السبت 24 أيلول (سبتمبر) 2011

مناضل لا يطاله النسيان

السبت 24 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. عبد العزيز المقالح

ما أسرع ما تمر الأيام، أخذ بعضها برقاب بعض في رحلة لا يدري مداها سوى خالق الليل والنهار وراعي الكائنات الصغرى والكبرى، المرئي منها والخفي، الطائر والزاحف والسابح .. إلخ.

أخذتني هذه التأملات وكادت تشرد بي بعيداً عن الدوافع التي أدت إليها، وهي الوقوف عند المرحلة التي تفصل بيننا حالياً وبين اليوم الذي غادر فيه ناجي العلي هذه الحياة الفانية، والتي توشك في حساب الزمن أن تقترب من ربع قرن، وهي مرحلة طويلة امتلأت بكثير مما لم يكن في الحسبان أو يخطر على بال من كانوا يحبون ناجي العلي ومن كانوا يكرهونه على حدّ سواء. لقد اغتالوه هناك في لندن، عاصمة (بلد الديمقراطية الأول)، وكان الاغتيال بكاتم صوت، لكن ذلك الصوت القاتل والمكتوم تحول في ساعات قليلة إلى دوي عاصف ملأ الآفاق، علماً أن ناجي العلي لم يكن قائداً سياسياً أو عسكرياً، ولم يكن وزيراً ولا سفيراً، بل كان إنساناً بسيطاً يدافع عن قضيته بقلم الرصاص ومن خلال خطوطه السود التي تعكس أحزان فلسطين وسواد الواقع العربي. والذين شاهدوه وهو يترنّح بعد اختراق الرصاصة الغادرة لجبينه المضيء قالوا إنه كان يقاوم السقوط على الأرض اللندنية، وكأنه يريد أن يحلّق في الفضاء نحو فلسطين ليضع جسده القتيل المنفي على ترابها.

ربع قرن مر على ذلك المشهد الحزين والجليل، وما يزال حاضراً في الأذهان وكأنه تمّ بالأمس أو اليوم، وما يزال (حنظلة)، ذلك الطفل الذي يجسد توقيع الفنان الكبير، يمشي ويتنقل من عاصمة عربية إلى أخرى، وما يزال يتساءل ويكشف المستور في قضية كانت في وضوح الشمس، وأدخلها التخاذل العربي والتآمر الدولي إلى دهاليز شديدة الغموض والإبهام. وكان على حنظلة أن يعيدها إلى وضوحها السابق، وأن يمدها بملاحظاته الذكية والقاطعة كحد السيف، التي لا تعرف المجاملة ولا تفرق بين القائد والخفير، بين من يستخدم الكلمات الكبيرة لإخفاء ما في نفسه، وبين من لا يستخدم كلاماً على الإطلاق. ورغم مضي الأيام ما تزال رسوم ناجي العلي تقول الكثير الكثير، وما يزال حنظلة يضع أصبعه على مواقع الخلل، وكأنه يعايش المرحلة الراهنة لحظة بلحظة وساعة بساعة، وهنا فقط تكمن قوة الفنان وبراعة الأصابع الملهمة. من الصور التي شدّتني ولا تبرح ذاكرتي لهذا الفنان المناضل صورة شارك بها في أحد المعارض، فانتزعت اهتمام كثير من المشاهدين والنقاد، وقد استخدم فيها مرآة صافية رسم عليها مجموعة قضبان حديدية ووضع لها عنواناً مثيراً هو «السجين»، فكان أي زائر للمعرض يقترب منها للحظات يدرك أنه هو السجين المقصود، وأن كل عربي على وجه هذه الأرض المنزوعة الحرية هو سجين إلى أن يثبت أنه حر. وربما كان بعض مشاهدي تلك الصورة ممن يتوهمون أنهم أحرار يسيرون إليها بأقدام ثابتة وصدور مفتوحة، لكنهم بعد أن يروا وجوههم بين القضبان يرتعشون، وتبدأ خطواتهم في التباطؤ، ويكادون يشعرون بأنهم يحملون قيوداً غير مرئية، قيوداً في الأفكار والأحاسيس، وذلك هو الفن العظيم الذي يجعلك بعد أن تشاهده أو تقرأه أو تسمعه، تشعر بأنك إنسان آخر.

وكم كانوا أغبياء، وأغبياء جداً أولئك الذين كانوا وما يزالون يعتقدون أن في مقدور الاغتيال أن يضع حداً لرسالة المبدع، أو أنهم قادرون على محو إبداعه، فالأيام والحياة بمجملها تثبت أن العكس هو الصحيح، أي أن الاغتيال كان حياة جديدة، أكثر خصوبة وحضوراً من الحياة الأولى، وفي الحياة الجديدة يمتزج إبداع الفنان بدمائه وتصبح كل القصائد إن كان شاعراً، واللوحات إن كان رساماً، أكثر توهجاً، وأكثر تأثيراً بالوجدان والمشاعر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165540

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165540 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010