الخميس 27 أيار (مايو) 2010

في معركة الإبل

الخميس 27 أيار (مايو) 2010 par توجان فيصل

الجدل الشعبي الجاري في الأردن والاصطفافات التي عبر عنها, استكمل مداه ولم يبق ما لم يبحث.

ورغم حدته كان جدلا بنّاءً في محصلته. فما بدا وكأنه خلاف جذري في شأن واحد يتعلق بالعلاقة بين مكونات الشعب , ضاقت فيه الفجوة إلى حد يمكن أن يعتبر الأسلم منذ التأليب الذي جرى تمهيداً لأحداث عام 70 المؤسفة .

فما قيل عن أن بيان المتقاعدين العسكريين يدعو لسحب الجنسية الأردنية والجواز الأردنيين (أي سحب الرقم الوطني ) جرى تأكيد بطلانه من الناطق باسم من أصدروا البيان, وذلك في تصريح لصحيفة العرب اليوم تأتي أهميته تحديدا من كون أصحاب البيان قرروا الخروج عن قرارهم بالتزام الصمت مرحليا وعدم التحدث لوسائل الإعلام, فقط ليصححوا هذه المقولة التي جرى تداولها منسوبة لهم .

وصيغة نفيهم لها لا تقبل أي تأويل , ونقتبسها كما وردت على لسان الناطق باسمهم :“من يحمل الرقم الوطني أردني .. يا إلهي , كيف يمكن ان نطالب بترحيل الفلسطينيين, هذا غير ممكن .. هنالك من لا يقرأ, وهنالك من اتخذ موقفا مستندا على ما قيل له بأننا قلناه, وهذا لا يجوز”.. واتهم الناطق أطرافا “عمدت لركوب موجة البيان”, مؤكدا “حرفيا” ما قلناه سابقا وحاولت تلك الأطراف تفسيره على أنه تصدٍ لبيان العسكر.

في ضوء هذا التوضيح, وفي ضوء توضيحات موازية جرت في محاضرتين ألقاهما الأستاذ عبيدات في يومين متتاليين رفض فيها الأستاذ عبيدات صراحة “تقويله ما لم يقله”, لا تبقى في الحقيقة فوارق تذكر بين البيانين . والأهم أن قواسم مشتركة كبرى تتعلق بالموقف الشعبي من الأداء الرسمي بدت واضحة, بل واستحضرت مواقف تاريخية لأصحاب البيانين, مما كان استدعى غضبا رسميا على كليهما.. وبدا الحديث مجددا في تاريخ محذوف من السجلات الرسمية.

القواسم المشتركة جاءت في بيان المتقاعدين , ولم يلزم ذكرها في بيان عبيدات باعتبارها موضع توافق تام لا لبس فيه, وهي : ضرورة “التزام وتقيد” الجميع بالدستور نصا وروحا, وعودة السلطات للشعب سواء بصحة تمثيله في البرلمان والحكومة معا , و شن حملة “حقيقة وشاملة” لمكافحة الفساد بما لا يقل عن “مصادرة ثروات الفاسدين واستعادة الملكية العامة للقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية وفرض نظام ضريبي تصاعدي يحقق العدالة الاجتماعية وفق الدستور”.. وأخيرا وجوب التصدي للخطر الصهيوني بإعادة الاعتبار للخيار العسكري.

والتوافق مع العسكريين على كل هذا بتفاصيله ليس وليد اللحظة الراهنة , بل يؤكده تاريخ طويل للأستاذ عبيدات وعدد غير قليل من السياسيين الذين وقعوا معه, سواء في مجال الدعوة للإصلاح الديمقراطي والعودة لدستور عام 52, أو مكافحة الفساد أو رفض اتفاقية وادي عربة وكل ما سبقها وتلاها من سياسات باسم السلام الذي تكشف للقاصي والداني انه الغائب الأكبر عن الأردن والأردنيين.

وهي مواقف معروفة كلفت الأستاذ عبيدات مناصبه الآتية بالتعيين, من رئاسة الوزراء إلى عضوية مجلس الأعيان إلى رئاسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.. وكلفت آخرين معه مواقع استحقوها بالانتخاب الشعبي, زِيدَ على مصادرة دورهم المشروع فيها مصادرة حرياتهم ودخولهم المعتقلات.

وتلك هي أقصى درجات النضال السياسي والتي توازي مخاطرها, إن لم تفق , خوض معركة حربية على جبهة قتال تعرف فيها على الأقل كامل خصومك وتملك وسيلة رد أكثر تكافؤا.

الهم واحد على اختلاف المواقع , والتماهي جرى بطرح العسكريين برنامجا “سياسيا” لأول مرة منذ عقود. والاستقطاب بين ثنائية مفترضة قد لا تكون أكثر من حالة تعويض عن تعددية ممنوعة بسبب حال الأحزاب ومجمل حال حريات التعبير والتجمع والتنظيم .

ولكن الاهتمام الكبير الذي أثاره القطبان المفترضان كان بسبب الاحتشاد الشعبي الضخم وراءهما في فترة حرجة كانت الأنظار كلها معلقة على الانتخابات الموعودة على أمل أن يجري, سلما وبصور حضارية بناءة , حماية للوطن من خطر يهدده في صميم وجوده لا أقل, ولتنفيس احتقانات شعبية أنتجتها سلاسل سياسات أخرى فرعية, احتقانات بدأت تعبر عن نفسها بصور غير حضارية بل ومدمرة أحيانا. والقطبان قدما خطابا وطنيا موجها للشعب بأسره يحاول توجيه دفة العملية الانتخابية نحو ما يجمع ولا يفرق.

بالمقابل بدت الحكومة التي تطبخ قانون انتخاب مؤقتا معزولة عزلة تامة. وما يؤكد عزلة الحكومة, ومعرفتها بل واعترافها بتلك العزلة, لجوؤها للسرية ومحاولة فرض القانون كأمر واقع فيما يشبه الانقلاب الرسمي على كل قوى الشعب بكل تنوعاته.

فمن لا يملك قواعد شعبية ابتداء لا يعبأ بمخاطبة الشعب , بل ويحجم عامدا عن تلك المخاطبة, خاصة إن كان يعتقد انه وحده يملك القدرة على “الفعل” بالقوة, بينما لا يملك غيره سوى القول مهما كان مقنعا.

ولهذا جاء قانون الحكومة المؤقت أشبه بالبيان الأول في انقلاب رسمي, وألحق بحملة دعاية هزيلة لأقلام اشد هزالا, كون نخبة من كانوا يسمون بكتاب التدخل السريع أبدوا اعتراضهم, بل واستنكارهم للقانون غير المسبوق في سوئه.. بينما أجمع الجسم القانوني على عدم دستوريته دون الحديث عن فرص احتكام للقضاء, مما أعاد القضاء لدائرة الحرج .. إن لم يكن لما هو أسوأ.

فالجهات الرسمية التي بات يجري الاعتداء عليها مؤخرا في محاولات لأخذ الناس القانون بيدهم بحق أو بدون حق, تجاوز رجال الأمن إلى الاعتداء على قاضٍ في حادثة ليست الأولى بالضبط .

فتدخل الحكومة في القضاء سبق وأدى لضرب قاضٍ فائز في مسابقة القضاء, لوزير العدل في قلب قصر العدل, لتطاول الأخير الذي تجاوز حق القاضي إلى شخص والده, واضطر الوزير لإسقاط حقه.. وهو ذات الوزير الذي اضطر للاعتذار لمجلس النواب قبل الأخير , بعد محاولتهم ضربه تحت القبة لما اعتبروه شتماً لهم.

هذا السقوط المتوالي لهيبة السلطات هو أحد مسببات الترحيب الكبير ببيان المتقاعدين العسكريين , كما لحراك سياسيين ممن اتسم أداؤهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية بمواقف وطنية وإصلاحية.

وهو حراك يلحظ أن قاعدته اتسعت بشكل غير مسبوق بمشاركة متزايدة من شخصيات كانت تحسب على الحكومة تاريخياً. بل وواضح قيام البعض بحسم مواقفهم التي كانت موضع تساؤل, فيما يبدو كاعتراف بغلبة متوقعة للتيار الإصلاحي الذي يتكئ على المعارضة ويتبنى طروحاتها , إن لم يكن موقفا يعكس غلبة مبادئ . وكلاهما مشروع , وفي السياسة الحلفاء يتلون الشركاء في الأهمية .

وأول رد “عملي” للحكومة على كل هؤلاء جاء بقانون انتخاب يمعن في تفتيت الشعب وفي إقصاء قياداته المتوقع فرزها. ويأتي في سياقه استمرار إقصاء الجيش عن المشاركة في الانتخابات, رغم ما هو معروف وجرى تداوله علنا من توظيف الحكومات مرارا للأصوات العسكرية لإنجاح مرشحيها.

وهو توظيف يزيد على منع حق دستوري تفرضه مساواة الأردنيين أمام الدستور, لكونه إخلالا مزدوجا بواجب وطني يفترض أن العسكريين , جيشا ورجال امن ومخابرات, في مقدمة من يؤتمنون عليه من الحكومات والشعب معا.

البرامج المشتركة زيد عليها بوضع الطرفين في خانة مشتركة من الإقصاء الحكومي لكل هؤلاء ومن معهم. والحكومة تتعامل مع الشعبية بازدراء باعتبار أن “الفوز بالإبل” هو المهم .

وهو ما يضع الجناحين اللذين شكلا قطبي الجذب على الساحة, أمام امتحان كيفية بلورة الإصلاح المطروح من كليهما إلى فعل . فالبيانات لا تفضل “الشتم” كثيرا في معركة من لهم الحق بالإبل, إن لم تترجم لبرامج عملية . والقول أشبع وله مختصون لا يقعون في هنات الصياغة التي وقع فيها بيان العسكر بخاصة.

وتوحد الجهود الإصلاحية الفعلية هو ما تأمله أكثرية من مؤيدي البيانين, خاصة بعد توضيحات الطرفين الحاسمة لما قالوه في مواجهة ما قولوه ممن حاولوا ركوب الموجتين, والذين هم المتضررون تاريخيا من كل خطاب موحد.

ولكن حتى إن بقي الاستقطاب, لأسباب تنافسية أو بضغوط قاعدية , وكلاهما من طبائع السياسة التي ليست كلها مثالب ولا تقسم لأبيض واسود, فإن امتحان تفوق قطب على آخر لا يحسمه إلا الفعل الذي يتقدم به طرف بما يفوق الآخر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2165569

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

2165569 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 32


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010