الخميس 22 أيلول (سبتمبر) 2011

دولة الاعتراف

الخميس 22 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. جوزيف مسعد

ما المغزى من رفض باراك أوباما الشديد الاعتراف بفلسطين دولة مقزمة، ذات جغرافيا مشوهة ومنزوعة السيادة، ومن دعوته المجتمع الدولي الى عدم الاعتراف بها، وتهديده بالانتقام من الفلسطينيين إن هم طالبوا المجتمع الدولي بالاعتراف بهم كدولة؟ وما هي العلاقة بين رفض أوباما الاعتراف بدولة فلسطين وإصراره على الاعتراف بحق «إسرائيل» في أن تكون «دولة يهودية»، ومطالبته الفلسطينيين والدول العربية بالاعتراف بيهوديتها؟

من المهم أن نؤكد بداية أنّه إذا منحت الأمم المتحدة السلطة الفلسطينية صفة «حكومة دولة تحت الاحتلال» ووضع «المراقب» كدولة، أو إن رفضت القيام بذلك، فالنتيجة ستكون لمصلحة «إسرائيل»، في كلتا الحالتين. قواعد اللعبة الدولية هي دائماً ضمان مصالح «إسرائيل»، ومن الواضح أنّه مهما حظيت استراتيجية ما بدعم دولي، مع أو بدون موافقة الولايات المتحدة و«إسرائيل»، فعلى تلك الاستراتيجية أولاً أن تضمن المصالح «الإسرائيلية». والتصويت المزمع للأمم المتحدة على عضوية فلسطين كدولة، لا ولن يشذ عن تلك القاعدة.

دعونا نتأمل في النتيجتين الممكنتين للتصويت، وكيف أنّ كلتاهما سوف تصبان في مصلحة «إسرائيل».

لقد شحنت الانتفاضات العربية المستمرة توقعات الفلسطينيين بشأن ضرورة إنهاء الاحتلال، وتحدت الوضع التعايشي القائم بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل». علاوة على ذلك، ومع زيادة التعبئة الشعبية الفلسطينية لمقاومة الاحتلال «الإسرائيلي»، قررت السلطة الفلسطينية تحويل النضال الفلسطيني من حراك شعبي على الساحة الوطنية، لن تكون قادرة على السيطرة عليه، وتخشى من أن يطيحها، إلى الساحة القانونية الدولية. وتأمل السلطة الفلسطينية أنّ ذلك التحول سيقوم بتسريح الطاقات الفلسطينية الشعبية السياسية واستبدالها بجهود مسؤوليها على الساحة القانونية، وهي ساحة لا تمثل تهديداً لبقاء السلطة الفلسطينية نفسها.

تشعر السلطة الفلسطينية بأنّ الولايات المتحدة قد تركتها لمصيرها، بعدما أسندت إليها دور المتعاون مع الاحتلال «الإسرائيلي»، وتشعر السلطة بأنّها في وضع مجمد وهي تخضع لـ«عملية سلام» ليس لها هدف نهائي. وقد اختار سياسيو السلطة الفلسطينية المطالبة بالتصويت في الأمم المتحدة لإجبار الأميركيين و«الإسرائيليين» على الحركة، آملين أنّ تصويتاً إيجابياً سيمنح السلطة الفلسطينية المزيد من السلطة السياسية والنفوذ، لتحقيق أقصى قدر من السيطرة على الضفة الغربية (لكن ليس على القدس الشرقية ولا على غزة، التي لا «إسرائيل» ولا «حماس»، على التوالي، على استعداد للتنازل عنهما للسلطة الفلسطينية). وإن كانت الأمم المتحدة ستحقق للسلطة الفلسطينية أمنيتها بالاعتراف بها كدولة وكعضو مراقب، فعندها، حسب زعم السلطة الفلسطينية، ستكون الأخيرة قادرة على إجبار «إسرائيل» في المحافل الدولية على وقف انتهاكاتها لميثاق الأمم المتحدة، واتفاقيات جنيف، والاتفاقات الدولية العديدة. وسيكون عندها باستطاعة السلطة الفلسطينية أن تتحدى «إسرائيل» دولياً عبر استخدام الوسائل القانونية المتاحة فقط للدول الأعضاء، وإجبارها على منحها «الاستقلال». فإن حصلت فلسطين على العضوية، ستكون بالفعل قادرة على تحدي «إسرائيل» قانونياً، وذلك تحديداً أكثر ما يقلق «إسرائيل».

لكن ذلك منطق مغلوط، لأنّ الفلسطينيين لم يفتقروا تاريخياً إلى الوسائل القانونية لتحدّي «إسرائيل»، بل على نقيض ذلك، فقد جرى تفعيل الوسائل القانونية الدولية ضد «إسرائيل» منذ 1948، بموجب قرارات الأمم المتحدة العديدة في الجمعية العامة، وكذلك في مجلس الأمن، فضلاً عن استخدام محكمة العدل الدولية في قضية جدار الفصل العنصري في الآونة الأخيرة. فلم تكن المشكلة أبداً قدرة الفلسطينيين، أو عدم قدرتهم، على حشد القانون الدولي أو الوسائل القانونية إلى جانبهم. المشكلة هي الآن، وكانت دائماً، أنّ الولايات المتحدة تمنع تطبيق الولاية القضائية للقانون الدولي على «إسرائيل»، من خلال استخدامها حق النقض. وتستخدم الولايات المتحدة التهديدات والتدابير الوقائية لحماية تلك الدولة المنبوذة والمتمردة من المثول أمام العدالة الدولية. وقد استخدمت الولايات المتحدة بالفعل حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن 41 مرة، حتى اليوم، في الدفاع عن «إسرائيل» ضد حقوق الفلسطينيين. فليس واضحاً إذاً كيف سيتغيّر ذلك الوضع إن أصبحت السلطة الفلسطينية دولة عضواً في الأمم المتحدة، بصفة مراقب. صحيح أنّه سيصبح بإمكان السلطة الفلسطينية استجلاب المزيد من الضغوط والعقوبات القانونية الدولية على «إسرائيل». وسيكون بمقدورها مطالبة الهيئات الدولية بالتحقيق والفصل في انتهاكات «إسرائيل» لحقوق الدولة الفلسطينية. وستكون السلطة الفلسطينية قادرة أيضاً على جعل سفر المسؤولين «الإسرائيليين» محفوفاً بالمخاطر إذا استصدرت أحكاماً بحقهم كـ «مجرمي حرب». وذلك من شأنه أن يجعل العلاقات الدولية لـ «إسرائيل» اكثر صعوبة، لكن في النهاية كيف سيضعف كل ذلك «إسرائيل» عندما ستقوم الولايات المتحدة بتحصينها تماماً من وقع ذلك عليها، كما كانت تفعل دائماً؟

في واقع الأمر، ستستوجب تلك الزيادة المفترضة في قوّة الفلسطينيين على إرغام «إسرائيل» على المثول أمام العدالة، كلفة هائلة على الشعب الفلسطيني. فإذا صوّتت الأمم المتحدة لمنح صفة «الدولة» لفلسطين، سيكون لذلك آثار فورية عدّة. أولاً، ستتوقف منظمة التحرير الفلسطينية عن تمثيل الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة، وستحل السلطة الفلسطينية محلّها كدولة الفلسطينيين المفترضة. ثانياً، سيجري اختزال منظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل جميع الفلسطينيين (حوالى 12 مليون نسمة في فلسطين التاريخية وفي الشتات)، التي اعترفت بها الأمم المتحدة في 1974 ممثلاً «وحيداً» لهم، إلى «السلطة الفلسطينية» التي تمثل فلسطينيي الضفة الغربية فقط (حوالى مليوني نسمة). وبالمناسبة تلك هي الرؤية التي قدمتها «اتفاقات جنيف» السيئة الذكر.

ثالثاً، سوف يضعف ذلك الاعتراف، من الناحية السياسية، حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وتعويضهم على النحو المنصوص عليه في قرارات الأمم المتحدة. فالسلطة الفلسطينية لا تمثل اللاجئين، على الرغم من أنّها تدّعي أنّها تمثل «آمالهم» بإقامة دولة فلسطينية على حسابهم. في الواقع، يخشى بعض خبراء القانون الدولي أن يلغي ذلك الاعتراف حق الفلسطينيين في العودة نهائياً. وسيقوم ذلك الاعتراف بمصادرة حقوق المواطنين الفلسطينيين في «إسرائيل»، الذين يواجهون العنصرية المؤسسية والقانونية في الدولة «الإسرائيلية»، كما أنّه يقدم إليهم أمراً واقعاً بإقامة دولة فلسطينية (بصرف النظر عن طبيعتها الخيالية). وسيضفي ذلك صدقية على ادعاءات «إسرائيل» بأنّ هنالك الآن دولة لليهود ودولة للفلسطينيين أيضاً، وإن كان المواطنون الفلسطينيون في «إسرائيل» ليسوا سعداء، أو حتى إذا كانوا سعداء، بمواطنتهم من الدرجة الثالثة في «إسرائيل»، فبإمكانهم الانتقال، أو حتى أن يُجبروا على الانتقال، إلى الدولة الفلسطينية على أي حال. رابعاً، يمكن «إسرائيل» أن تأتي بعد فترة وجيزة من تصويت الأمم المتحدة لصالح قيام دولة فلسطينية، وإبلاغ السلطة الفلسطينية أنّ الأراضي التي تسيطر عليها الآن (وهي جزء صغير من الضفة الغربية) هي كلّ الأراضي التي ستتنازل عنها «إسرائيل»، وأنّ تلك هي أرض الدولة الفلسطينية لا غير. فلم يكل «الإسرائيليون» من تذكير السلطة الفلسطينية بأنّه لن تكون لدولتها لا سيادة ولا جيش، ولا الحق في السيطرة على حدودها، ولا على مواردها المائية، ولا الحق في تقرير عدد اللاجئين الذين يمكن أن تسمح لهم بـ «العودة»، ولا حتى سيكون لها ولاية قانونية على المستوطنين المستعمرين اليهود. وقد حصلت «إسرائيل» أخيراً على تأكيدات من الأمم المتحدة بالفعل بشأن حقها في «الدفاع» عن نفسها والحفاظ على أمنها بأي طريقة تعدّها «إسرائيل» ضرورية لتحقيق تلك الأهداف. وباختصار، فإنّ السلطة الفلسطينية ستحصل على دولة البانتوستان ذاتها التي ما فتئت «إسرائيل» والولايات المتحدة تعدانها بها لعقدين من الزمن!

خامساً، يمكن الولايات المتحدة و«إسرائيل» أيضاً، من خلال العديد من حلفائهما، ضخ لغة «تسوية» في نص اعتراف الأمم المتحدة المتوقع للدولة الفلسطينية، تنص على أنّ مثل تلك الدولة يجب أن تعيش في سلام جنباً إلى جنب مع «الدولة اليهودية». وسيكون ذلك بدوره اعترافاً ثميناً من الأمم المتحدة بـ«حق» «إسرائيل» في أن تكون دولة يهودية، بمعنى أن يكون لها الحق في التمييز ضد غير اليهود قانونياً ومؤسساتياً، وهو ما تنكره عليها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، فيما عدا الولايات المتحدة، اللذان رفضا الاعتراف بها حتى الآن على هذا النحو. وذلك ما سيربط على نحو مباشر ما بين اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية خيالية وغير قائمة، واعترافها بدولة «إسرائيل» القائمة فعلاً. «إسرائيل» التي تميّز قانونياً ومؤسساتياً ضد غير اليهود «كدولة يهودية».

سادساً، ستصر الولايات المتحدة و«إسرائيل» بعد التصويت الإيجابي على أنّ للسلطة الفلسطينية الحق في تقديم مطالب سياسية معينة كدولة عضو، لكنّ ينبغي لها أن تلغي اتفاق المصالحة الأخير مع «حماس». بالإضافة إلى ذلك، يمكن فرض عقوبات على الدولة الفلسطينية نفسها، لارتباطها مع «حماس»، التي تعدها الولايات المتحدة و«إسرائيل» منظمة «ارهابية». وقد هدد الكونغرس الأميركي بالفعل بمعاقبة السلطة الفلسطينية، ولن يتردد في حث إدارة أوباما على إضافة فلسطين الى قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، مع كوبا وإيران والسودان وسوريا.

ستعزز كلّ تلك النتائج الست، المصالح «الإسرائيلية» بمقدار هائل، بينما سيكون الإزعاج الوحيد للدولة العبرية هو أنّه سيكون بمقدور السلطة الفلسطينية المطالبة بتطبيق القانون الدولي، وولايته القانونية على «إسرائيل»، لإجبارها على المزيد من التنازلات. ومع ذلك، ستكون الولايات المتحدة واقفة بالمرصاد عند كل منعطف لحماية «إسرائيل» من آثاره المحتملة. باختصار، سيجري تعظيم المصالح «الإسرائيلية» على حساب بعض الإزعاج الجدي لـ «إسرائيل»، لكنّه فعلياً لن يضر بمصالحها الرئيسة.

النتيجة الثانية المحتملة، وهي استخدام الولايات المتحدة حق النقض، و/أو قدرة الولايات المتحدة على الضغط، وليّ ذراع عشرات البلدان للتصويت ضد مشروع السلطة الفلسطينية في الجمعية العامة، مما سيؤدي إلى فشل السلطة الفلسطينية بانتزاع الاعتراف بها كدولة، ستصب أيضاً في مصلحة «إسرائيل». و«عملية السلام» الأبدية ستستمر بشروط أكثر صرامة، مصحوبة بغضب الولايات المتحدة، المنزعجة من تحدّي السلطة الفلسطينية لإرادتها، مما سيعود بالسلطة الفلسطينية تحديداً إلى ما هي عليه اليوم، إن لم يكن إلى وضع أضعف منه. أما الرئيس أوباما والإدارات الأميركية المستقبلية، فسيواصلون الضغط على السلطة الفلسطينية والدول العربية، للاعتراف بـ «إسرائيل» كـ«دولة يهودية» لها الحق في التمييز ضد غير اليهود قانونياً في مقابل الحصول على اعتراف مؤجل بالبانتوستان الفلسطينية المسماة «الدولة»، على أن تكون الأخيرة «قابلة للحياة» اقتصادياً، أي حيث يمكن رجال الأعمال الفلسطينيين النيوليبراليين تحقيق أرباح هائلة من المساعدات والاستثمارات الدولية فيها. والنتيجتان ستبقيان الشعب الفلسطيني مستعمراً، ومضطهداً، ومنفياً، ومميّزاً ضده. أما كل تلك الضجة حول تصويت الأمم المتحدة، فهي في آخر المطاف تحوم حول أيّ من السيناريوهين هو الأفضل للمصالح «الإسرائيلية». فلا الشعب الفلسطيني ولا مصالحه جزء من تلك المعادلة.

أما المسألة القائمة على جدول الأمم المتحدة، إذاً، فهي ليست ما إذا كان يتعين على الأمم المتحدة الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولة وفقاً لقرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة في 1947، الذي يمنحه 45 في المئة من فلسطين التاريخية، ولا في دولة فلسطينية ضمن حدود 5 حزيران/ يونيو 1967، على طول حدود «الخط الأخضر»، الذي يمنحه 22 في المئة من فلسطين التاريخية. فاعتراف الأمم المتحدة يعني في نهاية المطاف إنكار حقوق الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني في «إسرائيل»، وفي الشتات، وفي القدس الشرقية، وحتى في غزة، والاعتراف بحق بعض الفلسطينيين في الضفة الغربية بإقامة بانتوستان على قطع متناثرة من أراضي الضفة الغربية تصل مساحتها إلى أقل من 10 في المئة من فلسطين التاريخية.

ستقوم «إسرائيل» بالاحتفال، مهما كانت النتيجة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2165395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010