الاثنين 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

أجداد وأحفاد.. سقط رهان ديفيد بن جوريون

الاثنين 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par د. عبد الحليم قنديل

كان مؤسس كيان الاغتصاب «الإسرائيلي» يراهن على الأثر المدمر لماكينة الزمن الداهس، يراهن على موت الأجداد الذين شهدوا النكبة، وعلى نسيان الأحفاد لفلسطين.

وبرغم أن الموت هو سنة الخلق، فإن أياً من الأجداد الذين عاشوا النكبة لم يسلم بنتائجها، وظل الأجداد يحلمون بالعودة، ويحملون معهم مفاتيح بيوتهم، لا ليذهبوا بها إلى قبورهم، بل لكي يسلموها إلى أبنائهم جيلاً فجيل، وظل الأحفاد يتذكرون فلسطين، حتى ولو لم يشاهدوها يوماً، إلا في الكتب والخرائط، وعلى شاشات الفضائيات.

وقبل أسبوع، كنت في عمَّان، لم يكن ممكناً التخلف عن تلبية الدعوة الفلسطينية، ومن مؤسسات مستقلة كجمعية بيت المقدس ولجنة يوم القدس، مؤسسات أقامها الأجداد الذين ظلوا على قيد الحياة، ويفيض عملها بحضور الأبناء والأحفاد، وتقاوم دواعي النسيان وعوامل التعرية، وتصل ما انقطع مع فلسطين، ومع القدس وأهلها المرابطين إلى يوم الدين، تقدم ما تيسر من عون، وتحيي ما توهج من ذكرى، وتبدأ الرحلة من أول السطر، وفي تصميم لا تفتر حماسته على استعادة فلسطين لأهلها، وربط أجيال الناشئة بحلم العودة والتمكين.

كانت فقرات حفل التبرعات من أجل القدس تتوالى، وفي مبنى النادي الأرثوذكسي بعمَّان، وكان الدكتور صبحي غوشة رغم وهن الصحة، ورغم أحمال السنين فوق كتفيه، يتحرك في سلاسة، وبرقة الفراشة، وكأنه يستعيد شبابه الأول في القدس، وفي أوساط حركة القوميين العرب، وفي إنشاء جمعية المقاصد الخيرية، كان المناضل العجوز يبتسم، وهو يخاطب رجالاً ونساءً، وشباباً وأطفالاً، وعلى شفتيه كلمة فلسطين التي تملأ قلبه، وآلام القدس التي يعرفها بيتاً بيتاً، ويعرف عائلاتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها وحواريها وأزقتها، وكما لو كانت القدس منقوشة على كف يده، كان غوشة يبدو كأيقونة مقدسية، لم يدركه تعب الروح برغم إخفاقات النضال الفلسطيني، وفي كافة مراحله التي شهدها، وشارك فيها بنشاط لم تهزمه الخيبات، وظل يحاول من جديد، ويحث على بناء شبكة مجتمع أهلي واسعة، تحشد الدعم المعنوي والمالي لنصرة فلسطين، وتستثير الولع بفلسطين عند الصبيان والصبايا، وقد تلاحقت مواكبهم على خشبة المسرح، تغنى من أجل فلسطين، وتحملها على بساط الريح، وتجعلها وطناً في الوجدان يعيد بناء الجدران، وكأن لا شيء تهدم في القدس الصامدة رغم حملات التهويد والتهديم، ورغم الصمت الكئيب في العواصم العربية، وحتى في بيت سلطة رام الله، رغم الخذلان والنسيان، تظل شمعة القدس متقدة، وتضئ عذاب البشر والحجر.

كان الحضور المذهل لفلسطين في وجدان أجيالها الجديدة، وروح التصميم والثقة التي تملأ النفوس، كان سقوط رهان بن جوريون بعضاً مما دار من حديث مع مرافقي الكريم الدكتور بسام أبو غزالة، وهو مناضل فلسطيني من الرعيل الأول في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد صار من سنوات وعقود مناضلاً مستقلاً، أنهى سنوات خدمته كطبيب، ويعمل كاتباً ومترجماً، وشريكاً في منتديات مجتمع أهلي فلسطيني وعربي، بدا أبو غزالة ـ النابلسي ـ مهموماً، ولكن مليئاً بالثقة في أجيال تأتي، وتحمل الحلم الفلسطيني إلى مدارات النجوم، وبدا الرجل ممتناً مقدراً لحماس الدكتور صبحي غوشة، ولجهده الدائب اليومي المتصل، وفي عمَّان القريبة بجوار الجغرافيا من أنوار القدس، والأقرب بالتكوين السكاني إلى الوجع الفلسطيني، لكن أبو غزالة بدا سعيداً ومندهشاً حين حادثته عن مكان آخر بعيد، فقد ذهبت في أيار/مايو 2011 إلى مدينة «جوتيبرج» السويدية، وبدعوة فلسطينية أيضاً، ولإلقاء محاضرة في الموضوع نفسه الذي ذهبت به إلى عمَّان، وهو عن أثر الثورات العربية على قضية فلسطين، كانت مناقشات السياسة بطبعها ملتهبة، لكن ما لفت نظري كان شيئاً آخر، وفي صورة يوم فلسطيني كامل، يقام مرة كل عام في ذكرى النكبة، كان جفاف الحياة السويدية وغربتها يخلى مكانه، وكانت فلسطين وحدها تضيء خشبة المسرح، الأعلام والكوفيات وملابس النساء التراثية الأصيلة، كان الذين اغتربوا في بلاد الدنيا الباردة يعتصمون بدفء فلسطين، بدت الأجيال المتلاحقة، ومن جيل الاغتراب الأول، وإلى الجيل الرابع، بدت الأجيال كلها مشدودة إلى رباط العروة الوثقى، بدت فلسطين لغة جامعة، بدت فلسطين كأنها تفك عقدة اللسان، وتزيل اللكنات الأعجمية، وتنتصر للعروبة وللديار المقدسة، ولأحلامها التي لا تموت، وتوالت مشاهد الرقصات والأغاني والمواويل الفلسطينية، كانت الذاكرة الفلسطينية تضيء وعي أجيال ولدت بعيداً في السويد، شبان وشابات في عمر الورد، وأطفال كعقد الفل، كل شيء حولهم يدفعهم لنسيان فلسطين، والتلهي في حياة وملذات أخرى، والابتعاد عن السياسة وأهلها، لكن فلسطين ليست سياسة، ولا فوائض لغط وجدال، إنها الوطن الذي لم يعيشوا فيه، لكنه يتأبى على النسيان، ويعيش في الوجدان إلى آخر الزمان.

بدت ظاهرة حضور فلسطين مفرحة، ليس فقط لأنها أسقطت رهان بن جوريون، بل لأنها أسقطت رهانات أخرى، بينها ـ للأسف ـ رهانات بعض من يسمون أنفسهم عرباً، وتصوروا أن فلسطين صارت شيئاً من الماضي، أو أنها تحولت إلى بقايا وطن، وإلى مفاوضات على دويلة في غزة والضفة الغربية، بدا كل ذلك في خانة الذي سقط ويسقط، فالحلم الفلسطيني بحجم فلسطين كلها، ودون تفريط في صخرة جبل ولا في حفنة تراب، ودون نسيان لحقل زعتر ولا لشجرة زيتون، بدت فلسطين في الذاكرة مطابقة لفلسطين في الجغرافيا، ومن ضفة النهر إلى حافة البحر، وحفظ الذاكرة يحفظ الأوطان، وحتى لو بدا لزمن أن الأوطان قد ضاعت، حفظ الذاكرة يحفظ نسل الحلم، ويتناسل بالوعد إلى أجيال تأتي، لا تستبقي فلسطين في سلال الذكريات، بل ترفعها إلى مقام الأمنيات، ثم تتحول بالأمنيات إلى خطط على مسارح العمليات، ولا يبدو ذلك كله أملاً يستحيل أو يراوغ، فبرغم كل ما جرى ويجري، يظل الفلسطينيون على أرضهم، وبما يقارب الخمسة ملايين الآن، يصلون ما انقطع بين الحجر والبشر، ويحفظون فلسطين في وجدان ستة ملايين فلسطيني آخرين، تفرقت بهم السبل، وتشتتوا في جهات الدنيا الأربع، عاشوا المحنة التي خلقتهم خلقاً جديداً، لا تموت فيهم ذكرى الأجداد، ولا ينسى الأحفاد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2178258

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178258 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40