الاثنين 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

تحرير الأسرى : من دروس مقاومة باريس وغزة

الاثنين 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par د. سيف دعنا

[**«الذين لديهم الحديد، لديهم الخبز»*] [*أوغست بلانكي.*]

يُسقِط المُغْرَمون العرب بالغرب من وعيهم وتصرفاتهم، ربما، أهم ما يفيد في كل التجربة الغربية التي يصل فيها احترام مقاومة شعوبهم وأبطالها درجة التقديس. وفي المقابل، يتبنى بعضهم أسوأ ما انتجه سياق الصراع السياسي - الاجتماعي في الغرب، حيث تعرضت بعض أهم التجارب الثورية الفذة لمحاولات المحو والإسكات والتشويه.

في واحدة، ربما، من أكثر العبارات حماسة في ما كُتِب عن الثورة، يَصِف ماركس في «الحرب الأهلية في فرنسا» اليوم الأول لكومونة باريس بنحو ساحر : «في صباح 18 آذار 1871، صحت باريس على صيحة كقصف الرعد : عاشت الكومونة.» وعبقرية العبارة العربية «الشعب يريد» التي تتردد وتلهم كل شعوب الأرض هذه الأيام، ليست أقل، إن لم تكن تتجاوز عبارة ماركس في سحرها وحماستها. لكن هناك، على تلة الشهداء في شمال باريس، حيث بدأ تمرد الكومونيون و«اقتحموا السماء» كما يقول ماركس، وحيث علت «كقصف الرعد» صيحة «عاشت الكومونة»، وحيث نصب الثوار مدافعهم الثقيلة، وحيث ابدعت الكومونيات، «نساء البترول،» في حرق الأرض بقنابل البترول في مواجهة جيش فرساي، كان بناء كنيسة القلب المقدس (بازيليك دو ساكريكور) بعد اربع سنوات من انتصار الثورة المضادة في ذات الموقع، بِهَدف قتل فكرة الكومونة. فالقوى التي كانت وراء بناء الكنيسة، المَعْلَم السياسي بامتياز، تمثلت في الكاثوليكيين شديدي المحافظة وأتباع المَلَكِية، فيما حاول منعَ بنائها مراراً (بالقوة وبالقانون) الباريسيون اليساريون وجمهوريو الهوى (انظر ديفيد هارفي : مَعْلَم وأُسطورة).

والموقع الذي بنيت فيه أيضاً، ذو دلالة في الجغرافيا السياسية، كما يشير هارفي. فلقد أقيمت بالذات في موقع الكومونة، رغم كونها تحمل فكرة نظام سياسي - اجتماعي نقيض تماماً، وارتفعت على أطراف أكثر المناطق ذات التاريخ الثوري والهوية اليسارية والعمالية في فرنسا (بلفيل). كما أنّ إمكانية رؤيتها بسبب ارتفاع التلة من مناطق عدة في باريس يعطي فكرتها سطوة، ويعزز هيمنة الفكرة خلف بنائها على هوية المكان أجمع.

لكن محاولات قتل فكرة الكومونة المستمرة، كما يشير الشعار اللاتيني (غاليا بويْنيتِنْس) المُتَضَمِن معنى الندم (فرنسا نادمة) والمنقوش في أسفل القبة المقوسة التي تحتوي على رسمة ضخمة للسيد المسيح، لم تستطع أن تمحو ذكرها إطالقاً. فلا يزال الآلاف يزورون في كل عام حائط ذكرى شهداء الكومونة في مقبرة الأب لاشيز (سميتيير دو بير لاشيز) الشهيرة، ويشاهدون اللوحة التي تؤرخ لموقع المعركة النهائية التي عرفت بالأسبوع الدامي (21 - 28 أيار 1871) ولليوم الأخير، الثلاثاء الدامي، حين أعدم رمياً بالرصاص وعلى ذلك الجدار تحديداً، 147 من ثوار الكومونة. لاحقاً وفي محاكم تفتيش مرعبة، أعْدم التحالف الطبقي الحاكم المتحالف مع الاحتلال الألماني حينها، عدداً أكبر مما أُعدم في كلّ الثورة الفرنسية الأولى، فانضموا الى الآلاف الذين سقطوا في المقاومة. كان الجنون في قمع أبطال الكومونة (رجالاً ونساء وأطفالاً) غير مسبوق في همجيته، كما أشار أنجلز (يصف ماركس حدث اليوم الأخير أيضاً في «الحرب الأهلية في فرنسا» وفي بعض من رسائله من تلك المرحلة).

ورغم أنّ الكومونة بالتحديد تعرضت وتتعرض لمحاولات المحو من الذاكرة لخطورة فكرتها (في العدالة الاجتماعية، المساواة، والديموقراطية القصوى - موضوع الجدل لاحقاً بين ماركس وباكونين - واكتشافها الصيغة السياسية الكفيلة بتحرير الإنسان) على الكيانات الأوروبية القائمة حينها والقائمة اليوم، فإنّ تقليدها وتراثها وفكرتها مستمرة في كل مكان. وليس أقلها، طبعاً، نشيد الأممية الفذ الذي يُغَنى بكل لغات الأرض وكتبه عضو الكومونة يوجين بوتييه من وحيها وبإلهام من بطولاتها في حزيران 1871 (عدا بناء الكنيسة الشهيرة حيث سقط الكثير من أبطال الكومونة ودفنوا الى الأبد في بطن تلك التلة، أُعيد أيضاً رفع مسلة/عمود فندوم - التي هدف رفعها أساساً إلى تخليد انتصار نابليون في معركة أوسترليتز، لكن أسقطه الكومونيون دلالة على الروح الاممية ورفضهم لما يمثله من نزعة قومية شوفينية). وفي الذكرى المئوية للكومونة، اقتحم أنصار فكرتها الكنيسة القابعة فوق جماجم رفاقهم وتمترسوا داخلها حتى تم إخلاؤهم منها بالهمجية المعتادة لرجال الشرطة، فكان هذا هو الإِحياء الأنسب للكومونة. وفي الذكرى السنوية، أيضاً، في 1976 حدث انفجار ضخم في داخل الكنيسة أحدث ضرراً كبيراً بالبناء وبإحدى قببها الرخامية الخمس (يشير انجلز في مقدمته لـ «لحرب الأهلية في فرنسا» إلى أنّه «في 5 أيار أمَرت الكومونة بهدم الكنيسة التي كانت قد بنيت تكفيراً عن إعدام لويس السادس عشر). لم يُعرف من حاول تفجير كنيسة القلب المقدس في 1976، لكن زوار مقبرة الأب لاشيز في ذلك اليوم، كما روى هارفي، كان بإمكانهم مشاهدة وردة حمراء وحيدة على قبر زعيم الكومونة المنتخب أوغست بلانكي (كان بلانكي قد اعتقل قبل التمرد بليلة واحدة، وحاول ثوار الكومونة تحريره في «عملية تبادل أسرى»).

[**الشعب المسلح*]

ورغم أنّ دروس الكومونة مثّلت محور الاهتمام بتلك التجربة، ورغم تركز الاستنتاج على فشل الرؤية الاقتصادية للبرودونيين (عدم تأميم البنك المركزي) والسياسية للبلانكيين (عدم تحطيم جهاز الدولة واستبداله كلياً) فإنّ أحد دروسها المهمة أيضاً هو أنّ الشعب/الجماهير المسلحة هي القوة الكفيلة بتحدي الغزو الخارجي ووقفه (انظر مقدمة انجلز للحرب الأهلية في فرنسا. أيضا سي. ل .ر جيمس: في الذكرى الـ75 للكومونة). فبرغم هزيمة فرنسا في مواجهة الغزو البروسي (الألماني) حينها، كان أهل باريس المسلحون هم المانع الوحيد أمام سقوط باريس. فبعد هزيمة الجيش الفرنسي وسقوط معسكراته وتسليم أسلحته وأسر جنوده، لم يتمكن الجيش الألماني سوى من احتلال زاوية صغيرة في أطراف باريس، وفقط لأيام محدودة بسبب حمل أهل باريس للسلاح. وبسبب الخطر الذي يشكله الشعب المسلح على الأعداء الخارجيين والمستبدين الداخليين، لم يكن سقوط الكومونة ممكناً بدون الخيانة الداخلية وتحالف حكومة فرساي مع المحتل الألماني ضد مقاومة شعبهم. ما حدث في حرب تموز وحرب غزة وما فضحته «ويكيليكس» عن التآمر مع العدو، وحتى الذهاب أبعد من العدو نفسه أحياناً، ليس جديداً، ولا ينبغي أن يكون مفاجئاً. ففي فصل «سقوط باريس»، يذكر ماركس أنّ سبب فشل مؤامرة «ملاك العبيد» الأولى لإخضاغ باريس في جَعل الجنود الألمان يحتلونها، كان فقط لأنّ بسمارك رفض. كانوا أشد عداء لشعبهم من العدو : «التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الأحداث تتشابه»، كما قال غسان كنفاني في إعادة صياغة عبقرية لمقولة ماركس الافتتاحية في «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت».

الشعب المسلح ليس رادعاً فقط للعدو الخارجي، بل أيضاً لمصاصي الدماء في الداخل أيضاً. وأولوية حكومة تيير في فرساي كانت إسقاط الكومونة أولاً (وتحديداً السيطرة على المدافع الثقيلة) وليس تحرير الوطن من الغزو الخارجي. لكن، هناك على تلة الشهداء، يمكن من يعرف قليلاً من التاريخ أن يسمع المكان ينطق بالأسرار، وبما حدث حتى بعد أكثر من مائة وأربعين عاماً، كما يقول هارفي.

واحترام، وحتى تقديس المقاومة والمقاومين في فرنسا، هو أحد الأشياء التي يتناساها العرب المغرمون بالغرب. فأسماء شهداء المقاومة الفرنسية المسلحة ضد النازية، أحفاد الكومونيين، وتاريخ استشهادهم، منقوشة في كل مكان سقطوا فيه، ويمكن رؤيتها بسهولة عند السير في شوارع باريس (في مناطق السوربون وسان ميشيل مثلاً). ويتناسون أيضاً التكريم المميز للمقاومة كما تدل عليه، مثلاً، حالة المقاوم الشيوعي الفرنسي الشاب «غي موكيه» الذي أُعدم رمياً بالرصاص مع سبعة وعشرين مقاوماً في السابع والعشرين من تشرين الأول 1941على أيدي النازيين. وحالة «غي موكيه» لا تختلف بروحها وجوهرها إطلاقاً عن تجربة ثوار «كومونة باريس» العظيمة، بل هي امتداد لها، وموكيه حتى ينتمي لنفس التقليد الثوري الكوموني الذي اسقط عمود فندوم دليل على هويته الأممية، وضم في صفوفه العديد من غير الفرنسيين.

ولم يقتصر تكريم الفرنسيين للثائر الشاب على فيلم مؤثر (الرسالة) عرض للمرة الأولى في 2007 فقط، بل إنّ رسالته التي أرسلها لأهله عشية إعدامه (وهي محور الفيلم وعنوانه) تُقرأ إجبارياً وبقرار من الحكومة في كل المدارس الثانوية سنوياً، مع كل حلول للذكرى. ورغم احتجاج البعض على هذا الاستغلال لمأساة الشاب الثائر من سياسي يَعْدَم الأَخلاق كساركوزي، فإنّ هذا المقاوم أصبح رمزاً وطنياً تُخلده أيضاً مع مقاومين آخرين قصيدة رائعة للويس أراغون ويُطلق اسمه، مثل غيره من المقاومين، على الشوارع، المدارس، ومحطات القطار.

[**كسر احتكار العنف*]

لكن يغيب في استحضار الغربيين لمقاومة شعوبهم للغزو أو الاستبداد أي نقد للعنف وأي دعوة إلى المقاومة السلمية، ولا يتذكرونها الا حين يتعلق الأمر بمقاومة غيرهم لهم ولأدواتهم. وينتشر في كلّ مكان في الغرب الذي يصلنا منه ذلك الوعظ الدائم عن النضال السلمي تماثيل لا عدد لها تُخَلِدُ مقاتلين لا سلميين (بعضها لأبطال حقيقيين وبعضها لمجرمين وسفاحين) وأقواس نصر ومعالم مماثلة تحتفي بحروب دامية (بعضها مجيد وبعضها ليس أكثر من غزو وعدوان). لكن استحضار كلمة «العنف» في الحقيقة هو هروب من السياسة وتجاهل لمنطق التاريخ، وتَمَترُس خلف قناع أخلاقي ساذج. ليس فقط لأنّ أشكال المقاومة المهمة تلك (المقاطعة للبضائع الصهيونية في حالتنا مثلاً) هي مجرد تكتيك في النهاية، لا استراتيجية كما قد يَلتبس الأمر على البعض. وليس فقط لأنّه ليس هناك حقاً من هو في موقع أخلاقي يُؤَهله نقد المُضطَهَد أو المُستَعمَر أو توجيه النصائح لهما. وليس فقط لأنّ العنف الثوري لا يتساوى ولا يقارن أخلاقياً إطلاقاً مع عنف الاستبداد والاستعمار الهمجي. بل أيضاً لأنّ دُعاة هذه الأفكار يعززون برأيهم ذاك، دعاية من يَخشى خَسارة احتكار العنف الضامن لهيمنته ويساندون بالتالي استمرار أبشع أشكال العنف (يَقتل الكيان الصهيوني أكثر من ثلاثمائة فلسطيني في ربع الساعة الأولى من الحرب الهمجية على غزة، ولا يَعِظه أحد من هؤلاء المنافقين بالإقلاع عن العنف). هذه الأصوات دافعها سياسي وليس أخلاقياً. ليس فقط لأنّ جوهر مشاكل الإنسان والمجتمعات عبر التاريخ ليست أخلاقية في المقام الأول، بقدر ما أنّ هذه الأخلاق ليست أكثر من معايير استطرادية متغيرة يفرض صيغتها دائماً القوي على الضعيف. بل، أيضاً، لأنّ كسر احتكار العنف هو أكثر ما يخشاه الطغاة والغزاة، ففيه قد تكون نهايتهم. كان بلانكي محقاً : «الذين لديهم الحديد، لديهم الخبز».

[**من فلسطين*]

وفي فلسطين، لم يكن لأي من الأسرى الذين تحرروا أخيراً أن يخرج من «الأكياس الحجرية» التي تَنخر رطوبتها العظام، كما يعرف كل أسير، لولا دماء البطلين محمد فروانة (1983 - 2006) وحامد الرنتيسي (1985 - 2006)، شهداء الوهم المتبدد، ولولا انتزاع ذاك الجندي الصهيوني بالقوة من داخل دبابته واعتقاله في عملية بطولية كان أهم ما فيها، وسبب نجاحها الأساس، الجرأة الكبيرة، لا التخطيط الفذ فقط. فبينما كان ذلك الإرهابي الصهيوني يتحصن مرعوباً كالفئران داخل آخر ما أنتجته تكنولوجيا الدروع من دبابات (فَقَدت سُمعتها في مواجهة مقاومين عزّل قرروا كسر احتكار العنف)، كان أبطال الوهم المتبدد يَلُفون الأحزمة الناسفة حول أجسادهم. ولم يتردد حامد الرنتيسي في اعتلاء برج المراقبة، حيث تحصن ثلاثة إرهابيين جبناء آخرون، ليفجر جسده فيهم. كان السيد نصر الله محقاً في وداع الشهيد صلاح غندور، فهؤلاء الأبطال هم «سرّ قوتنا، وسر ضعفهم».

وبينما اعتمد الإرهابيون المرعوبون من مقاومي غزة على آخر ما أنتجت تكنولوجيا المراقبة لحراسة احتلالهم، خَرج لهم أبطال «الوهم المتبدد» من بطن الأرض بعدما شقوا ما يقارب النصف كيلومتر في أحشائها. كانوا سبعة أبطال فقط، انقسموا الى ثلاث مجموعات، وانتهت عمليتهم ضد ما سمي «وحدة الإسناد والحماية» بتمريغ رأس كبير الكيان الصهيوني بالتراب، وفضح زيف عنجهيته المزعومة، وإرغامه على التبادل. كما يبدو الآن، هناك الكثير من السخرية في اسم هذه الوحدة التي قُتِل جميع من فيها باستثناء الإرهابي الذي اعتقل وواحد آخر أصيب بجروح. قد يكون على العرب، الذين لا يزال فيهم بعض الرهبة من وحدات الجيش الصهيوني، البدء جدياً بالسخرية من كل الأوصاف المتضمنة في أسماء هذه الوحدات المُختارة بعناية، فكلهم والله جلعاد. هذا جيش من «الجلاعيد»، فلا يرْهَبَنّه أحد.

ونتنياهو هذا الذي يُحِبُ أن يُصَوِر نفسه على أنّه لا يتنازل أبداً، وأنّه متعجرف وصارم سقط في أول امتحان حقيقي للإرادة وعَضّ الأصابع، ولم يكن حتى أكثر شجاعة من ذلك الجندي الجبان الذي شَغَل كل العالم رغم انّه، للصدق، لم يحاول إلا الاختباء فقط، ولم يجرؤ على المواجهة. كان نتنياهو ذاك، سابقاً، قَد قَصَدَ إعلان معارضته لعملية التبادل في 1985 كجزء من صورة مزيفة حاول صناعتها لنفسه منذ البداية. وكانت صحيفة «هآرتس» قد وقعت في فخ صناعة الصورة، وتوقعت في 18 آذار 2009، حين كان نتنياهو وليبرمان يشكلان الحكومة الأكثر تطرفاً، كما يقال لنا، أنّ إمكانية حصول التبادل ستكون أصعب كثيراً من ذي قبل. كل هذا الكذب انتهى الآن، «فالذين لديهم الحديد، لديهم الخبز».

وإذا أراد نتنياهو أن يعرف شيئاً عن الإرادة الصلبة فلينظر في قائمة الأسرى المحررين، وسيجد أنّ بعضهم تَحَرَرَ في عمليات تبادل سابقة وعاد للمقاومة بإصرار أكبر كما تشير أحكامهم الجديدة (علاء البازيان، مثلاً، تحرر أيضاً قبل هذه المرة في 1985)، أو ليستمع لصوت القائد الرائع أحمد سعدات في اليوم العشرين لإضرابه ورفاقه عن الطعام وهو يردد : «نحيا بكرامة أو نموت رافعي الرأس». أو ليسأل جهاز استخباراته عن الشهيد إبراهيم الراعي الذي لم تستطع كل همجية محققيهم أن تنتزع منه أي اعتراف، وانتهت الى اغتياله في أقبية التحقيق، لأنّه آمن بأنّ «القلعة لا تقتحم إلا من الداخل»، والأهم لأنّ «الاعتراف خيانة». أو ليقرأ، أو يشاهد، نتنياهو الصلب هذا، وصية أكثر من مائتي استشهادي فلسطينيي واستشهادية فلسطينية (كان أولهم الشهيد ساهر حمد الله التمام في 16 نيسان 1993 وبينهم إحدى عشرة استشهادية) ليعرف قليلاً عن معنى الإرادة. أو ليراجع ذو العنجهية المزورة تفاصيل القصاص من الفاشي رحبعام زئيفي ليعرف شيئاً عن رباطة الجأش. ففي صباح السابع عشر من تشرين الأول 2001، في الطابق الثامن من فندق ريجنسي في القدس، نادى البطل حمدي قرعان على أكثر وزراء الكيان فاشية بالاسم أولاً، وانتظره حتى يلتفت إليه وتلتقي أعينهما، وكأنّه أراد أن يبلغه بحكم الجبهة، قبل أن يطلق عليه رصاصاته الثلاث. أو ليقرأ رسائل الشهداء فؤاد حجازي، محمد جمجوم، وعطا الزير قبل إعدامهم على أيدي الاستعمار البريطاني في يوم «الثلاثاء الحمراء»، كما سماها الشاعر إبراهيم طوقان ليعرف قليلاً عن عقيدة فلسطينية قديمة : «ما نال من خدم البلاد، أجَلّ من أجر الشهيد»، كما قال طوقان. أو ليسأل عن معارك «الأمعاء الخاوية» ليعرف شيئاً عن معركة إرادة فريدة ومن طراز خاص. معركة لا ولن يدرك معناها أبداً، وذروتها الإنسانية الهائلة، إلا من عاشها لحظة بلحظة، وتماهى مع حالة وجودية فريدة يغيب فيها كلياً الفارق بين الفرد والجماعة. معركة لا ولن يدرك عنفها إلا من كان شاهداً على مجزرة اختفاء وتبخر أطنان من اللحم البشري يومياً، إذ لا سلاح للأسير في إضرابه إلا لحمه ودمه، ولن يدرك لؤمها إلا أسير يعلم أن أُمّه أيضاً أضربت مثله عن الطعام في البيت، وفي مكاتب الصليب الأحمر. كان معين بسيسو محقاً حين قال : «من لم تودع بنيها بابتسامتها الى الزنازين، لم تحبل ولم تلد». ونعرف اليوم أنّه كان أيضاً محقاً في «دفاتر فلسطينية» حين كتب «ما سجن انبنى على سجين».

أما محاولة تسويق كذبة احترام الإنسان اليهودي ومساواته لألف فلسطيني فلم، ولن، تنطلي على أحد. ليس فقط لأنّ الحكومة الصهيونية لم تتردد سابقاً في قتل أسراها لِتُبَخِس من قيمتهم المدّعاة (ما يسمى بروتوكول هانيبعل : جزء من عقيدة الجيش الصهيوني تدعو أعضاء الوحدة إلى قتل الجندي الأسير). وليس فقط لأنّ ذلك ليس أكثر من دعاية وحجة واهية لتبرير الخضوع لإرادة المقاومة والانكسار أمامها. وليس فقط لأنّ عمليات تبادل الأسرى تخضع أصلاً لموازين قوى من طراز مختلف تضع الصهيوني، وللسخرية، في موقع من يُبَخِّسُ من قيمة اليهودي في تناقض حقيقي مع قيم فارغة يَدّعون حَملها لتبرير انكسارهم. بل أيضاً لأنّ التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني في سياق عملية التبادل (حصار، شهداء، ومجازر) وهي أكثر بكثير مما قدمه الطرف الصهيوني، تؤكد القيمة العالية للإنسان الفلسطيني في فكر المقاومة. وأيضاً لأنّ المقاومة كانت قبلاً قد تصرفت على النقيض تماماً من دعاية الصهيوني، فالمقاوم لا يُمكن، ولا يَجب، أن يُقارن ولا أن يُقاس بأي عدد مهما كبر من الغزاة. فالمقاومة، مثلا، رَدَّتْ على اغتيال الشهيد يحيى عيَّاش بالثأر من أربعة وستين صهيونياً وثلاثمائة جريح (نفذها الاستشهاديون إبراهيم السراحنة ومجدي أبو وردة في 25 شباط 1996، ورائد الشرنوبي في 3 آذار 1996). ولم يكن هذا الرد في النهاية، كما يراه الكثير من الفلسطينيين، أكثر من سياسة ردعية حقاً، لا ثأراً متكافئاً (انظر حسن سلامة : عمليات الثأر المقدس). وأيضاً لأنّ المقاومة لم تَر القصاص من أكثر الوزراء الصهاينة فاشية (رحبعام زئيفي) أكثر من استراتيجية ردع ضد سياسة الاغتيال الإجرامية التي يمارسها العدو. فهذا الفاشي لم يكن كفؤاً، كما قالت الجبهة الشعبية حينها، أصلاً للثأر به لأبو علي مصطفى. فليست كل الرؤوس سواء.

لم يتضمن المنهاج الفلسطيني بعد أياً من هذه البطولات وغيرها الكثير. لكن، يدين الشعب الفلسطيني بتماثيل في الميادين العامة لكل هؤلاء الأبطال ليبقى الدرس حياً : «الذين لديهم الحديد، لديهم الخبز».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 157 / 2178711

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178711 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40