الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

صراع الدم والنفط على هوية الثورات العربية

الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par طلال سلمان

تحفل المرحلة الراهنة من مراحل التحول والبحث عن اليقين في الحياة السياسية العربية بمجموعة من التناقضات والطرائف واللطائف النادرة، والتي يمكن الاستعانة بها للتأريخ لعصر الضياع وافتقاد الهوية الجامعة، من بينها :

أن الأنظمة التي كانت قائمة ثم سقطت أو أُسقطت، وما زال بعضها ينتظر، قد استهلكت عناوين مختلف الإيديولجيات والعقائد الثورية عن طريق تزويرها أو مصادرتها لادّعاء الانتماء اليها وحرمان الخصم من أن يتبدى متفوقاً وعصرياً بينما هي من الماضي، فليس في الأرض العربية من أدنى مشرقها الى أقصى مغربها نظام يستطيع الادّعاء أن ممارساته مطابقة للشعارات التي يرفعها، لا فرق بين جمهوري وملكي وجماهيري وسلطاني، ويساري اشتراكي ثوري ويميني رجعي إمبريالي.

ولعل النظام الفريد في بابه للعقيد (الراحل) معمر القذافي قد احتوى في «خلطة» شعاراته معظم الادّعاءات الثورية، من غير أن يغفل التراث الإسلامي. فدولته كانت «جماهيرية»، أي النسخة المطورة من «الجمهورية» لكن نظام الحكم فيها كان فردياً بالمطلق، وامبراطورياً بالممارسة. هو «الخليفة» و«الإمام» ومكمل الرسالة (حتى لا ننسى «الكتاب الأخضر») ثم انه أمين بيت المال وصاحب الشرطة وقائد الجيوش والقاضي... بغير أن يتخلى عن مرتبة «الأمين على القومية العربية».

لقد استعارت الأنظمة الجمهورية من «شقيقتها» الملكية التقاليد والممارسات جميعاً، وإن حافظت ـ في المظهر ـ على التسميات الجمهورية.

ولعل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، شيخ مشايخ قبيلة بكيل في اليمن، قد لخص ـ قبل رحيله ـ الفذلكة المناسبة لتبرير هذا الاختلاط بين العقائد والأيديولوجيات، حين رد على سؤال صحافي حول نية الرئيس اليمني علي عبد الله صالح السعي لتوريث ابنه أحمد الحكم في صنعاء، فقال ببساطة : ولمَ لا؟ هذا الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، وفي أكبر ديموقراطية في العالم، قد عمل فأمن الوراثة لابنه... وهذا الرئيس الراحل حافظ الأسد، رحمه الله، قد وفر الفرصة ليكون الحكم بعده لأولاده، مات باسل فجاء بشار.. وهذا الرئيس المصري حسني مبارك يعمل لتوريث ابنه جمال... فلماذا يستغربون الأمر مع علي عبد الله صالح في اليمن؟

لا تهم التسمية التي ينسبها النظام الى نفسه، ملكية أو جمهورية أو إمامة، المهم أن صاحب الأمر «واحد»، وان اختلفت الألقاب... حتى ان «صاحب ليبيا» اكتفى، في فترة أولى من فترات حكمه المديد بتسمية حميمة ومباشرة «الأخ معمر»!

وبالمصادفات القدرية، فإن الجمهوريات التي تحولت تدريجياً الى «ملكيات» في العقود الثلاثة الماضية، والتي كانت فقيرة بمواردها أصلاً، قد أخذت تزداد فقراً، نتيجة الفساد المستشري في تلك البلاد التي لم تتفجر أرضها بينابيع الخير الأسود أو الأبيض. وتبقى ليبيا والعراق خارج هذا التصنيف، مع الإشارة الى أن الثروة فيهما كانت حكراً لصاحب السلطان بالأبناء، أساساً، والأصهار والأعوان.

أما الممالك والسلطنات والإمارات التي من نفط أو غاز فلم يكن يشغلها أمر الديموقراطية وتداول السلطة... فالنظام قادر على شـراء الولاء بالذهـب والسيف .. والرعايا يكادون يحسدون أنفسهم على نعمة الولادة في تلك الأرض التي احتفظت بالخير في باطنها، على امتداد الدهور، حتى إذا جاء زمن الديموقراطيات كشفت المخبوء فإذا العقائد تتهاوي أو تتجمد في كتب حيث لا وقت للقراءة!

وباختصار: صار القرار الرسمي العربي في يد «الأصغر» والأكثر بعداً عن الأيديولوجيات وحقوق الشعوب وأساطير الديموقراطية والمواطنين والانتخابات، لأنه «الأغنى».

وبغير رغبة في الإساءة الى الأمين العام (الجديد) لجامعة الدول العربية، فقد كان منظره على المنصة يثر الإشفاق بينما ذلك المسؤول القطري يتجاوزه في الذهاب بالقرار والإياب، ويعامله وكأنه مجرد موظف له عليه حق الطاعة طالما أنه يستطيع أن يتحكم بموازنة الجامعة، ثم انه قد «اشترى» سلفاً أصوات معظم الأعضاء الجالسين الى طاولة القرار. وبحسبة بسيطة يمكن اكتشاف الحقيقة المرة : ثمة دول مجلس التعاون (6 أصوات) والمملكتان الأردنية الهاشمية والعلوية المغربية، ثم دول الجوع التي تبيع أصواتها لمن يدفع أكثر (موريتانيا، جيبوتي، جزر القمر والصومال)، وبعدها يأتي حديث الدول المسترهنة بمشاريع مشتركة، تمولها بعض تلك الدول النفطية... وكل ذلك قبل أن ننتبه الى «تصفية الحساب» بين دول الثورات التي صادرها الإسلاميون و«دول الممانعة» التي تنظر الى التنظيمات الإسلامية بعدائية وتتهمها بأنها مجرد «طوابير أطلسية» مهمتها إعادة الاستعمار تحت أعلام الهلال والنجمة.

لقد تواضع الدور المصري داخل جامعة الدول العربية، وسواء في موقع الأمانة العامة أم في موقع الأخ الأكبر والأكثر أهمية والأعظم وزناً، لحساب صاحب العقال المذهب، مع أنه الأصغر حجماً وإن كان الأخطر شأناً.

ويعرف أهل الثروة أن زمن هيمنتهم على القرار العربي قصير، وأنه يرتبط بمدة الفترة الانتقالية التي تحتاجها للعودة إلى موقعها الطبيعي كقيادة للعمل العربي المشترك، تتمتع بالأهلية والكفاءة والخبرة والحق الشرعي نتيجة وزنها وتضحياتها الجسام من أجل استقلال هذه المنطقة واستعادتها هويتها العربية.

لذلك يستعجل أصحاب الثروة ممارسة هذا الحق المغتصب بشراء قرار أصحاب الثورة.

ثم إن فساد الأنظمة المتهالكة والمتوالي سقوطها أتاح فرصة التبرؤ من دعمها ومساندتها ضد شعوبها... وهكذا انتقل هؤلاء في غمضة عين، من سرايا الحكام إلى ميادين الثورات، وتنصلوا من صداقاتهم التاريخية مع الرؤساء الذين كانوا باعوا لهم القرار عربياً ودولياً بثلاثين من الفضة.

ولقد شهدت ميادين الثورات، في القاهرة بداية ثم في تونس، وبشكل أكثر فظاظة في بنغازي ثم في طرابلس بليبيا، الكثير من المشاهد المثيرة... فجاء إليها كبار المسؤولين الأميركيين، سياسيين وعسكريين، فضلاً عن رجال المخابرات.. لا الثوار استهجنوا الأمر، ولا الزوار اعتبروا انهم يتجاوزون حدودهم بقدر ما يشاركون في «تشييع» الحكام الذين كانوا أصدقاءهم المخلصين حتى النفس الأخير.

بالمقابل، كان أصحاب الثروات النفطية قد تقـاطروا لزيارة أصدقائهم من الرؤساء/ الملوك، في لحظات ما قبل النهاية، ولوحوا بأكياس الذهب لاستنقاذ المهددة عروشهم، ثم لما تيقنوا أن لا فرصة لوقف الزخم الثوري، اندفعوا بأكياس الذهب إلى ميادين الثورات ملوحين بها، في محاولة لشراء الصمت إذا ما تعذر شراء الولاء.

ولقد كان أصحاب أكياس الذهب جاهزين للجهر بإيمانهم العميق بالديموقراطية، فاستضافوا حركات المعارضة ومولوا مؤتمراتهم متعددة التوجهات والولاءات في أغنى العواصم وأمدوهم بما يمكنهم من الادّعاء بأنهم «مجلس قيادة الثورة» الذين يملكون القدرة على إنقاذ بلادهم من الدكتاتورية... بل إنهم فتحوا لهم أبواب الحكم في عواصم القرار الدولي، واشتروا لهم «شرعية ما»، ومكنوا لبعضهم أن يحتل ـ شرعاً ـ سفارة بلاده في عواصم الدول التي نصر ثوارها الحلف الأطلسي فأوصلهم الى سدة الحكم.

بل إن شيخ مشايخ الديموقراطية العربية المستولدة حديثاً من الغاز ذهب بأكياس الذهب الى أقصى الأرض العربية ليضمن انتصار الديموقراطية الملكية الشرعية بعدما ضمن انتصار الديموقراطية الإسلامية في عاصمة مغربية أخرى.

صار أهل النفط والغاز دعاة الديموقراطية الإسلامية في بلاد الفقراء، وصاروا مرجعية الشهادة بسلامة العمليات الانتخابية التي لم يتعرف إليها رعاياهم، يستوي في ذلك الرجال والنساء.

بل إنهم صاروا مصدر الشهادة والتزكية للديموقراطية الجديدة التي تأنف من أن تتهم بأية صلة بالعروبة... ففي تقدير هؤلاء أن العروبة منافية للديموقراطية، ولهذا لا بد من خيار حاسم: أما عروبة الدكتاتورية وأما ديموقراطية متعددة الهويات دينياً وطائفياً وعرقياً.

لقد تهاوت أنظمة جمهورية المظهر ملكية المضمون بعدما دمرت مجموعة من القيم والمفاهيم التي استهلكتها في سعيها لتبرير ديمومتها حتى أفقدتها المعنى، فأفسحت المجال لتزوير البديهيات والثوابت في السياسة كما في الأخلاق وفي الهويات.

وصحيح أن الوقت ضيق لا يتسع للمراجعة... ولكن لا بد من أن تحين لحظة الحقيقة، فتتكشف هويات وتتوضح سياسات فيتبين للناس الى أين تأخذهم هذه الحركات التي أكسبها فساد النظام مشروعيتها والتي قد تكشف التجربة أن مصدرها غـير واضح النسب الى الإسلام، كما ان ديموقراطيتها المجلببة بالدين والصداقة الأميركية لا تختلف في الجوهر عن طبيعة النظام المخلوع والذي يزكي وريثه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2178243

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2178243 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40