الاثنين 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

صفقة الحرية

الاثنين 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par د. عبد الحليم قنديل

صفقة الإفراج عن شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني عنوان لتوازن قوى جديد في الصراع العربي «الإسرائيلي» المتصل بفصوله إلى أن تستقر النجوم في مداراتها الأصلية.

قصة أسر الجندي «الإسرائيلي» جلعاد شاليط معروفة، وجرت وقائعها قبل أربع سنوات، وكانت عملاً طليعياً ممتازاً لكتائب عز الدين القسام الجناح لعسكري لحركة «حماس»، لم تكن العملية الأولى من نوعها بالطبع، فقد سبقتها عمليات احتجاز لجنود «إسرائيليين» طوال رحلة الكفاح الفلسطيني، لكن «إسرائيل» كانت تنجح في الوصول إلى أسراها، وإطلاق سراحهم، وهو ما لم يتيسر لها أبداً في حالة شاليط، والذي كانت عملية أسره عبقرية من الزاوية العسكرية، وكان الاحتفاظ به طوال هذه السنوات، وإفشال كل محاولة «إسرائيلية» في الوصول إليه، كان ذلك عملاً عبقرياً آخر، ويرقى لمقام الأسطورة، فقد جرى احتجاز شاليط في غزة، والتي لا تزيد مساحتها الكلية عن 365 كيلو متر مربع، وتبدو مكشوفة بالكامل أمام التكنولوجيا «الإسرائيلية» المتقدمة، وكانت مليئة بعملاء «إسرائيل» من ضعاف النفوس، والذين ساعدوها في توفير معلومات غاية في الدقة والحساسية، مكنت الجيش «الإسرائيلي» من تنفيذ عمليات اغتيال متكررة لقادة «حماس» الكبار، لم تستثن الشيخ أحمد ياسين مؤسس «حماس» ومرشدها الروحي، وكانت تلك نقطة فاصلة في مجرى صراع مخابراتي وعسكري غاية في الشراسة، دفعت «حماس» إلى تطهير غزة من العملاء، وإلى إحكام تكتيكات التخفي، والاستفادة من تجربة «حزب الله» بالذات، وتقوية ذراع العمل المخابراتي، وأثمر العمل الدءوب في توفير حصانة لغزة، والتي تقع بمساحتها الصغيرة كلها في مرمى البصر الكاشف للأجهزة «الإسرائيلية»، وهنا بالضبط كانت المعجزة، وظل شاليط في يد «حماس»، وفي مكان لا تصل إليه يد «إسرائيل»، والتي دبرت عشرات الخطط للوصول إليه، وتعهدت تسيبي ليفني، ومن بعدها بنيامين نتنياهو بإطلاق سراحه، وشنت «إسرائيل» عدوانها الواسع النطاق على غزة في أواخر 2008 أوائل 2009، أغرقت غزة في رصاصها المصهور، وواصلت الحرب المجنونة على مدار ما يقارب الشهر الكامل، لكنها فشلت بالجملة، تراجعت عن اقتحام غزة، ولم تستطع قلب حكم «حماس»، ولا استطاعت الحصول على معلومة واحدة مفيدة عن مكان احتجاز شاليط، واضطرت بعدها إلى الرضوخ لشروط «حماس» في تفاوض غير مباشر، لعبت فيه المخابرات الألمانية دوراً، وأسفر عن تحرير عشرات الأسرى الفلسطينيين، وفي مقابل شريط فيديو، يظهر فيه شاليط، ويؤكد «للإسرائيليين» أنه لا يزال على قيد الحياة، ويطالبهم بالتجاوب مع صفقة الإفراج على الطريقة التي تفضلها «حماس».

كانت حكاية شاليط صداعاً دائماً في رأس الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة، وقد جربت «إسرائيل» كل السبل المتاحة، استعانت بجهود المخابرات الأمريكية دون نفع محقق، وضغطت على «حماس» بمزيد من عمليات اعتقال قادتها في الضفة الغربية بالذات، وطلبت عون «جماعة إسرائيل» الكامنة في قيادة حركة فلسطينية كبرى، واستعانت بصديق «إسرائيل» الأكبر وكنزها الاستراتيجي الأعظم حسني مبارك، والذي زاد في إغلاق المعابر وتشديد الحصار على غزة، وضغط من خلال رئيس مخابراته اللواء عمر سليمان، وبهدف خفض شروط «حماس»، وتسهيل عملية إطلاق شاليط خدمة «للإسرائيليين»، وتحطمت الضغوط كلها على صخرة تصميم «حماس»، وجهد كوادرها البطولي الخارق في عمليات التمويه وإخفاء شاليط، وإلى أن اختفى مبارك من السلطة، وفقد صفته كرئيس مع النجاح الأول للثورة الشعبية المصرية، وهنا بدأ التخلخل في طوق الحصار الاستراتيجي المفروض على «حماس»، وسرت روح جديدة في القاهرة، وفي جهاز مخابراتها بالذات، انطوت صفحة عمر سليمان الذي كان يكره «حماس» بجنون، ولعب رئيس المخابرات المصرية الجديد اللواء مراد موافي دوراً أفضل، وحقق اختراقاً في دفع «حماس» و«فتح» إلى توقيع اتفاق المصالحة، ثم حقق اختراقه الكبير الثاني في إتمام صفقة شاليط، وجمعت المخابرات المصرية كل الخيوط في يدها، وأدارت تفاوضاً مع ثلاثة أطراف في وقت واحد، تفاوضت مع وسطاء المخابرات الألمانية ، وجلبت وفدين من «حماس» ومن «إسرائيل» إلى القاهرة، وبطريقة سرية، وأدارت التفاوض غير المباشر بينهما، وبروح التفهم لمطالب «حماس»، وممارسة ضغط أكبر على «الإسرائيليين»، وبما أسفر في النهاية عن صفقة تحرير ألف أسير فلسطيني مقابل جندي «إسرائيلي» واحد.

وبالطبع، فإن كاتب السطور يعتقد أن هذه ليست الصورة المثلي لمصر، ولا لدور جهاز مخابراتها العتيد، والذي بني في الأساس كإطار لعمل وطني ضد «إسرائيل»، وليس للتفاوض معها، ولا للعمل كوسيط، وهذه قصة أكبر على أي حال، وفصولها متلاحقة حتى يتحقق أمل غالبية المصريين الساحقة، وتتحرر مصر من محنة «كامب ديفيد» وما تلاها، لكن المحصلة إلى الآن مراوغة، وإن كانت أقل بؤساً مما بدا عليه الحال في أيام المخلوع مبارك، فثمة تغيير في البيئة النفسية، وإن لم نصل بعد إلى حد التغير الجوهري في المواقف، وكل تغيير في مصر مهما تواضع يؤثر بشدة، ولصالح العمل الفلسطيني بالذات، وتبدو قيادة «حماس» واعية مدركة للفرص المستجدة، وحريصة على الاستفادة منها، وعلى توفير ظهير مصري أكثر أماناً لعملها السياسي بالذات، وهو ما يخلق معادلة جديدة، تتيح لـ «حماس» إدارة مفاوضاتها غير المباشرة من موقع أفضل، وتعزز من حصانة قاعدتها السياسية والعسكرية في غزة، وتجعل من حركة «حماس» مثالاً مقارباً لحالة «حزب الله»، تطور في قوة الردع العسكري، وترفض التفاوض المذل على طريقة محمود عبَّاس، وتقلد «حزب الله» في طرائق عمله السياسي المقتدرة، وربما لا تكون مصادفة، أو قل أنها مصادفة ذات مغزى بليغ، أن تتكرر المشاهد ذاتها، ففي سيرة «حزب الله» ملاحم لاختطاف وأسر جنود «إسرائيليين»، وبهدف استخدامهم كورقة تفاوض ضاغط لإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين، وإجبار «إسرائيل» على تجرع السم، وهو ما فعلته «حماس» في حالة شاليط، وأعلنت كتائب عز الدين القسام عن اعتزامها تكرار عمليات خطف وأسر جنود «إسرائيليين»، فالتشابه في التكتيك موجود، ويرقي إلى حد العقيدة القتالية في ظروف ميدان متقاربة، وحتى التشابه في الوساطات موجود، فالوسيط الألماني قائم بدوره في حالة عمل «حماس» كما «حزب الهش»، وإن كان دور المخابرات المصرية هو العنصر المميز في حالة عمل «حماس»، وهذه كلها تفاصيل، فالمهم أن صفقة الحرية تمت، وهي قابلة للتكرار، وإلى أن تتحرر فلسطين بشراً وحجراً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 98 / 2165531

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165531 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010