الجمعة 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

ليبيا ودرس التدخل الخارجي

الجمعة 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par د. سمير كرم

انتهى عهد معمر القذافي في ليبيا. هذا أمر مؤكد، او على الأقل شبه مؤكد، الى أن يثبت عكس ذلك. لهذا فإن كل الاهتمام ينبغي ان يوجه الى ليبيا العهد الجديد.

فهل يصلح قتل القذافي وبالطريقة التي قتل بها بداية للعهد «الثوري» «الديموقراطي» في ليبيا؟ والسؤال هو نفسه إذا ما وضع بصيغة أخرى هي، هل الطريقة التي أنهيت بها حياة القذافي تنبئ عن الطريقة التي سيتعامل بها النظام الجديد مع أعدائه. والمؤكد أن للنظام الجديد أعداءً حتى وإن استبعدنا «القذافيين» منهم؟

إن هذا القتل، وبهذه الطريقة، لا يصلح بداية لعهد جديد يعلن الديموقراطية والحرية والتسامح والصفح والتـصالح، مبادئ أساسية جديدة لإعادة بناء ليـبيا. ربما لهذا حرص المجلس الانتقالي على ان يؤجل موعد إعلان تحرير ليبيا الكامل الى ما بعد ثلاثة ايام من قتل القذافي، بعد ان تبين ان هذا القتل لن يمر من دون تساؤلات وإجابات بديلة، خاصة من جانب الإعلام الغربي، إعلام دول حلف الأطلسي؟ لقد ترددت بكثرة تساؤلات عمن قتل وعمن اصدر أمر القتل بعد أن كان القذافي في لحظاته الأخيرة قد ذاق التعذيب على أيدي آسريه في سرت، واستخدمت ضده كل ألوان الإهانة من ضرب وسحل وشتم. وفي الحقيقة فإن جنرالات حلف الأطلسي هم من أصدروا أمر إطلاق الرصاص على القذافي بعد هذا كله. فقد كانت لهم السيطرة الكاملة من الجو على كل جزء من التراب الليبي «بعد تحريره»، وكانوا هم الذين قادوا الثوار في سرت الى مكان القذافي لإصدار الأوامر والتعليمات والتوجيهات إليهم، وكانوا على اتصال هاتفي (الكتروني) مباشر معهم طوال الوقت. وتشير الدلائل الى أن احمد جبريل الرجل الثاني ـ القادم من اميركا ـ في المجلس الانتقالي، كان حلقة الاتصال بالعربية بين جنرالات الأطلسي والثوار قبل وبعد سقوط القذافي في الأسر أو اعتقاله. إن السلطة التي كانت قائمة في ذلك الوقت والتي تملك قدرة السيطرة الكاملة على التراب الليبي هي المسؤولة، بمن فيها قيادات حلف الأطلسي. وهذه القيادات لم تكن ـ كما توهم كثيرون ـ تقتصر على قيادات القوات الجوية. كان هناك رجال المخابرات من دول الأطلسي المشاركة، وقد أذاع الإعلام الغربي أن المخابرات الألمانية، على وجه التحديد، هي التي دلت على مكان وجود القذافي في الدقائق التي سبقت إلقاء القبض عليه.

بل إن بعض الإعلام الغربي أشار الى احتمال أن تكون هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية ـ التي زارت ليبيا قبل 48 ساعة من القبض على القذافي وغادرتها قبل وقوع هذا التطور المهم، هي التي أصدرت الأمر الأساسي بقتل القذافي وعدم الإبقاء عليه حياً ليساق الى المحاكمة. خاصة أنها طالبت بالقبض عليه وإعدامه وهي في ليبيا ولم تطالب بمحاكمته. ومفهوم تماماً أن محاكمة القذافي لم تكن تلائم الدول الأطلسية وبخاصة الولايات المتحدة. فالرجل كان يعرف أسراراً عن العلاقات بينه وبين الغرب تشيب لها الرؤوس. ولكن كلينتون عادت فضمت صوتها الى المطالبين بالتحقيق في مقتله عندما تطرقت الى الموضوع مرة ثانية في واشنطن يوم الأحد الماضي.

لقد نفذ حلف الأطلسي المهمة كاملة في ليبيا، ومع ذلك فإن إعلان إنهاء المهمة العسكرية لم يتزامن مع إعلان تحرير كامل ليبيا من جانب المجلس الانتقالي، إنما تأجل الى ما بعد ذلك. فقيادات الأطلسي الميدانية وقياداته الأعلى في عواصم اميركا وأوروبا لديها تصور أو معلومات أوضح من أن تعتبر أن المهمة انتهت. إنها ترى أن صراعات القوى السياسية المتباينة في ليبيا بعد قتل القذافي وإعلان التحرير الكامل ستحل بالتأكيد محل الصراع السابق مع القوى القذافية. وليس معنى هذا أن القيادات الأطلسية لا تريد هذا الصراع أن يقع. إنه صراع مطلوب لتصفية القوى الليبية التي لا تتلاءم مع مصالح حلف الأطلسي. والسؤال الأهم الآن هو إذا كان حل الصراع أو الصراعات التالية في ليبيا سيقع على عاتق المجلس الانتقالي تحت توجيه الإدارة الأميركية أو القيادات الأطلسية في ليبيا أو في عواصم أوروبا، أم انه يمكن أن يتطلب مد فترة بقاء ـ وربما زيادة قوات ـ الأطلسي في ليبيا بقرار أطلسي لا يصعب الحصول على موافقة عليه من السلطة الجديدة. حتى لو افترضنا أن الوقت سيأتي حين تشعر السلطة الجديدة في ليبيا ان طلب المساعدة من الدول الغربية كان ورطة من جوانب كثيرة لأي حكم وطني ليبي(...).

لا نعرف من الآن إذا كانت القيادات الأطلسية العسكرية أو المدنية تعرف من يوافق مصالحها في ليبيا أكثر من غيره من القوى التي تتسلم السلطة في ليبيا خلال الأشهر القادمة. ولكن من المؤكد أن القوى الأطلسية تعرف جيداً أن المصالح الأميركية تملك أولوية على غيرها من مصالح الأطلسي، وأن هذا لا يعني أن وئاماً أطلسياً كاملاً سيحل في الشأن الليبي، ولا بد أن نضع في اعتبارنا أن الولايات المتحدة قد تمكنت من إخضاع الأمم المتحدة من بداية هذا الصراع حتى الآن، وهذا أصعب كثيراً من إخضاع الحلف الغربي، بسبب أعداد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة واختلاف اتجاهاتها ومصالحها بالمقارنة بأعداد الدول الأعضاء في حلف الأطلسي وتجانس المصالح بينها الى حد لا يستهان به.

وقد بدت في الآونة الأخيرة بوادر صراع داخل الأمم المتحدة يتعلق بقتل القذافي والطريقة التي اعدم بها، عندما قررت لجنة حـقوق الإنسان فتح تحقيق دولي في هذا الأمر. وليس من المستبعد أبداً ان تكون الأمم المتحدة مستعدة للسير في تحقيق من شأنه إضعاف الحكم الليبي الجديد. وليس من المستبعد أبداً أن يكون هذا القرار متمتعاً بتأييد الولايات المتحدة بهدف إضعاف الحكم الليبي الجديد ليبقى بحاجة الى الدعم الأميركي، وذلك لأن من شأن التحقيق الدولي في مقتل القذافي أن يثير من العواصف داخل ليـبيا ما يفاجئ السلطة الجديدة ويضطرها مرة أخرى الى طلب تأييد الغرب، وخاصة أميركا.

والملاحظ أن الإعلان يوم الأحد الماضي عن تحرير ليبيا الكامل قد حرص على أن يتضمن كل التطمينات من المجلس الانتقالي ـ وخاصة على لسان رئيسه المستشار مصطفى عبد الجليل ـ عن حكم دولة القانون وعن الصفح والتسامح.

الأمر المؤكد أن المرحلة القادمة في ليبيا التي ستسودها المحاولات من جانب السلطة لجمع السلاح من أيدي «الثوار» لن تكون مرحلة سهلة. فالسلاح منتشر في أيدي الليبيين بصورة لم يسبق لها مثيل ربما في أي بلد آخر ـ ولسنا نقصد هنا البلدان العربية وحدها - والسلاح مصدر للسلطة ولا احد يتنازل عن السلطة عن رضى وبصدر رحب، خاصة في الظروف السياسية الراهنة في ليبيا وفي ضوء المسافات الشاسعة التي تفصل بين مناطق ليبيا المأهولة. يضاف الى هذا كله تركيبة ليبيا القبلية ذات الطابع الخاص الذي يستوجب الاحتفاظ بالسلاح كمصدر للأمان والأمن.

ربما كان السؤال الأكثر إلحاحاً الآن من كل الأسئلة المثارة بشأن ليبيا هو السؤال الذي تفرضه اعتبارات وجود ثورات أخرى في الوطن العربي، وخاصة حول ليبيا جغرافياً - في مصر وتونس - وحولها سياسياً في سوريا واليمن، والغد مفتوح على احتمالات عدة، هو لماذا حدث ما حدث في ليبيا بالذات؟

وثمة إجابات كثيرة سريعة على هذا السؤال. ربما يكون من بينها التركيبة القبلية الليبية، كما أن من بينها انطلاق الثورتين التونسية والمصرية في الجوار المباشر لليبيا، ومن بينها السهولة والسرعة التي إليها القوى «الثورية» الى طلب التدخل الأجنبي. لكن من المستحيل الاعتقاد إن «طبيعة الشعب الليبي» كانت سبباً مباشراً لما حدث، خاصة في طريقة التعامل مع القذافي بعد القبض عليه. لا احد يستطيع أن يرمي الشعب الليبي بقدر من الميل للعنف والدموية يتجاوز ما تتسم به الشخصية التونسية غرباً أو الشخصية المصرية شرقاً. إنما هي السهولة والسرعة التي لجأت إليها القوى «الثورية» الى طلب التدخل الأجنبي. لقد لعب التدخل الأجنبي دوره الذي أضفى هذا العنف وهذه الدموية على السلوك الليبي تحت توجيه القيادات الأجنبية، من اللحظة الأولى لهذا التدخل حتى اللحظة التي افترض أن تكون الأخيرة، وهي لحظة القبض على القذافي وما جرى له قبل أن يقتل.

لقد أعطى التدخل الخارجي في ليبيا درساً عميق الأثر للثورات العربية. إن هذا الاستعداد لطلب التدخل الخارجي هو ما أدى الى إعطاء الثورة الليبية على نظام استبد بليبيا طيلة اثنين وأربعين عاماً هذا الطابع اللاإنساني العنيف والدموي. ولو أن المواجهات بين الثوار ونظام القذافي وقعت من دون تدخل خارجي، لما كان يمكن أن تطول المواجهات لفترة زمنية أطول مما طالت مع التدخل من جانب حلف الأطلسي. لسوف يسجل التاريخ لحلف الأطلسي انه أطال زمن القتال والقتل في ليبيا بأكثر من احتمال النظام الذي بدا معزولاً وممقوتاً من الغالبية العظمى للشعب، لكن مصالح المتدخلين من الخارج أملت لهذه المواجهات شروطاً لاءمتها أكثر مما لاءمت الثوار.

بالتالي فإن ما حدث في ليبيا ابتداءً من التدخل الغربي قابل للحدوث في أي من ثورات الربيع العربي شرط أن يتحقق شرط التدخل الخارجي الذي يحسب قيمة مصالحه فوق كل قيمة أخرى. ولهذا فإن على من يطلب التدخل الخارجي أن يعرف انه سيكون عبداً يُؤمَر فيطيع.

هذا درس لا تفوقه في الأهمية كل دروس الثورات الأخرى، وقد علمت ليبيا ثورات الربيع العربي الأخرى درساً ليس في مقدور احد أن يعلمه أو يتعلمه إذا كان بصدد ثورة. لهذا يمكننا أن نجزم بأن ما حدث في ليبيا لا يمكن أن يحدث في مصر او تونس او اليمن او في سوريا إلا إذا أتيح لحلف الأطلسي كلياً او جزئياً أن يتدخل بالقوة لحساب طرف ضد الآخر او الآخرين.

ليبق حلف الأطلسي بعيداً بأي ثمن حتى لا يتكرر ما حدث في ليبيا .. حتى لا تتهم ثورات الربيع العربي بأنها ثورات العنف الدموي، وحتى لا تتهم الشعوب العربية بأنها تميل الى الوحشية وتحتاج الى من يلجم نزعاتها الى العنف وسفك الدماء. الأمر الذي يتطلب أن يفرض عليها حكم الخارج وقراراته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165277

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165277 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010