الاثنين 12 كانون الأول (ديسمبر) 2011

شرقي السويس أو قوس الأزمات!

الاثنين 12 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par نصر شمالي

منذ حوالي ثلاثة عقود أطلق الإستراتيجيون الأمريكيون على منطقة شرقي السويس، أو شرقي المتوسط، اسم «قوس الأزمات»، قاصدين بهذه التسمية تحديداً منطقة الهلال الخصيب.

وبالطبع، فإنّ لهذا القوس امتداداته شرقاً عبر إيران، وغرباً عبر مصر، وشمالاً عبر تركيا، وجنوباً عبر الجزيرة العربية، فمثل هذه المصطلحات الاستعمارية العنصرية نسبية وقياسية، حيث لا يمكن رسم قوس محدّد بدقة، يتضمن لوناً واحداً، لأنّ جغرافية البلدان ومصالحها المتداخلة المعقدة يصعب حصرها ضمن خطوط قاطعة، وبالتالي فإن الحدود السياسية لا تستطيع إعاقة تداخلها.

إنّ هذا القوس يعيش اليوم محنة عظيمة، ويجتاز امتحاناً عسيراً. إنّ مصيره لعشرات السنين القادمة يبدو كأنّما هو يتقرّر اليوم، وإنّه ليبدو صعباً التكهّن مسبقاً بالنتائج، بسبب تعدّد الأطراف الناشطة على مسرحه، وعجز أيّ طرف منها عن الحسم المسبق لصالحه بسبب ما طرأ على أوضاع العالم وموازين قواه من تبدّلات عميقة وشاملة، ناهيكم عن دخول مجتمعاته طرفاً أساسياً في الصراع التاريخي الدائر. غير أنّنا، بمعزل عن المحنة الراهنة، نريد الإشارة هنا إلى بؤرة الفعالية المركزية في هذا القوس، سواء أكانت كامنة أم ناهضة، فما الذي نجده عندما نتأمل في بلدانه وفي مجتمعاته؟ إننا نجد شعوباً إسلامية عموماً، تجمعها ثقافة حضارية عريقة، وعادات وتقاليد وذكريات عميقة، وأيضاً معاناة معاصرة مشتركة، ونجد قوة أجنبية مشتركة تقف وراء هذه المعاناة السلبية.

إنّ أحداً لا يجادل في ما أشرنا إليه، ولكن إلى هنا ثم يبدأ الافتراق، حيث حكومات هذه الشعوب المنكوبة، على مدى القرن الماضي وإلى اليوم، لم تفعل ولم تسمح بفعل ما من شأنه بلورة تصور مشترك لسبل الخلاص، فتركت بلدانها متناقضة متعادية، لأسباب تافهة ووضيعة في معظمها، وجعلتها تفتقر الى الحدّ الأدنى من التماسك والتكتل الرسمي المشترك، حيث المواقف الرسمية تتعثّر وتتقلّب وتتخبّط، واضعة الأمور في غير نصابها، وموجّهة الجهود إلى غير اتجاهاتها، الأمر الذي عنى دائماً أزمة مفتوحة عامة يصعب تحديد بداياتها وتصوّر نهاياتها!

لكنّ هذه الأزمات، التي طبعت المنطقة (قوس الأزمات) بطابعها على مدى القرن الماضي وحتى اليوم، ليست جميعها، وفي الأساسيات منها، مجرّد إفرازات محلية ناجمة عن قصور ذاتي وعوامل محض داخلية.

صحيح أنّ المستعمرين وجدوا دائماً مناخاً ملائماً لنجاح سياساتهم العدوانية منذ اقتحموا هذه البلدان، لكنهم حرصوا منذ البداية، عن سابق تصميم وتصور، على رعاية السلبيات، وتنميتها وإشاعتها، وإيصالها إلى حالة الأزمات المفتوحة الغامضة المستعصية، فتعميق التناقضات والخلافات، وتوليد المزيد والمزيد منها، وتأجيج التناحرات والصراعات داخل كل بلد ومع جيرانه، كان في صلب الاستراتيجيات الاستعمارية، وقد نجحوا بالفعل في خلق حالات معقدة، غامضة، يصعب الخروج منها بخطوة واحدة وخلال فترة زمنية محدّدة واحدة، وبعد أن استفحلت مثل هذه الأزمات لم يعد ضرورياً بقاء جيوش الاحتلال، وصار ممكناً إدارة الأزمات من بعيد، من عواصم المستعمرين، وإبقائها مفتوحة على اللانهاية اعتماداً على الإدارات المحلية التي طغت مصالحها على مصالح شعوبها، بل تناقضت معها.

في الآونة الأخيرة بلغ المشهد الرسمي غاية القتامة والتعقيد، من حيث تخبط وتناقض الإدارات العربية والإسلامية، وتعدّد مواقفها المتضاربة، ومن حيث احتمال وقوع تقسيمات جديدة سوف تفرز إدارات وتعقيدات جديدة، والأمثلة كثيرة، نجدها في باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وفي البلاد العربية. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أنّ الكتلة الأساسية من أهلنا الأكراد تعيش في القلب من المنطقة التي اسماها الأمريكيون «قوس الأزمات»، ونجد المستعمرين يستغلّون المعاناة الطويلة للشعب الكردي، ويحاولون توظيفها لخدمة مشاريعهم غير المشروعة بل الخبيثة، وإذا بقتلة الملايين في القارة الأمريكية واليابان وفيتنام يذرفون دموع التماسيح على شهداء المآسي الكردية، ويتجاهلون أننا جميعنا في هذه المنطقة نعاني المعاناة ذاتها.

لقد حدث أنّ البعض أوغل في إدارة الظهر لحقائق التاريخ والجغرافيا، ولوقائع العصر الأوروبي الأمريكي، وأيضاً للحقائق المتعلقة بمصالح شعبه بالذات، كواحد من الشعوب المتآخية تاريخياً، والمنكوبة حاضراً، التي لن يكون خلاصها إلاّ مشتركاً، فلا خلاص خاص، بالانكفاء والتقوقع، وبالرهان على عطف ورعاية المرابين المتوحشين. ولا يتحامقنّ أحد، ويبتسم متعلمناً، مستغرباً مستخفّاً، فهاهي أمام أعيننا ما تسمى بالأمة الأمريكية بكلّ عجائب تكوينها، وبكلّ تعصبها «القومي»! كذلك، ها هم «الإسرائيليون» بخليطهم العجيب الغريب، الفظيع، الممتنع على الانصهار، يجتمعون على أرضنا استناداً إلى أسباب ملفقة، ويفرضون وجودهم «أمة» متعصبة!

إنّ شعوبنا المتآخية لا تفتعل ما هو مشترك من صلات تاريخية وثقافة حضارية وخصائص اجتماعية، وبالتالي هي لا تفتعل مصيراً مشتركاً، ففي أواسط الألف الميلادية الثانية، وأمام ما أصاب العنصر العربي من وهن واضمحلال (لأسباب مختلفة تتعرض لمثلها جميع الأمم) راهن ابن خلدون على حيوية وفتوّة عنصرين آخرين من عناصر الأمة : البربري (الأمازيغي) والتركي، وتوقّع أن يواصلا مسيرة العمران (الحضارة) التي تلكأت وتعثرت! وكان الأكراد، في بدايات الألف الميلادية الثانية، قد قاموا بواجباتهم خير قيام تجاه أمتهم العربية والإسلامية المهدّدة حينئذ بما يشبه الزوال.

ثم إنّ الأوروبيين اعتبرونا جميعاً، وما زالوا، جنساً واحداً، فتعاملوا معنا بلا تمييز، بالطرائق ذاتها التي تكفل عدم نهوضنا جميعاً، فالتركي في مفرداتهم هو العربي، والعربي هو التركي، بمن في ذلك المسيحيون، حيث هم لا يأبهون لمسيحية العربي ويرونه مسيحياً تركياً أو مسلماً! ولا يتفلسفنّ أحد و يحدثنا عن الفروق العرقية والعنصرية! كفانا ما حلّ بنا من بلاء نتيجة تلك الفلسفات الحمقاء، فنحن لسنا أمة عرقية عنصرية، بل أمة حضارية إنسانية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2178395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2178395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40