الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

مكرمة «ثورة الإنقاذ» في السودان!

الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par د. عبد الاله بلقزيز

في خضم الثورات والحركات الاحتجاجية العربية، مرّ انفصال جنوب السودان في صمت وكأنه حدث سياسي عادي في البلد وفي مجموع الوطن العربي. كأن الأمر يتعلق بشأن داخلي صرف كانتخابات البلديات والأقاليم، او إضراب عمال معمل، لا شأن للعرب ولمصر به، ولا يمسّ أمنهم القومي، ولا يضع تحت تصرف الكيان الصهيوني مساحة من السيطرة على منابع النيل، ولا موطئ قدم بمحاذاة القرن الإفريقي وجنوب البحر الأحمر. انشغل الجميع بالأصنام السياسية، وهي تتساقط واحداً تلو آخر، عن قطعة من الأرض العربية تُسرق في جنح الظلام، وعن وحدة شعب تتمزق باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، وبرضى سلطة مركزية كوفئت على التعاون من أجل تسهيل الانفصال بإقفال ملف محكمة الجنايات الدولية!

كثيرون خططوا لفصل جنوب السودان عن الوطن، أولهم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وسادته في الكيان العنصري. وكثيرون قدموا مساهمتهم في إنجاح مشروع الانفصال أولهم الطاغية المقتول ـ ببشاعة همجية ـ معمر القذافي، وثانيهم كبير وسطاء أميركا و«إسرائيل» المخلوع حسني مبارك. أولهما لم يكن يكفيه ـ على عادته في دعم حركات الانفصال مثل بوليساريو في الصحراء المغربية ـ ان يقدم الدعم لجون غارانغ و«الجيش الشعبي لتحرير السودان» من أجل إعادة توحيد السودان على أسس الشراكة الديموقراطية في السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، وإنما تراءى له ان الانفصال هو الحل الأمثل فسانده مادياً. ثم لم يلبث ان كرر سيرته في دعم حركات التمرد والانفصال حين التفت إلى إقليم دارفور على حدوده الشرقية ومدّ يد العون والإسناد لحركاته المسلحة. والثاني كان متواطئاً مع الأميركيين و«الإسرائيليين»، فضغط من أجل استفتاء الانفصال، وأقام أوثق العلاقات مع قواه!

لكن أياً من الرئيسين البائدين لم يكن لينجح في مسعاه التخريبي لو لم يكن الوضع السوداني الرسمي قد تفسخ إلى الحدود التي أنضجت ثمرة الانفصال وسهلت قطافها الدولي والإقليمي. كانت الخشية من اتفاق يُفضي إلى انفصال جنوب السودان هي الذريعة التي تذرعت بها قيادة الجيش للقيام بانقلاب عسكري أطاح سلطة مدنية منتخبة، منذ الثورة الشعبية على نظام جعفر نميري، هي حكومة الصادق المهدي وشريكه «الاتحادي الديموقراطي» عثمان الميرغني. ولقد نجحت «ثورة الإنقاذ» ـ متحالفة مع «الجبهة القومية الإسلامية» لحسن الترابي ـ في إيهام قطاعات واسعة من الرأي العام السوداني بأن وحدة السودان خط أحمر لدى المؤسسة العسكرية ولدى نخبتها الحاكمة الجديدة. وكان التشدد في حكم البلاد وفي إعدام مظاهر الحياة السياسية فيها يُساق بوصفه تمسّكاً استراتيجياً بوحدة السودان. وبالتعلة نفسها قُمعت المعارضة الديموقراطية بدعوى انخراطها في تحالفات مع الانفصاليين، بل بالتعلة عينها أقصى عمر حسن البشير شريكه في السلطة، حسن الترابي، وأودعه السجن.

لكن ادّعاء الحرص على وحدة السودان اصطدام بسياسات لم يكن من شأنها سوى أن ترفع من معدّل فكرة الانفصال لدى الجنوبيين، وأكثر تلك السياسات أثراً مدمراً ـ إلى جانب سوء توزيع الثروة وتهميش الجنوب ـ سياسة أسلمة الدولة في بلد متنوع الديانات والاعتقادات الدينية! وإذا كان إسباغ الطابع الإسلامي على السلطة في السودان محاولة للتعويض عن الشرعية الديموقراطية ـ المنقض عليها ـ بالشرعية الدينية، عملاً بسابقة «الرئيس المؤمن» جعفر نميري، سليل المؤسسة العسكرية ذاتها، فإن نتائجها على وحدة السودان كانت شديدة السلبية، وفتحت أوسع الأبواب والمداخل أمام تنامي حركة الانفصال في الجنوب وتراجع أصوات الداعية فيه إلى إعادة توحيد البلد على أسس ديموقراطية. وهكذا لم يكن مشروع الانفصال قد نضج في السياسة الدولية ـ الأميركية بوجه خاص ـ حتى كانت شروطه الداخلية قد تهيأت من سياسات السلطة المركزية، وخاصة مع الاندفاع المتمادي في التورط العسكري في دارفور، وما قدمته سياسات الإبادة الجماعية في الإقليم من فرص أمام الضغط السياسي الدولي من طريق تحريك الاتهام بارتكاب مجازر ضد الإنسانية، والمساومة فيها على وحدة السودان.

وقد يكون أكثر ما يُستغرب له، في هذا المعرض، أن القوى الديموقراطية السودانية، وهي مجمعة على معارضة النظام منذ عقدين، وتتمتع بقوة تمثيلية هائلة وبرصيد من الرموز السياسية العربية، مثل المهدي والميرغني والترابي، لم تنهض بالدور المفترض منها في حماية وحدة السودان من مشروع الانفصال، ولم تقطع على النظام طريق التفريط بالجنوب! والمستغرب أكثر أنها لم تستفد من رياح التغيير العاصفة في الوطن العربي لتفرض إرادة الشعب في التحول الديموقراطي، وفي تصحيح أوضاع سلطة انتهت بالوطن إلى التقسيم. لقد كانت أوضاع السودان ترشح هذا البلد، أكثر من غيره، إلى الانخراط في موجة التحولات الجارية، ليس فقط بسبب احتكار السلطة من قبل نخبة انعقد الإجماع في الداخل على معارضة سياساتها، وإنما أيضاً لأن البلد تتقطع أوصاله بسبب تلك السياسات وتنهار وحدة ترابه وشعبه! هكذا يخرج جنوب السودان من التاريخ والجغرافيا وكأن شيئا في البلد لم يحصل!!!

«ثورة الإنقاذ» «أنقذت» السودان من تجربة الحكم المدني الديموقراطي «أنقذت السودان من وحدته ومن جنوبه. لكن ضعف المعارضة لم يسمح لها، حتى الآن، أن تستشعر ظرفية التغيير العاصف فتنقذ السودان من سلطة وثورة الإنقاذ».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2165480

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165480 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010