الاثنين 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

الدولة الأمنيّة في مواجهة روح الثورة

الاثنين 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par وائل عبد الفتاح

أخيراً وصل الجيش. انضمت ميليشيات الكاكي إلى القطعان السوداء، وتسلّمت القيادة لتخلي الميدان وتحرق الخيام.

من يقود من؟ الجيش يدافع عن هيبة الشرطة أم الشرطة تنفذ تعليمات الجيش؟ ظهرت جحافل الكاكي بعد 30 ساعة من إيقاع قنابل لم يتوقف لحظة، إلا مع علوّ صوت الكر والفر، حرب شوارع، وتبادل مواقع بين السلطة وثوار يدافعون عن روح الثورة المتجوّلة في المدينة.

ميدان التحرير ملهم، وعلامته لا تمحى من الوعي والسياسة والتواريخ الشخصية. والعسكر لا يعرفون سوى محو التمايزات، وإدخال كل شيء إلى مصنع ضخم لكائنات متشابهة تجيد السمع والطاعة. الدولة الأمنية رفرفت أعلامها أمس على ميدان التحرير، وظهر ضابط ضخم، وجهه كئيب، يصرخ في جنوده من جديد: «اطردوا ولاد …..من هنا». ولاد ال…. هؤلاء هم مصابو الثورة وضحايا جبروت الدولة الأمنية، لم يجدوا في نهاية المطاف سوى ميداليات المجلس العسكري يحملونها بينما تنهال عليهم هراوات الأمن المركزي وشتائم فرق الملابس المدنية.

انتصر الأمن المركزي على المصابين واستعاد الميدان… نصر مظفر للبوليس الذي غاب عن كل مهمة إلا قهر المتظاهرين. تسمع بعد الثورة حكايات كثيرة عن ضباط يرفضون البحث عن سيارة مسروقة أو الدفاع عن عائلة ضد بلطجي، لكنهم يشتعلون حماسة إذا كان الأمر يتعلق بضرب المتظاهرين.

«برافو»... الأمن المركزي شنّ حربه على المعتصمين في ميدان التحرير دفاعاً عن حقوق المصابين، ورفضاً لحكم العسكر وتسلل أصابع الكاكي لتفرض الوصاية على الدولة المصرية. الاعتصام حق مكفول بالقانون حتى في ظل أعتى ظروف الاستبداد، لأنه أصبح حقاً عالمياً… لا يمكن دولة حديثة أن تلغيه، والدول التي تمنع مواطنيها من حقوق التعبير هي دول ماقبل الدول، دول من زمن الكهوف والخيام والمغول، دول لا تنظر إلى الفرد إلا على أنه جزء من قطيع لا بد من ترويضه. ليس لنا حق في الأمان إلا إذا عدنا إلى قطعان السمع والطاعة وامتثلنا لأحكام الدولة الأمنية. هذه حقيقة اكتشفناها منذ زمن، وتأكدت أمس.

الدولة الأمنية تعود وليس الأمن. تترك الشرطة البلطجية، لكنها تطارد المتظاهرين، لأن الأمن بالنسبة إليها لا يتعلق بالفرد العادي، بل بالسيطرة وإعادة الناس في مصر إلى قطعانها.

الاعتصام والتظاهر حقّان على الورق فقط، ومن أجل الاستهلاك السياسي في البيانات وعلى شاشات التلفزيون… لكنهما في عقلية الدولة الأمنية قمة الاستفزاز، لأنهما يهدمان النظرية من أوّلها إلى آخرها.

نظرية «اننا مسيطرون»، وان البلد في القبضة الأمنية. النظرية انتهت من 28 يناير، وهذا ما يربك إدارة المرحلة الانتقالية التي تصدق عليها أوصاف نشطاء تويتر: المرحلة الانتقامية.

أين الأمن؟ نسأل المجلس العسكري وحكومته، فتأتي الإجابة العملية: ها هي الدولة الأمنية. ورغم إدراك استحالة عودة الدولة الأمنية بعد ثورة كسرت جيش العادلي وحطّمت أجهزة القمع… وعرفت الطريق إلى الدفاع عن نفسها في مواجهة الجبروت الأمني، هناك إصرار على أن الدولة الأمنية أولاً. الضابط ظل يصرخ بوجهه الكئيب أمس، يحرّض المواطنين على المتظاهرين والمصابين، ويعيد عليهم اسطوانات يكررها كل يوم تلفزيون أسامة هيكل. نظريات مؤامرة تستعطف الجمهور المتفرج ليعيد بنفسه الدولة الأمنية التي ستقهره. الحقيقة أصبحت واضحة: العسكر لن يعيد الأمن ليطلب الناس بأنفسهم عودة الدولة الأمنية.

الدولة الأمنية في العقل الذي يحكم المرحلة الانتقالية، وهي أمله ومنتهاه وآخر ما لديه. والثوري نزق لا يرضى إلا ما تمليه أحلامه، وفاتورة المخاطرة الكبرى التي تصوّر أنها انتهت يوم 11 شباط عندما أزيح مبارك عن الرئاسة.

الثوار يستعيدون الميدان والداخلية تحاصر، وتضرب طوال 20 ساعة بقنابل تستخدمها جيوش الاحتلال في «إسرائيل». روح الثورة لم تقتل.

ظلت تتجول في الشوارع، وعادت أمس إلى ميدان التحرير نداءً أكبر من الأحزاب والتنظيمات المستريحة إلى مواقعها بجوار سلطة المرحلة الانتقالية.

الثورة نادت أمس، ولبّى الثوار فرادى. كل منهم يشعر بالمسؤولية عن الثورة. لا أحد كبيراً في الميدان. لا رأس في الميدان.

لا قيادة في الميدان. بالضبط كما كان الوضع ليلة التنحّي. قالوا إنها اليوم التاسع عشر للثورة. وقالوا إن الثورة استعادت حيويتها في برد الشتاء. إنها العودة إلى الميدان بإحساس الدفاع عن الحلم بمصر جديدة، لا مكان فيها لدولة تستخدم آلات قمعها لتحقق السيطرة.

المجلس ترك الشرطة تواجه وحدها، لأول مرة بعد 28 يناير. تركها بعد أحداث ماسبيرو. لا يريد مواجهة مباشرة، ويخشى من اعتراضات وقلاقل في صفوف سترفض ضرب أهلها في الميدان.

الشرطة عادت لتنتقم. عادت لتحاول أن تكسب جولة تستعيد فيها هيبتها القديمة، رغم أن المجتمع منحها فرصة كبيرة باستعادة دورها المحترم في المجتمع، وإنقاذها من الخدمة للحكام… لكن هناك تنظيم مقاوم لعودة الشرطة إلى الحماية. تنظيم في الداخلية تحالف مع رغبة المجلس في السيطرة، لتبدو الفوضى مبرراً لتدخل أكبر، وهذا ما جعل عشاق التاريخ يستعيدون أجواء 1954.

لا يمكن العودة إلى 1954 إلا بفاتورة باهظة، لأن هناك شريكاً كامل الشراكة الآن، وهو ثوار التحرير. إنهم القوة التي حرّكت الجبل الراكد فوق صدورنا، وأسقطت رأس جمهورية الاستبداد والفساد، ولم تنجح كل محاولات الترويض والتدجين في صفوفهم لإقناعهم بالحصول على قطعة من «الترتة».

المجلس عقليته قديمة ولم يستوعب أن الثوار أكبر من أحزاب يستطيع التحكم في خطواتها طمعاً أو خوفاً. ولم يعرف بعد أن هناك أحزاباً تبني نفسها في الميدان، بقوة لا تقهرها سلطة.

انتهى زمن الشعب المدافع، وأصبح الشعب في موقع الهجوم، يدافع عن أحلامه في دولة لا يهان فيها ولا يشتمه شخص لأنه يحمل في يده عصا ويضع على كتفه رتبة اشتراها المجتمع بأمواله ليحميه هذا الضابط ولا يتحكم فيه. جرح الشعب من الشرطة أعمق من تخيّلات الجميع. لم يتحمل الثوار عودة الشرطة إلى سيرتها القديمة، عادت بكل أشباح دولة الإهانة والذل والظلم والقهر.

هذه الدولة لن تعود إلا بفاتورة باهظة.

الأحزاب المدجنة فقدت سيطرتها على أعضاء استعادوا روح التحرير وعاد من جديد مشهد يجلس فيه السلفي بجوار الفتاة بدون حجاب، والإخواني يتفق مع الليبرالي على كراهية تنظيمات السمع والطاعة، والالتراس يشحنون السياسيين بشحنات مضادة لقبول التسلط.

تحتاج العقدة إلى خطوة أكبر من كل ما يفكر فيه شطّار المرحلة الانتقالية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 26 / 2165482

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165482 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010