الاثنين 26 أيلول (سبتمبر) 2011

«إسرائيل».. نحو العزلة السياسية

الاثنين 26 أيلول (سبتمبر) 2011 par مؤمن بسيسو

«إسرائيل» ترجع القهقرى وتنكفئ إستراتيجياً إلى الخلف وتعيش نوعاً من عزلة الماضي. هذه أبرز خلاصة يمكن بلوغها عقب موجة الاستهداف المركز للسياسة «الإسرائيلية» العنصرية التي انطلقت من تركيا، مروراً بقاهرة المعز التي شهدت أحداث اقتحام السفارة «الإسرائيلية» مؤخراً، وصولاً إلى توجه السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة بطلب تحصيل عضوية كاملة للدولة الفلسطينية المنشودة.

لأول مرة منذ عقود تشعر «إسرائيل» بطعم العزلة السياسية، فتركيا التي تشكل القوة الإقليمية الأهم «إسرائيلياً» انقلبت تماماً على واقع التعاون والانفتاح الذي وَسَم العلاقات البينية بين الطرفين طيلة الأعوام الماضية، فيما أسقطت الجماهير المصرية الغاضبة ورقة «إسرائيل» عملياً عن الرقعة المصرية التي شكل نظامها السياسي دهراً مقعد حلفها الإستراتيجي، وإن كانت ورقتها لا زالت قائمة سياسياً بحكم المعاهدات السياسية المفروضة، في ذات الوقت الذي لا تخفي فيه السلطة الفلسطينية - التي أُنشئت بقرار دولي لحماية الأمن «الإسرائيلي» - موقفها المعلن الرامي إلى عزل السياسة «الإسرائيلية» في إطار توجهها إلى الأمم المتحدة لنيل الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية.

يقولون إن الألم الناجم عن ضربتين في الرأس لا يحتمل، وهكذا حال «إسرائيل» التي تلقت ضربتين قاسيتين بنكهة تركية ومصرية خلال أيام، تركتاها في حال من الترنّح والاضطراب السياسي والدبلوماسي لا تخفى على أحد، وها هي تستعد لتلقي ضربة ثالثة بنكهة فلسطينية خلال الأيام القادمة.

في تركيا تسير الأمور نحو القطيعة الكاملة، رسمياً وشعبياً، مع «إسرائيل» التي تعلن جهاراً رفضها الاعتذار والتعويض لقاء جريمتها بحق سفينة «مرمرة» إبان إبحار أسطول الحرية نحو شواطئ غزة نهاية شهر مايو/أيار من العام الماضي.

وفي مصر أجبرت القوة الشعبية العارمة الدبلوماسية المهترئة على الانزواء، وألقت بالسفير «الإسرائيلي» إلى ما وراء الحدود، وفرضت معادلة شعبية جديدة على النظام المصري المؤقت الحالي الذي يعيش بعقلية وآليات النظام السابق، ورسمت ملامح أولية لمآلات العلاقة المصرية «الإسرائيلية» وانحدارها المتواصل في المرحلة المقبلة.

وفي فلسطين المحتلة، وبغض النظر عن حقيقة الدوافع والبواعث، تعيش «إسرائيل» هاجس الفشل في مواجهة خطوة السلطة بالتوجه إلى الأمم المتحدة، وتخشى عزلة متفاقمة لموقفها السياسي الضعيف، المدعوم بصراحة أميركياً، وعلى استحياء أوروبياً، الذي يجابهه موقف فلسطيني رسمي مدعوم بقرابة ثلثي أعضاء الدول المنضوية تحت إطار الأمم المتحدة.

الموقف التركي بلغ اليوم حدّ طرد السفير وتخفيض العلاقات الدبلوماسية إلى حدها الأدنى وتعليق الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، ومن المتوقع أن يتطور إلى أبعد من ذلك ما لم ترعوِ «إسرائيل» وترضخ للصلابة التركية، وهو أمر دونه العجرفة المعهودة والاستكبار التقليدي الذي يدمغ عقلية وسلوكيات الاحتلال.

لا نخشى على الموقف التركي، فالدولة التركية موحدة، نظاماً وشعباً، في وجه «إسرائيل» وسياستها العنصرية وممارساتها العدوانية، لكن الخشية أوضح ما تكون في موقف المجلس العسكري الحاكم لمصر الذي يستنسخ سياسات نظام مبارك البائد، ويحاول معاندة الإرادة الشعبية التي تأبى الرضوخ لعجرفة الاحتلال والتعايش مع منطق استمرار العلاقات السياسية والدبلوماسية معه إلى الأبد، تساوقاً مع حسابات سياسية غير مفهومة في عهد الثورة والتغيير.

يحاول المجلس العسكري المصري فرض إرادته وحساباته على الواقع المصري حالياً، لكنه يواجه قوة الإرادة الشعبية التي أطاحت ثورتها البيضاء بأكبر رموز التعفن والاستبداد السياسي في المنطقة العربية، ولن يمضي وقت طويل حتى تسقط سياسته الراهنة لصالح الموقف الشعبي الذي ينطلق من أصالة الأمة وكرامتها ومبادئها العليا.

لن تبقى الأمور في مصر على شاكلتها الراهنة، فالحكومة برئاسة عصام شرف تحاول الفكاك قدر الاستطاعة من سيطرة المجلس العسكري الحاكم، والمجلس العسكري لا زال أسيراً لسياسات حقبة مبارك الغابرة ويحاول إبقاء الأمور على ما هي عليه دون أي تغيير، فيما الحراك الشعبي يتأجج بتسارع كبير ويشكل أداة ضغط كبرى على النظام السياسي ودوائر صنع القرار فيه.

وعلى ما يبدو فإن الاتجاه التركي نحو تعزيز العلاقات الرسمية مع مصر، وزيارة أردوغان الأخيرة للقاهرة، من شأنه أن يأخذ بالموقف المصري الرسمي، تدريجياً، بعيداً عن الموقف «الإسرائيلي» وحسابات السياسة المرتهنة للإرادة الإقليمية والدولية، وينتقل بمشهد العلاقات مع «إسرائيل» من مربع السلبية القائمة على المجاملة وإدارة العلاقات في إطار البرود السياسي المحكوم بمعاهدة «كامب ديفيد» إلى مربع التدافع السياسي ومواجهة المواقف والسياسات «الإسرائيلية» في إطار الكرامة الوطنية والقومية.

ولعل حديث رئيس الوزراء المصري مؤخراً عن إمكانية فتح معاهدة «كامب ديفيد» للتعديل والتغيير كونها غير مقدسة مصرياً، يشكل إحدى تجليات اتجاهات الموقف المصري الرسمي المتبلور في الاتجاه المعاكس، ولو تدريجياً، للموقف «الإسرائيلي»، ومؤشراً بارزاً إلى ملامح العلاقة «الإسرائيلية» المصرية في المرحلة المقبلة في ظل استمرار العجرفة «الإسرائيلية».

رهاننا اليوم على الموقف الشعبي المصري الذي أسقط العلم «الإسرائيلي» عن مقر السفارة «الإسرائيلية»، واضطر السفير للهرب والمغادرة متخفياً، وأدخل المجلس العسكري الحاكم في إطار بحث ومواجهة مرحلة جديدة مختلفة تماماً عن سابقتها، فالجهد الشعبي لن يكون مثمراً ما لم يجترح التواصل والاستمرار، ويمتهن التخطيط والإعداد والتنظيم في إطار تغيير الواقع السياسي العفن الذي يحكم العلاقة المصرية «الإسرائيلية» حتى اليوم.

فلسطينياً، تتملكنا مخاوف مشروعة من الاعتبارات التي تقف خلف توجه السلطة نحو الأمم المتحدة، ومساحة الثقة التي يمكن منحها للرئيس محمود عبَّاس في ظل مواقفه المحكومة بالنوازع الشخصية والدوافع المصلحية، إلا أنه يمكن، بشكل عام، الاستفادة من التجاذب الحاد بين الموقفين: الفلسطيني و«الإسرائيلي» بخصوص قضية أيلول لجهة الدفع باتجاه محاصرة الموقف «الإسرائيلي» على حلبة السياسة الدولية، فالموقف الفلسطيني الرسمي، وإن كان تكتيكياً ولا يتسم بالطابع الإستراتيجي، يشكل الضلع الثالث في مثلث عزل السياسة «الإسرائيلية»، وإحدى معاول مواجهة وإشغال الموقف «الإسرائيلي» داخلياً وخارجياً.

تدرك «إسرائيل» أن انسداد أفق مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين، وإصرارها على مواصلة البناء في المستوطنات، يصب في صالح الموقف الفلسطيني ويضر بالموقف «الإسرائيلي» المتعنت، ما يخفف مفاعيل الضغط والحراك الدولي التقليدي المفروض على الجانب الفلسطيني ويحولها تدريجياً لتمس صلب المواقف «الإسرائيلية».

وهكذا فإن معادلة الضغط الدولي التي سحقت عظام السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها تتعرض اليوم للاختلال على إيقاع تطرف السياسة «الإسرائيلية» الحالية، وافتقار حكومة نتنياهو إلى المرونة اللازمة لإدارة الشبكة التفاوضية مع الفلسطينيين.

ومن الطبيعي أن التحول المطرد في معادلة الضغط الدولي يجعل السلطة الفلسطينية أقل عرضة وأكثر تحرراً من القيود والضغوط المفروضة، ويمنحها مزيداً من الجرأة لمعاندة المواقف والسياسات «الإسرائيلية» الخاصة بمسيرة التسوية والمفاوضات، ما يرهق كاهل الحكومة «الإسرائيلية» ويجعلها أكثر انشغالاً بتفاصيل السجال المتواصل والمتصاعد مع الفلسطينيين، ويحرمها من فرص توظيف المفاوضات كغطاء لاستمرار الأنشطة الاستيطانية والتهويدية والسياسات العنصرية والعدوانية بحق الفلسطينيين.

نعوّل على إنجازات تراكمية على المستويين: التركي والمصري بالدرجة الأولى، وعلى المستوى الفلسطيني بدرجة ثانية، فكل جهد ضاغط على الاحتلال يرفع من أسهم شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية والإسلامية، ويخفض من علوّ وهيمنة الاحتلال، ويعلي من شأن مشروعنا العربي والإسلامي الكبير لتغيير محددات وأسس الواقع باتجاه صياغة الواقع المنشود الذي تبدو فيه «إسرائيل» نقطة صغيرة معزولة في بحر العرب والمسلمين الهادر، تمهيداً لإزالتها تماماً عن خارطة الوجود بإذن الله.

على «إسرائيل» أن تتوقع تشكّل جبهة عداء تركي واضح رسمياً وشعبياً في المرحلة المقبلة، ولن يطول الأمر حتى تتحول جبهة العداء المصري من إطارها الشعبي إلى إطارها الرسمي بفعل قوة الإرادة والكرامة المصرية الحرة، بموازاة جبهة عداء مفتوحة على الصعيد الفلسطيني.

مع كل يوم جديد تتعمق الأزمة السياسية «الإسرائيلية» دولياً، وتخسر «إسرائيل» المزيد من التعاطف والتأييد الإقليمي والدولي الذي حصدته في مراحل سابقة سادت فيها حِيَل الخداع والمكر والمناورة والتضليل، وستبقى خسارتها واقع الحال وسيدة الموقف ما لم تنقلب على موازين موقفها السياسي الراهن الطافح بالصلف والاستكبار.

وبالرغم من شدة وقع الضربات التركية والمصرية والفلسطينية التي تلقتها إلا أن الحكومة «الإسرائيلية» لم تفقه بعد دروس السياسة الجديدة المتبلورة في المنطقة، ولم تستخلص العِبَر البالغة التي حملها الربيع العربي الثائر وتحولاته الكبرى.

عربياً، لن تحظى «إسرائيل» بعد اليوم بالخدمات المجانية ذاتها التي توفرت لها سابقاً، فحلفاؤها أو الصامتين عليها والمهادنين لها، منهم من سقط، ومنهم من يقاوم السقوط، ومنهم من ينتظر، ولن تعاند إرادة الصغار - مهما بلغت - قوانين التغيير والاستبدال وسنن الكون ونواميس الحياة.

دولياً، لم تعد الإدارة الأميركية قادرة على تأمين الدعم السياسي الكامل والغطاء التام للموقف والسياسة «الإسرائيلية»، فالموقف الأميركي بات أسير الحرج والعجز عن مجاراة ومسايرة العجرفة والتشدد «الإسرائيلي» في الكثير من المواقف والمجالات، فيما تبدو الكثير من المواقف الأوروبية أكثر بعداً عن قبول السياسة «الإسرائيلية»، وأكثر احتفاظاً بمسافة واضحة بعيداً عنها.

الربيع العربي يشكل كلمة السر ومفتاح النجاح في إسدال الستار على مرحلة الجبن والخنوع العربي والإسلامي، وتدشين مرحلة العزة والكرامة والانتصار للعروبة والإسلام، وإرساء القواعد الصلبة والأرضية المتينة لعزل ومحاصرة «إسرائيل» إقليمياً ودولياً، ونزع الشرعية عن سلوكياتها الإجرامية ومخططاتها العنصرية بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية.

الجهد التراكمي لعزل السياسة «الإسرائيلية» أشبه ما يكون بكرة الثلج المتدحرجة التي تكبر يوماً بعد يوم، ويبدو أن مسار العزلة السياسية لحكومة نتنياهو الذي تجلت أهم فصوله بانهيار التحالف الإستراتيجي مع تركيا، والتوتر الحاد مع المصريين والفلسطينيين، سوف يشهد مدى أطول مما هو متوقع في ظل غياب البديل السياسي والحزبي داخل «إسرائيل» القادر على مواجهة الارتكاس الحاصل في السياسة «الإسرائيلية» خارجياً.

على أية حال فإن المعركة لإنهاء العلاقات التركية بالاحتلال وإسقاط معاهدة «كامب ديفيد» وعزل الموقف «الإسرائيلي» دولياً بدأت الآن، وعلى «إسرائيل» أن تتوقع الأسوأ مع كل صباح يشرق في فضاء الربيع العربي والإسلامي البديع وإشعاعاته الكبرى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010