الجمعة 2 كانون الأول (ديسمبر) 2011

سيزيف المصري يدفع صخرة الثورة

الجمعة 2 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par د. سمير كرم

ينبغي التسليم منذ البداية بأن الموقف في مصر هذه الفترة بالغ الصعوبة والتعقيد والخطورة. مع ذلك ينبغي التسليم أيضاً بأن الثورة المصرية تجاوزت المرحلة التي يمكن عندها الاعتقاد، او حتى الافتراض، بأن الثورة يمكن أن تتراجع او تنهار او تفض أحداثها لتعود مصر الى وضع لا ثوري، فتخسر مكاسبها السياسية والاجتماعية والديموقراطية.

وفي مثل هذا الوضع الصعب والمعقد والخطر يمكن أن تتقوقع مصر الثورة على نفسها، أن يتقوقع الشعب المصري على ذاته، مدركاً أن ما ينطوي عليه الوضع الراهن لا يسمح له بممارسة دوره التقليدي في التأثير على محيطه القومي والإقليمي. انه في مثل هذا الوضع يريد بالدرجة الأولى أن لا يتدخل أحد في شأنه قبل أن يحسم أمره في شأنه الداخلي بأي حال. وما أن يتم له هذا الحسم حتى يستأنف دوره مع محيطه والعالم ككل.

ولكن في هذا الوضع الصعب والمعقد والخطر، يختار الشعب المصري أن يواصل ثورته في حالة صعود، كما يصعد سيزيف في الأسطورة الإغريقية الجبل وهو يدفع الصخرة أمامه بكل ثقلها عليه. ويأتي وقت بعد ذلك لا يعود فيه يدفع الصخرة الى أعلى الجبل وحده. وذلك عندما يكون قد بلغ قمة المرحلة الثورية. لهذا يتصف بالصدق ما قالته الصحف الأميركية والأوروبية في الأيام الماضية من أن ثوار ميدان التحرير المصريين إنما يخوضون معركة إزالة بقايا النظام. إن هذا معادل للقول بأن سيزيف المصري يواصل جهده الذاتي للوصول بالصخرة الى أعلى الجبل. ومن الطبيعي أن تبدو هذه المرحلة أصعب من سابقتها. أي أن الجهد الذي يبذله سيزيف المصري في منتصف الطريق الى القمة أصعب وأكثر مشقة من الجزء السابق. وهذا معادل لقول الصحافة الأجنبية أن المعركة التي يخوضها الشعب المصري الآن هي أصعب من معركة إسقاط النظام.

وقد اختار الشعب المصري - الشباب الثوري في التحرير - مواصلة دفع الصخرة الثورية أمامه في مرحلة - معركة الانتخابات. لقد فاجأ الشعب المصري بسلوكه الثوري معارضيه المضي بالثورة الى القمة بإقباله على الانتخابات كمرحلة مهمة في الصعود الى قمة جبل الثورة. اقبل على الانتخابات كما لم يتوقع الحكم القائم المتمثل في المجلس الأعلى للقوات المسلحة. لقد ظن المجلس العسكري انه إذا ادخل الشعب في منعطف الانتخابات البرلمانية فإنه إنما يفرض عليه أن يسير في غير طريق الثورة الصعب الصاعد. وظن المجلس العسكري أن اختيار احد أقطاب النظام المخلوع ليكون رئيساً للوزراء في المرحلة الانتقالية (كمال الجنزوري) يمكن أيضاً أن يسهم في إبعاد الشعب والثورة معاً عن طريق الثورة الصاعد الصعب.

ولكن الشعب المصري فاجأ المجلس العسكري الحاكم بأمرين : أولاً انه اعتبر الانتخابات البرلمانية لاختيار مجلس الشعب جزءا ضروريا من استكمال الصعود الى القمة، وثانياً انه اعتبر اختيار رئيس وزراء من «العهد البائد» عملاً لا يمكن أن يدخله في حالة عرقلة هذا الصعود ربما تنتهي الى تدحرج الثوار والصخرة على طريق الهبوط السريع. اعتبر في الحقيقة أن رئيس الوزراء القديم / الجديد لا يستطيع أن يعرقل الثورة لأنه لا يستطيع أن يؤدي من تحت مهمته أصلاً ضد إرادة الثورة والشعب.

في موقعه السهل اعتقد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن تجمع التحرير لن يدوم وأن الصخرة وسيزيف سيتدحرجان الى أسفل معاً. وهذا تصور ابعد ما يكون عن الواقع. إن سيزيف المصري قادر على أن يرقب الشعب المصري يخوض المعركة الانتخابية - حتى وان لم تكن في وقتها - قادر على أن يرى ايجابية الانتخابات في هذا الوقت لتأكيد إرادة الشعب بقدر ما هو قادر على مواصلة الصعود. وهنا أيضاً فإن الصحافة الأميركية والأوروبية استطاعت أن ترى ما لم يستطع أن يراه المجلس العسكري. أما المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري فقد اكتفى بتوجيهات تنفي وجود الثورة وتهدد بأنها لن تستمر إذا عارضت قرارات المجلس :

- إن القوات المسلحة لن تسمح لأحد بالضغط عليها.

- هناك تحديات كثيرة تواجهنا لكننا سنتصدى لها ولن نسمح لأي قوة او جهة بالضغط على القوات المسلحة (في إشارة الى المظاهرات المستمرة في ميدان التحرير) لمطالبة المجلس بتسليم الحكم في أسرع وقت ممكن الى سلطة مدنية.

- إن القوات المسلحة لن تسمح لـ«القلة القليلة غير الفاهمة» بأن تنال من استقرار مصر.

- إن مصر في مفترق طرق، فإما أن تنجح سياسياً واقتصادياً واجتماعياً او أن تكون العواقب في منتهى الخطورة ولن نسمح بذلك.

- إن وضع الجيش في الدستور سيظل كما هو في الدساتير السابقة وفي الدستور الحالي وفي الدستور القادم.

- على الرغم من التحديات الخارجية ومن يريد أن يدمر مصر العظيمة القوية فإننا لن نسمح بذلك ولن نسمح للخارج والقلة القليلة غير الفاهمة بأن ينالوا من استقرار مصر.

- إن هناك عناصر خارجية تعبث بأمن الوطن. ولو لم تكن هناك أصابع داخلية ما كان سيحدث ذلك. أن مصر تتعرض لنوايا خبيثة من الخارج بمعاونة قلة من الداخل، لن أطلق عليهم العملاء، من البديهي أن تكون هناك قوى خارجية تسعى لإسقاط مصر والنيل من مصر بمساعدة من الداخل وهم قلة قليلة.

- إن القوات المسلحة ستعلن عن هذه القوى الخارجية في الوقت المناسب.

- إننا في الحروب لا ننام، ونحن الآن في حالة حرب (..).

هكذا فإنه بينما كانت «الثورة المصرية الثانية» تحتل غلاف مجلة «تايم» الأسبوعية الأميركية وعلى غلافها صورة من ميدان التحرير، كان المجلس الأعلى، الذي منح نفسه لقب حامي الثورة، يتحدث عن ثوار التحرير باعتبارهم القلة التي تساعد العناصر الخارجية على هدم مصر. من هي هذه العناصر الخارجية، هل هي «إسرائيل» او الولايات المتحدة او ائتلاف من الدول الأوروبية داخل حلف الأطلسي او هي كل هؤلاء معاً؟

في اليوم التالي لهذا الخطاب الذي لا يخلو من خطر، وافق المجلس العسكري تحت ضغط الثورة والثوار في ميدان التحرير «على تشكيل مجلس مدني استشاري». بعد لقاء رئيس المجلس العسكري مع عدد من المرشحين المحتملين للرئاسة ورؤساء أحزاب وممثلي تيارات سياسية مختلفة. يتألف هذا المجلس، الذي سبق الانتخابات البرلمانية بيومين اثنين، من خمسين عضوا يمثلون التيارات السياسية المختلفة وشخصيات عامة. وأضيف الى قرار تشكيل هذا المجلس الاستشاري «استمرار المجلس العسكري في إدارة شؤون البلاد حتى نهاية حزيران/يونيو 2012».

لوحظ أن المجلس العسكري امتنع عن توجيه الدعوة الى الاجتماع الذي انتهى الى قرار تشكيل المجلس الاستشاري الى عدد من الأحزاب، هي أحزاب العدل والتجمع والكرامة والتحالف الشعبي الاشتراكي وحزب الجبهة الديموقراطي وحزب الحرية وحزب مصر القومي. كما لم توجه الدعوة الى الجبهة الوطنية للتغيير. ولم يكن هناك من تفسير لاستبعاد هذه الأحزاب من هذا اللقاء المهم سوى رغبة المجلس العسكري في استبعادها من تأييد الناخبين في الانتخابات البرلمانية.

ولوحظ أيضاً أن أولئك الذين امتنعوا عن حضور هذا الاجتماع، باختيارهم وليس بقرار المجلس، لم يترددوا في توجيه النقد الى المجلس العسكري في طريقة إدارته لشؤون البلاد. وعلى سبيل المثال فإن محمد ابو الغار، رئيس الحزب الديموقراطي المصري، قال إن أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة يجيدون الاستماع وكتابة كل الآراء والأفكار لكن - عادة - لا تتحقق نتائج او أن النتائج تأتي متأخرة. بل لقد رفضت قوى سياسية متباينة تصريحات المشير طنطاوي وخاصة تأكيده بان وضع الجيش لن يتغير عن وضعه في دستور 1971.

وزاد الطين بله انه في أعقاب تصريحات المشير مباشرة كلف ممدوح شاهين عضو المجلس العسكري بالإدلاء بتصريحات أثارت غضب الثوار والقوى السياسية «غير المتعاونة». وكان مما قاله ان البرلمان الذي سينتخب لن تكون له سلطة على الحكومة (...) وكان هذا التصريح مناقضا تماما لما قاله المشير «أطالب الشعب بالمشاركة في الانتخابات لتشكيل برلمان متوازن». وهكذا بدا المجلس الأعلى للقوات المسلحة - وهو في ذروة جهوده لوقف الثورة عن التجدد والاستمرار، اقرب الى الارتباك منه الى التماسك. أما الثورة فإنها أبدت وتبدي قدرتها الحقيقية على وعي ما يدور حولها ووعي ما يريد الشعب.

في الوقت نفسه كانت قلة قليلة من مؤيدي تفكيك الثورة وإغلاق ميدانها الرئيسي تتجمهر في ميدان آخر- ميدان العباسية الذي لا تزيد مساحته عن ربع مساحة ميدان التحرير - لتطلق الهتافات بحياة المجلس العسكري. ولا يبدو أن أحداً صدق تلقائية هذه المظاهرة التي صفقت للمجلس العسكري. الجميع اعتبرها جزءاً من محاولات المجلس لإطفاء وهج ميدان التحرير وعنفوان الشباب الثوري فيه. حتى الصحافة العالمية لم تجد في مظاهرة العباسية بؤرة إخبارية حقيقية. الصحافة «الإسرائيلية» وحدها اعتبرت أن الشارع المصري انقسم بين التحرير والعباسية.

كان لهذا توصيف الخلفية التي عليها أدلى شاوول موفاز رئيس لجنة الخارجية والأمن في البرلمان «الإسرائيلي» والرئيس السابق لأركان حرب الجيش «الإسرائيلي» بتصريحه الذي قال فيه إنه يتعين على «إسرائيل» بذل كل جهد مستطاع من اجل حماية معاهدة السلام مع مصر ... يجب على الجيش «الإسرائيلي» ان يكون على اهبة الاستعداد لأي سيناريو محتمل قد يحدث في مصر بعد إجراء الانتخابات التشريعية.

وبعد... فإن الثورة ليست حدثاً يتم في أسبوع واحد او شهر واحد. إنما يمكن ان تستمر لعام بأكمله او أكثر. وهذا ما تؤكده الثورة المصرية. إنها طريق شاق صاعد وصخرة ثقيلة لا بد من الوصول بها الى القمة. عندئذ تعود مصر الى ممارسة دورها القومي والإقليمي من دون تردد او انتظار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2165344

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165344 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010