الأربعاء 28 أيلول (سبتمبر) 2011

فلسطين : ماذا بعد ذلك؟

الأربعاء 28 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. نهلة الشهال

هو السؤال! ومن المفارقات الكثيرة التي اعتدنا على مصاحبتها لموضوع فلسطين أن الإجابات عليه ما زالت، ليس فحسب ضبابية، بل وصفية تشيئية جامدة. فلا يكفي هنا القول بـ «استعادة المقاومة الشعبية الشاملة» مثلاً، على ما أشار إليه أبو مازن نفسه في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، محدداً أنها بالضرورة سلمية. كما لا يكفي أبداً اللجوء الى الحضن المريح للشك بالنوايا المضمرة للسلطة، والتبشير بأن كل شيء ما زال على حاله، وليس ما جرى سوى «طلعة» عابرة، أو فشة خلق قابلة للاستيعاب. أو القول أن منتهى غاية الخطوة هو تحسين الموقع التفاوضي الفلسطيني الذي يتعرض لضغوط دولية هائلة. ففي كل ذلك بعض الصحة. وإنما لا يكفي لإدراك أي موقف صفُّ الفرضيات والاحتمالات واحدة بقرب الاخرى، وعرضها كما تُعرض الاشياء على طاولة.

وبداية، فسيُسجَّل خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 23 أيلول/سبتمبر، كالتاريخ الذي جرى فيه رسمياً دفن مسار «العملية السلمية»، أي ذلك التفاوض الثنائي الفلسطيني/ «الإسرائيلي»، برعاية أميركية تتوسع أحياناً لتشمل دول الرباعية.

وليس من نوافل الأمور أن يتولى الأب دفن وليده! فأهمية الخطوة تكمن أيضاً في صاحبها، وهو من أبرز منظري إمكانية التوصل الى تسوية تاريخية مع «إسرائيل». وتلك الفرضية كانت قد أعلنت رسمياً في المؤتمر الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر عام 1988. وهي ما برَّر الدخول في المفاوضات السرية قبل أوسلو، ثم تكريسها بـ «اتفاقات أوسلو» وكل ملاحقها وما تولد عنها. ولا بد هنا من ذكر كمون هذا البعد في أسس بناء العمل السياسي الفلسطيني الحديث، وإلا فكيف يُفهم غصن الزيتون الذي دعا أبو عمار الى عدم إسقاطه من يده؟ وكان ذلك عام... 1974، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

والصحيح أن مبادرة أبو مازن لا تندرج في الانقلاب على ذلك الخيار، بل على مساره وعلى أدوات ذلك المسار. سيصرخ المناهضون «هاكم»! ولكن ذلك، بعكس ما يظنون، لا يقلل من أهمية ما جرى يوم الجمعة الفائت. فالسياسة ليست «جوهراً»، اي فعلاً ثابتاً لا يخضع لجدليات التفاعل والتحور. وكمثال: تورط السلطة الفلسطينية في وضعية تتجاوز نواياها، واضطرارها للتعامل مع معطى، بلا أفق جديد تسببت هي به، ولكنه يتفلت عن أغراضها الاصلية. فالفرضية أنها اندفعت الى التقدم بمشروعها ذاك في طلب الدولة من الأمم المتحدة بسبب اختناق المسار التفاوضي، ولاعتقادها أن دول العالم ستجد في الخطوة تحريكاً إيجابياً له، بل ومخرجاً له من الموت، على ما أوحت به تصريحات أوباما والاتحاد الاوروبي منذ عام. ثم تورطت، أو أخذتها العزة بالإثم، كما تشاؤون، ولكننا بالنتيجة نجد أنفسنا اليوم أمام سؤال الاستراتيجيا، وما يتعين القيام به بمواجهة رفض تلك الجهات للخطوة، بل إدانتها، المترافق مع الاجهاز على فرضية التسوية نفسها من قبل «إسرائيل»، بدليل خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة الذي اعقب خطاب الرئيس الفلسطيني.

فقد تولى نتنياهو تظهير الصورة. قدم الرجل استعراضاً هذيانياً. كذب قدر ما يستطيع، محاولاً عبثاً حرف الانظار الى إيران و«الاسلام المقاتل». وتباكى على صغر مساحة «إسرائيل» (مستعيداً رواية «القلعة المحاصرة»)، موحياً أنه لن يطمئن إلا إذا تحولت الى قارة كبيرة يتطلب اجتيازها عدة ساعات بالطائرة (كما الولايات المتحدة)، مطالباً، كي يطمئن، باستسلام الفلسطينيين، (ثم العرب والمسلمين، الذين تناولهم بإشارات مفككة). وأورد روايات خرافية أسماها توراتية، معتمداً إياها كمرجعية. ووظف كل ذلك لتبرير المطالبة بالاعتراف بـ«يهودية» دولة «إسرائيل»، كبديهية، وهو العنوان الذي اختارته هذه الاخيرة كإطار لمعركتها في المرحلة المقبلة. وكان ممثلاً فاشلاً حين ألح على استعادة التفاوض «الآن وفوراً».

صحيح أن المفاوضات ستجد طريقة كي تُستأنف، بفضل الحجر الذي ألقي في المستنقع. وربما حدثت رحلات مكوكية، كعادة دبلوماسيين ضجرين يقومون بواجبات وظيفتهم. صحيح أنه ليس أمام الولايات المتحدة، ولا دول الرباعية، إلا أن تضغط لاستئناف المفاوضات، مقترحة أفكاراً تبدو براقة من هنا (الفرنسيين)، وبيانات مصاغة بشكل مقتضب من هناك (الرباعية). ولكن ذلك كله لا يمتلك دينامية الحركة التاريخية. فهو مدفوع بقوة استمرار الماضي، والخوف من الفراغ، ومن التطورات غير المضبوطة أو المحسوبة التي يمكنها أن ترافق الفراغ.

بتوليه نعي ذلك المسار، سجل ابو مازن دخوله في التاريخ، ما تقول بعض ألسنة السوء أنه كان على رأس هواجسه. وهو استخدم أكثر اللغات دبلوماسية وحذراً، وبالغ في الاحتياط عبر تأكيده المتكرر على عدم استهدافه «إسرائيل» بذاتها. وبل وقع الرجل، الذي يفتقد بحدة الى الكاريزمية وروح الخطابة، في خطأ التهذيب البائخ والفائض عن الحاجة، حين افتتح خطابه الذي تسمر الملايين من البشر لمتابعته، بتوجيه عبارات التهاني طوراً لممثل قطر أو لبان كي مون، وطوراً آخر للسودان الجنوبي. لا بأس، فسرعان ما نُسيت تلك المقدمة التي، وإن لم تكن موفقة، فهي لم تجهض الموضوع.

محمود عبَّاس قال كل ما «يجب» أن يقال. تكلم عن النكبة مراراً واصفاً إياها بالفظاعة، وهي استعادة من وجهة النظر الفلسطينية لما جرى فعلاً، تناهض محاولات المسح «الإسرائيلية» المستميتة لكلمة «النكبة» نفسها، وترفض تناسيها وتحوير معنى الحدث. تناول اللاجئين وربط مصيرهم بالقرار الاممي 194 الذي يصون على هذا المستوى مبدأ حق العودة. تكلم عن الاستيطان وعن نظام الابرتهايد «الاسرائيليين». وعن «القدس الشريف» واصفاً ما يجري في المدينة بالتطهير العرقي. وطالب بكل الأسرى والمعتقلين، ودافع عن غزة بوجه العدوان عليها. وقال إنه، ومنظمة التحرير، يمثلون «كل» الفلسطينيين. وهاجم تحويل الصراع الى ديني، وذكر في هذا السياق المليون ونصف المليون من الفلسطينيين الذين لم يغادروا اراضيهم عام 1948، قائلا إن الطابع الديني يهدد مصيرهم، في إشارة غير مباشرة الى مطالبة «إسرائيل» بالاعتراف بيهودية هويتها. وتمسك بمرجعية القرارات الدولية وشرعيتها كناظم لأي تسوية، في تحديد بالغ الاهمية، يناقض البازار المفتوح الذي أرسته المفاوضات. بل إن خطوة التوجه الى الأمم المتحدة تعيد الملف الفلسطيني الى المرجع الدولي عوض الرعاية الاميركية. وتلك هي نقاط القلب من الموضوع.

صحيح أنه أسرف في الوصف، وبخاصة في استعراض الجهود المضنية والمديدة للتوصل الى تسوية مع «إسرائيل»، التي عينها كنتاج قرار بالسعي الى العدل النسبي والممكن، وتنازل هائل ارتضاه الفلسطينيون. لقد استعرض «مظلمة» الفلسطينيين، مانحاً إياها بعداً دينامياً بوصفها استعادة لامتلاك التاريخ، أي كرواية الفلسطينيين أنفسهم لما حدث لهم. وهذا واحد من أهم ميادين الصراع.

وبالطبع، فما ينقص خطاب أبو مازن هو التوقع. ولكن تلك ليست وظيفة الرجل ولا هو موقعه. فمحمود عبَّاس ابن تلك المرحلة التي قال لنا إنها وصلت الى طريق مسدود. لذا انتهى الخطاب بالتأكيد فحسب على حسن النوايا، ملقياً المسؤولية بوجه العالم، محذراً من أن استمرار الوضع على ما هو عليه يقوض السلطة الفلسطينية ويهدد وجودها. واستقالة السلطة هي على الارجح الخطوة المقبلة التي سيقود اليها المنحى المفتتح. وأما التصفيق الحار في الجمعية العامة، التي استقبلته وودعته وقوفاً، وهتفت بحماسة لذكرى ياسر عرفات، فقد كان البند الأكثر إثارة للمشاعر في الجلسة، إذ افصحت أغلبية دول العالم عن تأييدها لفلسطين، مبرزة مبلغ التناقض مع مواقف واشنطن وتلك العواصم الكئيبة والرمادية التي ما زالت تحوز على حقوق حصرية موروثة من الحرب العالمية الثانية، بينما توازنات ووقائع العالم تجاوزتها فعلاً.

والسؤال مجدداً من خلف كل ذلك هو كيفية الاستيلاء على اللحظة / النتيجة، مصادرتها وتأويلها واستخدامها من قبل من ليسوا في موقع أبو مازن والسلطة، أي من لا يعتقدون بإمكان التوصل الى تسوية تاريخية مع «إسرائيل»، لخصوصية هذه الاخيرة من بين الكيانات السياسية التي تجعل من احتمال كل تسوية انقلاباً على طبيعتها يعادل زوالها: مجدداً، انظروا في خطاب نتنياهو بوصفه مآلاً هو الآخر، ولا تختبئوا خلف فرضية وهمية عن تطرفه هو بالذات. لقد قارب مسؤول «إسرائيلي» واحد وحيد تلك التسوية، وكان في ذلك شواذاً، وقُتل. ولو لم، لكان على الارجح انتهى كما رفيقه بيريز اليوم، أي في موقع نتنياهو عملياً.

انتهت حقبة وبدأت سواها. من هنا ينطلق النقاش.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165784

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165784 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010