيلها إلى السقوط في الشام والجزيرة العربية، ولكنّه تميز عنها بأنّ الطاغية هنا «صالح» يتمتع بدهاء النصّاب ولاعب الورقات الثلاث الذي يجيد المضاربة بدماء الناس، إضافة إلى قسوة قلب تفوق قسوة قلوب أكثر الطغاة شهرة، وأخيراً جشعه المَرَضِيُّ للسلطة حتى بات لا يستطيع العيش بدونها، حتى لو وقّعَ ألف مرة على التنازل عنها، دون أن ننسى تواطؤ الغرب الإمبريالي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، معه وسكوته الفاضح عن جرائمه التي فاقت جرائم الطغاة الذين سقطوا مجتمعين. بفضل هذه «الخصال» أفلت صالح حتى الآن من عدة مآزق، لكنه يسير بخطوات أكيدة إلى نهايته، وهنا يمكننا أن نجد صدى إصرار ثورة اليمن وثوارها على التمسك بالكفاح السلمي رغم كلّ شيء، لينتصر الدم على السيف في نهايةِ مطافٍ وبداية آخر، فيدخل صالح التاريخ كأبشع جلاد ونصّاب وتدخله الثورة اليمنية كمعجزة جليلة ومضمخة بالدماء أنجزها شباب اليمن.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2165622

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165622 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010