الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

أحمد حرارة والعيون المصرية

الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par أمجد عرار

نجحت الثورة فرأى نجاحها بعين واحدة، لأنه فقد عينه الأخرى بعيار ناري خلال المرحلة الأولى من الثورة. اشتعلت المرحلة الثانية لكنّه سيبدأ برؤية مصر ومسيرة انتصارها الطويلة ببصيرته وقلبه ووجدانه، بعدما فقد عينه الثانية بعيار مطاطي.

إنه أحمد حرارة طبيب الأسنان الذي تشبّث بالحلم والانتماء بأسنانه فاصطكت غضباً غير عشوائي لتسري حرارة الغد في كابلات الحاضر المتوهّج لتضاف شمعة جديدة إلى شموع البصيرة المتّقدة والمنتمية إلى طينة الثورات الحقيقية العصيّة على التدجين وطيّها تحت أية أجنحة. ثورة قادرة على صنع دينامية انتصارها وتخييب آمال المشكّكين بقدرتها على لفظ أي انتهازي أو متطفّل أو هاوٍ لركوب الأمواج. ثورة يرى فيها الكفيف بعيون رفاقه، ويسمع الأصم بآذانهم، ويتحدّث الأبكم بقلبه أفضل مما يفعل الناعقون المتطفّلون على لغة لا تستطيع مقاومة العابثين بها.

أحمد حرارة بطل ميدان التحرير بنسختيه المحمّلتين بالبشائر ومعهما نور يدخل زنزانة القهر فيطرد الخوف والظلام، ويهبّ معهما نسيم الريح ليلقي السلام على أعتاب الأمل، يزهّر النوار ويعشّش في الزنازين الحمام. هو قدر الفتيان خضر العمر، سمر الزنود في الميادين والشوارع والحواري، قدر الصبايا المنتفضات على كل من يريد ربطهن بسرائر الجواري، قدر الجيل الذي صبر طويلاً واحتمل كثيراً ورفض أن تجلس أم الدنيا القرفصاء على رصيف التاريخ وتستقيل من موقعها الريادي لأمة تتوه من دونها وتضيع، وأن تترك البهيّة أمّ طرحة وجلابية مقعدها القيادي شاغراً.

أحمد حرارة يرفض أن يكون رمزاً، هو حر في أن يقبل أو يرفض، لكن الرمزية لا تستشير أحداً حتى مستحقّيها، فهي تكلّلهم بالمعنى والدلالة والدور بلا استشارة أو استئذان. ليس الرمز من يقرر رمزيّته، فهو يقف وقفة العز بعفويّة المناضل وطهارة الثائر، ونحن الشعوب من يعرف أصحاب الرمزية الحقيقية ويميّزهم عن أصحاب الباروكات الثورية والفقاعات الإعلامية. نعم ميدان التحرير رمز الرموز، لكنّه أصبح كذلك بفضل ثوار نعرف أسماءهم وآخرين لا نعرفهم من الملايين الذين واصلوا الليل بالنهار وجعلوا منه الميدان الأوضح رمزية، فبدوا في وسطه وجنباته أسراباً من الحمام الأبيض يطير في فضاء الكرامة ليحط على غصن الحرية.

ميدان التحرير ليس أقل تواضعاً من أحمد ورفاقه، بل يقدّم نفسه رمزاً يختزل رمزية أشقائه الميادين في السويس والمنصورة وأسيوط ودمياط والإسكندرية وكل مدن وأرياف مصر وأجيالها التي قدّمت مصر هبة للعروبة والإنسانية، مصر السفينة التي ما زالت تبحث عن قبطان يستحق قيادتها ويتقن الإبحار بها وسط الأمواج العاتية والحيتان الفتّاكة.

هذه هي مصر التي تجود بكل شيء جميل وإعجازي، لا تعدم تقديم الأيقونات ولا تمل من إدهاش العالم. هذا هو ميدان التحرير الذي لا تبلغ مساحته عشرة في المئة من مباني «كنيست» الكيان، لكنّه فرض على الكتّاب الصهاينة أن يكتبوا بأقلام مرتعشة عن مصر القادمة إلى المشهد الصراعي بشعبها وقواها الفاعلة وعمرها البالغ سبعة آلاف عام، بنيلها وروح جمالها العبد الناصر.

لن يشعر أحمد أنه فقد عينية والقدرة على البصر، فهو يرى بعيون ملايين المصريين والعرب الذين يغمرونه ورفاقه المخلصين بحبهم وإعجابهم، هؤلاء الذين همسوا في أذنه وصرخوا في وجه مطلقي الرصاص لإطفاء عيني الحرية: كلّنا عيونك مثلما كنّا كلّنا خالد سعيد. وفي هذا المقام أقتبس من وهج الثورة الفلسطينية ذلك النشيد الذي قال «يا صحابي لا يهم المناضل حين يضحي، أن يرى لحظة الانتصار .. سأراها بعيني رفيقي».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165521

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165521 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010