الخميس 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

كنّا نطهو لهم الخبز

الخميس 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par يوسف أبو لوز

دموع ليست كاللؤلؤ، لأنها أغلى منه، سكبها الفلسطينيون قبل يومين، أو قبل عمرين على طريقتهم الخاصة في طقس تراجيدي يُبكي الحجر. الأم تبكي على صدر ابنتها، والابنة تبكي على صدر أمها. الكهل يرتجف قلبه، والشاب يشرق بدموعه، عرس دموع أو شتاء دموع. لغة بشرية من الماء والملح. مشهد فيه من الألم الإنساني بقدر ما فيه من الفرح. صورة إنسانية تماماً. صورة كلية تتقاطع فيها أمواج من الصور، والصورة هنا أكبر من اللغة. أكبر من الشرح والكلام. صورة شعب يبكي لا لأنه ضعيف، بل لأنه انتصر على ضعفه ببطولة صامتة. بطولة بلا هتاف ولا أوسمة .. بطولة الحرية.

كل أسير له قصة. كل أسيرة لها رواية. للأسير الفلسطيني زمن ومكان. لم يكن معتقلاً في سجن، هو الذي اعتقل السجن، بصورة ما السجان هو السجين والأسير.

حكم المؤبد، المؤبدات، مئات وآلاف السنوات تقع اليوم على الجلاد. الضحية في الهواء الطلق. الأسرى فازوا بالحرية. عادوا إلى بيوتهم حتى ولو كانوا كهولاً وذابت أعمارهم خلف القضبان. الجلاد خلف القضبان. جلاد يبحث عن حرية، ولكنه لا يجدها إلا في مسدسه وبندقيته. وطن السجان هو بندقيته. رجل دموي محشو في فوهة مسدس هنا ينام. نعم ينام. قد ينام في منزل أو في مستوطنة أو بالقرب من البحر، ولكنه لا يحلم. نومه كاذب. نومه خفيف ومكشوف مثل ريشة في ذيل طاووس، ينفخ عليها طفل في الثالثة من عمره فتطير في الهواء، وتقع على شجرة من الشوك.

«.. نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا ..» يقول محمود درويش : يحق للفلسطيني أن يحب الحياة. من حقه الحرية، وها هو يصنعها ويحققها ويحتفي بها. يحتفي بالحياة.

كل حرية للفلسطيني، حتى لو جاءت بعد دهر، هي عبودية لـ «الإسرائيلي» قاتل الحجر والشجر والبشر.

تلك هي رحلة الفلسطيني. شهيد يذهب إلى التراب، وأسير يذهب إلى السحاب. الأسير كوكب من البرتقال. يستعير من وطنه لون الشجرة وغناء العصفور، لذلك لا تصدأ روحه في السجن. في مكانه الحديدي الضيق هذا يحلم الأسير الفلسطيني، الأسير العاشق كما يسميه «جان جينيه» الذي زار المخيمات الفلسطينية في لبنان في أواخر سبعينات القرن الماضي، وهناك اكتشف عبقرية الذات الصامدة بكل مغزاها الوطني والإنساني.

انتصر الأسير على الخوف.

انتصرت المرأة لأمومتها، وعادت إلى دورة الخصب والولادة، عادت إلى البيت. بيتها القروي الذي نجا من أسنان البلدوزر.

عادوا إلى بيوتهم. كنا ننتظرهم ونطهو لهم خبزة الزيت والزيتون والزعتر. ليتناولوا إفطارهم في الهواء الحر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 35 / 2165937

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165937 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010