الأربعاء 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

محاكمة التاريخ

الأربعاء 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par ساطع نور الدين

بدت اللقطات السريعة كأنها من فيلم وثائقي قديم، بالأبيض والأسود، أُخرج من المحفوظات بعدما رُفع عنه الغبار، ليُعرض في فترة الأعياد على الكبار من هواة النوع، فيحيي في نفوسهم أسئلة صعبة لم يعثروا على أجوبتها طوال العقدين اللذين أمضاهما الرجل في السجن والعقود الثلاثة السابقة التي صرفها في قتال مثير للجدل والشك في صواب الأسلوب وفي خدمة الهدف الصائب.

صفحة عابرة من التاريخ مرّت بسرعة على شاشة التلفزيون، بدا الرجل كعادته أنيقاً رشيقاً واثقاً يوزّع التحيات والابتسامات على الحضور، كأنه ضيف شرف في حفل زفاف لا متهما في قاعة محكمة. كانت الجلسة فرصته ليختبر نفسه في الدعاية والعلاقات العامة، وليس مجرد مناسبة للخروج من الزنزانة الانفرادية الباردة التي استقر فيها منذ العام 1994 ولم يجد له نصيراً سوى رئيس مسقط رأسه الذي يهوى الشغب أكثر مما يحسن الثورة.

كان همّه الرئيسي أن يخلف الانطباع بان عقيدته لم تنهزم وإرادته لم تنكسر، مهما كان السجن المؤبد قاسياً. مظهره كان مجدياً، لكن كلامه لم يكن مؤثراً، إلا في بعض الحضور الذي صفق لخطاب لم يعد يلقيه احد ولم يعد يسمعه احد: لم يكن أي منهم يتوقع أن يتلو القائد فعل الندامة ويطلب الصفح والمغفرة من ضحاياه، لكن التشبث بهوية مزقتها السنون، لم يكن غرقاً جديداً في الذاكرة المثقوبة، بل مثاراً للسخرية المرة.

لعله كان يخاطب بعض الرفاق الباقين في السجن او الفارين من وجه العدالة الراهنة، يشد على أياديهم ويعدهم بان قائدهم لم يسقط ولن يسقط وسيظل يدافع عنهم حتى الرمق الأخير، وسيظل يسعى الى تبرئتهم او تخفيف الأحكام عنهم او تشجيعهم على المضي قدماً في حياتهم الجديدة من دون خوف او قلق... ومن دون ان ينسوا انه ينتظر منهم أن يُعِدّوا خطة لتأمين هروبه من السجن، او لضمان إطلاق سراحه بأي شكل من الأشكال.

طالت الإقامة في السجن، وهي قد تمتد الى مؤبد جديد، تبدد الأسطورة التي انتهت بالفعل: ما زال ابن آوى ثائراً بالفطرة، او بالحرفة التي ليس لها وريث. ما زال مواطناً فلسطينياً فخرياً، برغم ان الهوية الفلسطينية فقدت بريقها وتركت شعلتها لأجيال جديدة فقدت القدرة على التسبب بحريق صغير. ما زال مواطناً أممياً برغم انه لم يبق من الأممية سوى الذكريات. وهو يرفض ان يكون فنزولياً فقط او حتى لاتينياً، لكي لا يقر بان معركته انتهت وآن أوان التقاعد والبحث في ارض آبائه وأجداده عن قبر.

كانت اللقطات التلفزيونية الخاطفة محيرة: في قاعة المحكمة ظهر جانب معتم من صورة العرب الماضية، التي رفعها ابن آوى في مختلف أنحاء العالم، ولا يزال. هل كانوا يحاكمون تلك الصورة التي لم يعترف كارلوس او ربما لم يعرف أنها تغيرت، أم كانوا يحاكمون عنصراً إرهابياً لم يعد له مكان في هذا العالم؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2180754

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2180754 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40