الثلاثاء 13 أيلول (سبتمبر) 2011

عن اقتحام السفارة «الإسرائيلية» في القاهرة

الثلاثاء 13 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. تميم البرغوثي

يثير الدهشة الكبرى أن يدور في مصر جدل حول اقتحام السفارة «الإسرائيلية»، ناهيك عن إصدار الحكومة بياناً يدينه. إن ما جرى جمعة التاسع من سبتمبر عمل مفيد، وشجاع، ووطني، وشريف، وثوري، وفوق ذلك، هو عمل سلمي تماماً، وصبور، وحليم، ورمزي بالدرجة الأولى. إن تردد البعض في التأييد غير المشروط لهذا العمل النبيل، أمر محير. أيها الناس، لقد قُتل أولادكم واقتُحمت حدودكم ورفض قاتلهم حتى الاعتذار، وما زاد البشر الكرام على أن نزعوا للعدو علماً أو اثنين ورموا أوراقه من النوافذ.

ولقد سمعنا الأعاجيب، كأن يقال إن مقتحمي السفارة كانوا متآمرين، وأنهم ما أرادوا إلا إحراج مصر في المحافل الدولية، إنما يحرجها أن يُقتل جنودها فلا ترد، وأن تطلب الاعتذار فيأتي الرد ابتسامة ساخرة من «تل أبيب». وسمعنا من يقول إن المؤامرة داخلية هدفها إعطاء المجلس العسكري الذريعة لخنق الحريات وتأجيل الانتخابات وفرض الأحكام العسكرية والطوارئ، أما الطوارئ فنحن لم نزل ننوء تحتها منذ عهد حسني مبارك، وأما الأحكام العسكرية فإن اثني عشر ألفاً من المصريين محبوسون بمقتضاها، وأما الانتخابات فقد آن أوانها ولم تبدأ، بل لم نكد ننتهي من تقسيم الدوائر بعد، وأما خنق الحريات، فقد تجاوزناه إلى خنق المواطنين بالغاز المسيل للدموع. وسمعنا من يقر بذلك كله، لكنه يقول إن ما حصل أجَّل الخلاص من هذا الشر، ومنهم وزير الإعلام، وسأفرغ له بعد سطور، والقائلون بذلك مصابون بفقدان الذاكرة، إن المظاهرات، بل والمواجهات المفتوحة، هي التي تأتي بالحريات، لا القعود في البيوت، ولو أننا قبلنا بمنطقهم لكانت الثورة نفسها أكبر الذرائع لتمديد الطوارئ.

●●●

إن سياسة سحب الذرائع، والخطاب المؤيد لها، قديمة قدم الخوف في النفس البشرية، إن الظالم لا يحتاج ذريعة ليظلمك، إذا قدر على ظلمك فسيخترع لك ذريعة من الهواء، وليست قدرته إلا خوفك أنت منه، وخوفك ليس إلا اعتقادك أن ممارسة حقك ذريعة له ليظلمك. بمعنى آخر، إن خطاب سحب الذرائع هو الذي يؤدي إلى اعتداء الظالم عليك. إن من يدينون اقتحام السفارة بصفته ذريعة تعطي الحكومة الفرصة للبطش، يقبلون ضمناً بذلك البطش وبأحقيته. ليس مقتحمو السفارة من يعطي الحكومة ذريعة للظلم بل الناس الأعاجيب الذين ينتقدونهم هم الذين يعطون الحكومة العذر، ويعرضون إخوانهم للخطر، ويطعنونهم في الظهر، ويلزون أنفسهم بين الأمة وأعدائها.

أما السيد الفَخْم والعَلَمُ القَرْم والصَّمَيْدَعُ الشَّهْم، وزير الإعلام، فإنه خرج يعلن التزام مصر بالمعاهدات الدولية، وحدد منها المعاهدات الخاصة بحماية السفارة «الإسرائيلية»، ثم أعلن تفعيل قانون الطوارئ المخالف لكل المعاهدات الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان. إن وزير الإعلام المصري يعلن علينا أن حكومة الثورة تلتزم بحماية حقوق «إسرائيل» ولا تلتزم بحماية حقوق المصريين الذين أتوا بها إلى السلطة. ثم هو يعلن أن الحكومة تنوي اعتقال كل من شاركوا أو حرضوا على ما جرى على السفارة «الإسرائيلية» وتحويلهم إلى نيابة أمن الدولة العليا. وعلى حد علمي فإن جهاز أمن الدولة والنيابة المختصة بقضاياه قد ألغيا، إلا أن يكون جهاز الضبط والإحضار قد ألغي وبقي جهاز التحقيق والإحالة. ومعالي الوزير يعطي الشعب المصري دروساً في الحضارة، قائلاً إن ما جرى على السفارة ينافيها. لا والله يا معاليك بل ما فعلته حكومتكم من خذلان لجنودها وأمهاتهم وقتل للمتظاهرين الطالبين بحقهم، وخطابك المستهين بهم وبنا وبالبلد هو ما ينافي الحضارة والأخلاق والحكمة السياسية جميعاً.

إن صاحب المعالي يريد ثورة تلتزم بالقانون، ولم أعلم ولا غيري بعالم آخر الدهر، بثورة تلتزم القانون، إن كل القوانين التي صدرت عن برلمانات مزورة، هي قوانين باطلة بالتعريف. إنما يفعل الشعب المصري ما يشاء، وأنت تعلم يا صاحب المعالي، ويعلم القارئ الكريم، أن الشعب المصري لا يشاء أن يرى علماً «إسرائيلياً» يرفرف على نهر النيل وتمثال نهضة مصر، ولا يشاء أن يرى جنوداً مصريين يقتلون وتذهب دماؤهم هدراً، ولا يشاء أن يرى هذه الخنوع أمام العدو والمرجلة على الثوار. فإن شككت في مشيئته يا صاحب المعالي فاسأله، واعرض «اتفاقية السلام» بين مصر و«إسرائيل» برمتها على استفتاء عام، والتزم بما يمليه عليك الناس الذين تتعالى عليهم.

●●●

وأخيراً، سمعنا ذلك الكلام الممل عن الخوف من دخول مصر حرباً لا تطيقها، ألا يعلم من يقولون هذا الكلام أنهم يهينون مؤسسة عزيزة على المصريين، تعاقب قوانينهم، تلك التي يحبونها حبهم لأولادهم، على إهانتها؟ إن كل الحجج التي تدين مقتحمي السفارة مبنية على فرضية باطلة هي كون مصر أضعف من «إسرائيل»، والعكس هو الصحيح لأسباب يطول شرحها، ومجملها أن غزة ولبنان وقفا لـ «إسرائيل» فما بالك بمصر، فالضعف في الحكومة لا في البلد وفي القادة لا في الناس جنوداً كانوا أو مدنيين. وأنا لم أر حكومة مولعة بضعفها الموهوم إلى هذا الحد، متباهية به حد الإملال، تستخدمه في كل خذلان عذراً لا عذر فيه، وستراً خير منه الفضيحة. وأخيراً، هناك من اتهم المتظاهرين بالبلطجة، ببساطة لأن ملابسهم لم تعجبه، والفرق بين البلطجي والثائر ليس في الملبس، بل في المطلب، ولو وجدت بلطجياً يطالب بتطهير الداخلية وطرد السفير «الإسرائيلي» حفاظاً على كرامة البلاد، فهو ليس ببلطجي، ولو وجدت «مواطناً شريفاً» واقفاً بين صفوف الأمن المركزي يضرب خلق الله فليس والله بالمواطن الشريف. لقد كان المصري في العهد البائد تقتله جهتان، «إسرائيل» في الحرب وأجهزة القمع المصرية في السلم، فإن رأيت يا معالي الوزير الثوار المصريين غاضبين من الداخلية ومن «إسرائيل» فمم تتعجب؟ وإن رأيتهم فقراء، فمم تتفاجأ؟

إذا كانت هذه الحكومة تريد تحجيم الثورة بحيث تقتصر على بعض الحريات الشخصية وتحذف بُعديها الوطني والاجتماعي فسوف تسقط. لن تَكْمُل هذه الثورة إذا بقي الحلف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة و«إسرائيل» ولن تكمل هذه الثورة إذا بقي فقير مصر منهوباً ومكروهاً، يسرقه أغنياؤها ثم يشتمونه.

وقد كان اقتحام السفارة المتزامن مع الإضرابات في كل البلاد تذكيراً بهذا، هذه ليست ثورة الطرابيش والبرانيط وربطات العنق، وليست ثورة المفاوضات والأناقات الدبلوماسية، لا والله ليس بعد هذا الدم.. لا والله.


د. تميم البرغوثي

مقالات هذا المؤلف


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2165876

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165876 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010