الأحد 25 أيلول (سبتمبر) 2011

عبد الناصر.. رحيل وحضور!!

الأحد 25 أيلول (سبتمبر) 2011 par جلال عارف

هذا الأسبوع تحل ذكرى رحيل جمال عبد الناصر. وقبل أيام لحق به عند ربه ابنه الدكتور خالد بعد صراع طويل مع المرض. آخر مرة لقيت فيها المرحوم خالد كانت قبل شهور في احتفال صغير بصدور كتاب للصديق المناضل السوري محمد سعيد الطيب. كانت آثار المرض تبدو عليه ولكنه كان يملك الإرادة والأمل في تجاوز المحنة. بعدها ساءت حالته وكان يعتذر عن عدم مقابلة الأصدقاء انتظاراً لجولة جراحية أخرى يجريها في الخارج ولم يمهله القدر لإجرائها.

كان رحيل الابن مناسبة أخرى لحضور الأب الذي لم يغب أبداً عن المشهد العربي بعد أكثر من أربعين عاماً من انتقاله إلى جوار ربه. الآلاف شيعت خالد والملايين التي تابعت النبأ، كانت تقارن بين رجل منحته أمته من المحبة والتأييد ما لم تمنحه لأحد غيره، ورحل عن الدنيا وفي جيبه ثمانون جنيهاً.

وهو لا يملك شبراً واحداً من الأرض ويسكن في منزل مملوك للدولة، وحسابه في البنك مدين بما اقترضه ليبني منزلاً تتزوج فيه ابنته. وبين ما تراه وتسمعه الآن من حديث المليارات والحكام الذين استباحوا كل شيء في الوطن، والأبناء الذين تصرفوا في الدولة وكأنها عزبة خاصة لهم!

للمقارنة وجهها المتعلق بالأخلاق، ولكن ليس هذا هو الأهم، بل ما تعكسه من اختيار سياسي وانحياز اجتماعي. يحكي لنا عبد الحكيم (الابن الآخر لعبد الناصر) واقعة بسيطة، حين نزل لتناول الغداء الذي تجتمع فيه الأسرة يومياً، وكان يرتدي الملابس الرياضية ليذهب بعد الغداء للنادي الرياضي المجاور للمنزل للتدريب المعتاد مع زملائه.

لاحظ الأب أن عبد الحكيم يرتدي زياً رياضياً جديداً ومميزاً. سأل عنه فقال عبد الحكيم إنه هدية من «فلان» الذي كان في رحلة ببيروت وأن ثمنه ليس كبيراً.

سكت عبد الناصر قليلاً ثم سأل ابنه: وهل سيرتدي زملاؤك نفس الزي؟! وبدون كلام، صعد الابن إلى غرفته، وخلع الزي الجديد ليعيده بعد ذلك إلى من أحضره، ليتعلم الدرس الذي أراد أبوه له أن يتعلمه. إنه كغيره من زملائه لا يمتاز عنهم بشيء، ولا ينبغي له أن يعامل باستثناء.

الالتزام الأخلاقي كان مهماً، ولكن الانحياز السياسي والاجتماعي كان الأهم. وهو ما يجعل الزعيم الراحل حاضراً اليوم عند الملايين بعد أربعين عاماً من الرحيل، وبعد حرب طاحنة على كل ما كان يمثله من طموحات وطنية وقومية، وفي ظل ثورة مازالت تبحث عن طريقها، وفي ظل صراعات هائلة في مصر وفي الوطن العربي على تحديد ملامح المستقبل.

المعركة في مصر هي الأهم، وهي لن تنتهي بالانتخابات البرلمانية القادمة أياً كانت نتائجها، بل لعل أخطر مراحلها ستبدأ بعد ذلك! والصراع بدأ منذ الأيام الأولى للثورة، وهو ليس صراعاً محلياً فقط، فالقوى الدولية والإقليمية حاضرة، وحجم الأموال الذي تدفق على قوى سياسية بعينها في شهور ما بعد الثورة هائل للحد الذي جعل السلطات الحاكمة تحيل ملفه إلى جهات التحقيق القضائية.

على السطح يبدو الصراع الآن متركزاً بين أنصار الدولة الدينية وأنصار الدولة المدنية، ولكن الصراع في العمق أوسع وأشمل من ذلك بكثير.. فحين يعاني نصف السكان من آثار الفقر فإن العلاج لن يكون بالترويج لعودة الخلافة أو تحطيم التماثيل، ولن يكون أيضاً بترديد الشعارات عن الديمقراطية دون أن تتحول إلى فعل يومي ينهض بالدولة ويحسن أحوال المواطنين.

وحين تطرح قضية الهوية مرة أخرى بعد أن حسمناها مراراً وتكراراً، فإن الحديث عن «سلطان» يأتي من تركيا أو ماليزيا يبدو «مسخرة». والحديث عن انكفاء عرفته مصر دائماً في عصور الضعف والتراجع وآخرها في عهد النظام السابق، يبدو مؤامرة من قوى معروفة تريد استمرار عزلة مصر، وتخشى من عودتها لأداء دورها القومي، وترى أن مصلحتها هي المزيد من تجزئة الوطن العربي وليس في استعادته لوحدته.

بعد الثورة كان هناك من أبدى غبطته لأن الشعارات القومية غابت عن المشهد. الآن يعرف خطأ حساباته، ويدرك ان «إسرائيل» ستظل هي العدو الأساسي، وأن عروبة مصر فوق أي حسابات.

وبعد الثورة كان هناك من يروج بأن العداء ينبغي ان يكون مع «ثورة يوليو» بكل ما تمثله سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. الآن تنفجر الاحتجاجات الفئوية وتطفو مشاكل الغالبية العظمى من العمال والفلاحين، بينما كل القوى المتصارعة على الساحة لا تقدم حلاً ولا تملك رؤية.
وتبدأ الحقائق تفرض نفسها لتضع الفارق بين ما كانت تمثله ثورة يوليو من انجاز اجتماعي وسياسي وقومي، وبين الانقلاب عليها بعد رحيل عبد الناصر، وما تم اتباعه من سياسات هي التي تعاني منها أغلبية المصريين الآن.

ما سقط في ثورة يناير هو الانقلاب على يوليو، أما مشروع يوليو في عهد عبد الناصر فقد كان آخر مشروع وطني امتلكته مصر لبناء الدولة الحديثة، القوية، القائمة على العلم والمعرفة والتصنيع، والمتمسكة بهويتها العربية وباستقلال قرارها، والمنحازة اجتماعياً إلى مصالح الطبقات الفقيرة.

ولم يكن هذا المشروع اختراعاً من عبد الناصر، بل كان هو المشروع الذي طورته الحركة الوطنية المصرية عبر كفاح طويل وتضحيات جسام. ومازالت أسس هذا المشروع صالحة كنقطة انطلاق جديدة تراعي أن أزمة الديمقراطية كانت هي مقتل التجربة العظيمة قبل نصف قرن، وهي التي مكنت أعداءها من الانقضاض عليها.

في جنازة ابن عبد الناصر غابت قوى سياسية تتصدر المشهد الآن وحضر الألوف من كل أنحاء مصر والعالم العربي. في المظاهرات ضد العدو «الإسرائيلي»، وفي احتجاجات الفلاحين والعمال ترتفع صور عبد الناصر. إنه ليس الحنين إلى الماضي، بل الصراع حول المستقبل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165607

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165607 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010