الخميس 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

«نقض الوعود» أم تجسيد الثورة المضادة؟

الخميس 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par د. نهلة الشهال

نجح المجلس العسكري في تجسيد الثورة المضادة، وهو أمر شاق للغاية، حيث يميل الوعي العام الى رؤية الخطوط المتوازية، وفي أحسن الاحوال المؤامرات، وليس التعقيد المصاحب لتداخل الثورة وضدها على أرضية واحدة، واشتباكهما.

ولأن الخوض في مثل تلك الميادين ليس شأناً من شؤون حقوق الإنسان، فقد اتهمت منظمة العفو الدولية المجلس العسكري المصري بـ «نقض الوعود»، إثر سقوط عشرات الضحايا في ميدان التحرير ومحيطه، صرعى الرصاص الحي وقنابل الغاز الخانق. وإن تراوح لوم «أمنستي» بين التوبيخ الاخلاقي والتقييم السياسي، فذلك لا يقلل في شيء من قسوته. ولكن السياسة تقوم أكثر فأكثر على فقدان الذاكرة، وعلى «لحظوية» يدعمها الايقاع الاعلامي الحديث الذي تحتل قلبه الصورة المباشرة والتغطية المستمرة. من لا يتذكر شعار مجلة «ميدل إيستريبورت» الاميركية اليسارية الذي يقول «كلما شاهدت أكثر، كلما عرفت أقل»! وهو بالطبع لا يدعو لعدم المشاهدة بل للتفكير المتصل، لربط الظواهر والمعطيات بعضها ببعض، لرفض تجزئتها.

ولأن الموضة في مقاربة الأشياء هي غير ذلك، ومع القلق الذي يتسبب به انفجار الموقف في مصر من أقصاها الى أقصاها، بما ذكَّر الجميع بثورة 25 يناير نفسها، تبدأ تساؤلات عما يريده هؤلاء الشباب الغاضبون، ولماذا يتحركون قبل أسبوع فحسب من الانتخابات العامة، وكيف يطالبون في هذا الظرف الانتخابي باستقالة حكومة عصام شرف... والمعلقون يقولون الشيء ونقيضه، بلا انزعاج. يؤكدون أن حكومة شرف أظهرت ضعفاً مخزياً، والتحاقاً معطِّلاً بالمجلس العسكري، ولكنهم يستهولون المطالبة برحيلها. وهم يرون أن العنف الذي واجه المتظاهرين يفوق المعقول، ولكنهم يخشون الفوضى التي ستنشأ عن كف يد العسكر عن تسيير شؤون المجتمع. بالمناسبة، قالت أمنستي انترناسيونال إن سجل إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية قد تجاوز في سوئه سجل حسني مبارك. وان أداءه كان «بائساً»!

هل تذكرون كيف ولماذا بدأ كل هذا؟ هناك محطات كثيرة، أو قل علامات : الإصرار على إحالة المعترضين من المدنيين على القضاء العسكري، يحاكمون أمامه، وقد بلغ عددهم 12 ألفاً حتى الآن! ثم انتهاج تلفيق التهم لهم كما في حالة المدون علاء عبد الفتاح الشهيرة، والانتهاء بإنزال الأحكام القاسية بهم والتي تصل الى الإعدام. وهناك الامن المركزي الذي ذاب كفص ملح في ميدان التحرير الاول، فإذا به يعود الى ميدان التحرير الثاني معافىً جداً، ولعله قيل لرجاله هذا يومكم فانتقموا. وهناك منذ أسابيع حادثة ماسبيرو المشؤومة، وضحاياها من الاقباط الذين دهستهم العربات العسكرية حين لم تطلهم رصاصات القناصة. وقد بقيت الواقعة غامضة، أو قل متشابكة الخيوط وحمَّالة أوجه. وبقيت خصوصاً بلا متابعة تؤدي الى المحاسبة. من يتذكر أن ميدان التحرير الاول جاء بعد شهر بالكاد على تفجير كنيسة القديسين، الذي قيل فيه الكثير تلميحاً حول مسؤولية وزير الداخلية يومها حبيب العادلي، ثم طواه النسيان والتسويف. وكأن اللعب بصاعق التسعير الطائفي يراد له أن يحرف الأنظار والاندفاعات، فإذا به يتحول الى جرس إنذار يقول مبلغ سوء الاوضاع.

في مصر أيضاً حلٌ أمني! يا للسلطة تحول الممسكين بها الى وحوش. ولكن الحل الامني يفشل إجمالاً، وعلى الاخص في اللحظات الثورية. ميدان التحرير امتلأ عن بكرة أبيه، وها مدن مصر كلها تشتعل. وحين لا يصاب المحتجون بالذعر الى حد الانكفاء، يرتد أصحاب العنف الى محاولات الالتفاف والاستيعاب، محولين السياسة الى خطوات ونقلات تكتيكية، تفتقد الرؤية والتماسك. فتقر حكومة شرف على مضض قانون «إفساد الحياة السياسية»، الذي يبعد ما بات يقال لهم الفلول عن السلطة لفترة من الزمن. وحين لا يتمكن هذا الإجراء من امتصاص غضب الناس، وبين جولتي قمع (إذ لعل وعسى)، يعلن المجلس العسكري بلسان قائده الذي باتت تحيط باسمه صرخات «فليسقط»، أنه ملتزم بإجراء الانتخابات العامة في موعدها، وأنه يتعهد بتسليم السلطة الى المدنيين في حزيران المقبل. ولكن سوسة السلطة أقوى من التكتيكات، فإذا به وسط هذه التطمينات، يعلن عن استفتاء عام لمعرفة رأي المصريين في رحيل سلطة العسكر أو بقائها. فلنتذكر أن ناطقين باسم المجلس قالوا أيضاً وأيضاً ومنذ أيام، وعند بدء اتساع التحرك، انه «يعني إيه مليون وحتى خمس ملايين محتج، في بلد تعداده خمسة وثمانون مليوناً».

أين راحت وسط كل ذلك وثيقة علي السلمي، وهو رسمياً نائب رئيس الوزراء «للتحول الديموقراطي»، وهي كانت الشرارة التي ابتدأ من عندها الحريق؟ كانت الوثيقة إذاً محاولة لجوجة من المجلس العسكري (الذي يتحكم بتلك الوزارة حتى قيل فيها إنها سكرتاريا له فحسب) للحصول على تعهدات طالت الحيرة تعيين طبيعتها وتوصيفها، بين «مبادئ عامة» ملزمة وبين نص «فوق دستوري»: قبل البدء بالانتخابات العامة، وقبل وصول النواب الى مجلسهم، والوزارة الجديدة الى سلطاتها، ورئيس الجمهورية المنتخب الى منصبه. فكيف يلام المتظاهرون على اختيارهم «لحظة غير مناسبة» لتفجير الأوضاع، بينما هم يدافعون عن تلك اللحظة تحديداً، بما هو إمكان استمرارها في التحقق.

وأخيراً فأين الاخوان المسلمون من كل هذا؟ لا شبابهم ومناضلوهم، وهم في ميدان التحرير، بل موقفهم وقياداتهم، وقد أعلنوا مؤخرا أنهم لا يشاركون في مليونية الثلاثاء، التي جاءت بعد كل ذلك القتل، ومثَّلت مناسبة لاختبار قوة حقيقي مع المجلس العسكري، أخرجه عن صمته المديد وأجبره على الكلام والتراجع. تبرير الاخوان أن المهمة الملحة هي إنجاز الانتخابات النيابية، ومنع وقوع ما يعرقلها أو يؤجلها. هناك شوق للسلطة يكاد يقفز فوق كل اعتبار. ولكنه من الدقيق اعتبار أن العلاقة بين الاخوان والعسكر ليست تواطئية على ما يقال، بل هي حقاً تساومية حذرة مليئة بالشك المتبادل. والفارق بين الصورتين كبير، ففي التواطؤ اتفاق على منحى متشارك، بينما المساومة وإن طالت وتجددت، إلا أن من خصائصها الاقتسام لا التشارك. قد يرتكب الاخوان أي شيء من أجل الوصول الى «السلطة». ولكنهم إذا ما استمروا على هذا المنوال، فلعلهم يفقدون كل شيء!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165303

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165303 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010