الاثنين 12 أيلول (سبتمبر) 2011

الثورة في أفخاخ «حاميها حراميها»..؟

الاثنين 12 أيلول (سبتمبر) 2011 par مطاع صفدي

الثورة العربية منشغلة بإسقاط الطواغيت، أكثر مما هي متفكّرة بما بعد السقوط، هذا من حقّ المتغيرات الكبرى في عنف الواقع الإنساني، فليس ثمّة فكْر ثوري قادر على هندسة المستقبل قبل زَعْزعة الحاضر المستبدّ، مهما تعدّدت النظريات الباحثة عن جنان الآمال المترتبة على العنف الثوري المنتصر على العنف الاستبدادي. ذلك أن الثائر ليس مناضلاً عدمياً، همّه تهديمُ سلطة الظلم، دون أن يكون متيقناً من إقامة دولة العدالة لإنسانية مجتمعه المعذّبة. لكنه وهو منخرط في ممارسته السلبية في مكافحة جحافل الشرّ، لا يعتبر نفسه مسؤولاً عمّا سيأتي في اليوم التالي على انهدام الصرح الفرعوني، كأنما الثوري ليس هو السياسي. غالباً لن يكون هو عينه مهندسَ العلاقة ما بين نظرية العدالة ونظامها الاجتماعي المعبّر عن معانيها والمحقّق لمعاييرها، وإن كان يحلم بالجمع بين الثورة والدولة في صيغة متكاملة، يوماً ما.

وقائع ثوراتنا المتنوعة بين أربعة أو خمسة أقطار حتى اليوم. لا تعترف بانفصالية نهائية بين الثوري والسياسي. على العكس، فإن التجربة اليومية الحادة تقدم صورة نموذجية عن الثوري المتأهب لتقمص وظيفة السياسي، فالقادة الميدانيون في ليبيا أصبح بعضهم حكّاماً للغد منذ الحاضر الراهن؛ في حين أن ثوار ميدان التحرير في القاهرة، يقارعون نظاماً فرعونياً متشبّثاً بجسده الخشبي، وإنْ فَقَدَ رأسه القديم، وصارت تنبت له رؤوس جديدة من خلال المحاولة الدؤوبة لاستراتيجية سَرِقَة الفعل التاريخي المجتمعي الكبير، وتقزيمه إلى مجرّد مصلحة انقلابية لبعض الحرس القديم. لكن مصر العربية اكتسبت حتى الآن بوادر حرّيتيْـن محرّمتيْـن منذ عقود، للتعبير وللحراك الشعبي، وكذلك فازت تونس بمثل هذا الحصاد الأولي، ولكن التاريخي. فالشعبان بين هذين القطرين أصبحا خارج القضبان بصورة نسبيّة. ولكن رحلة الوصول بالثورة إلى مستوى صناعة القرار الوطني، لا تزال تُقارع عقبات كأداء؛ فيمكن القول أن الديمقراطية اكتسبت أرضية المعركة الشعبية. وإن كانت قواها الحقيقية لا تزال في طور الكمون، وأن بعضها قد يصيبه التبعثر، وقد يُعاني من انتكاسات ذاتية تجعل الوضع المجتمعي أقرب إلى الفوضى السياسية أحياناً، بسبب من تشتّت الصيغ الصالحة للتعبير عن القوى الجديدة والقديمة المنطلقة نحو العمل العام، والمتحفزة للعب أدوار متميّزة عن بعضها.

ربما ستختلف تطورات ليبيا الثورة عن سابقتيْها في تونس والقاهرة، في هذه النقطة الهامة، وهي أن قادة المعركة العسكرية الشعبية أو بعضهم، سيكون هؤلاء من رجال الحكم القادم. فلا تفاضل بين النموذجين: الثوري والسياسي، عَسَى ألا يتدخّل بينهما نموذجُ «الآخر»، المتطفّل حديثاً أو المنتهز للفرص المُتاحة، لكن المشكلة في النصر الليبي أنه لن يكون موضع استثمار وطني خالص، ما دام الأجنبي الغربي مطالباً بحصّته من ذلك النصر الذي يشارك في إعداده وممارسة بعض أسبابه. فازدواجية الوطني الأجنبي في ملف الثورة الليبية، قد تطبع مختلف تطوراتها القادمة. ولعلّ اللحظة الراهنة ستقرّر إن كانت هذه الإزدواجية ستتحول إلى محور تكويني لطبيعة دولة الثورة المنتظرة، أم أنه سيكون على رجال الثورة وضع الحدود الحاسمة، الفاصلة بين حقبة ماضية تطلّبت تحالفاً مرحلياً مع «العدو الأكبر» من أجل التخلّص من العدو الأصغر المحلّي، وأن دولة الثورة الآتية سيكون عليها التحلّي سريعاً بكل خصائص الدولة الوطنية النقيّة القادرة على مخاطبة كل آخر، حتى الغرب نفسه، من موقع الندّية التي تُنسيه تقاليد التبعيّة البائدة.

يعلم الغرب أن الربيع العربي، لم يعلن حرب الحرّية ضد أنظمته القامعة وحدَها، بل هي حرب عليه، باعتباره هو مهندسها الأصلي، وحاميها المزمن، والمبدع لأفانينها في استلاب إرادات شعوبها، وتحريف نهضتها الإنسانية والمعرفية، إنه هو الغرب، المسؤول الأول عن خمسين ستين عاماً من تصحير الاستقلال العربي، من حرمان أغلبيات شعوبه من أية مشاركة حقيقية في إنتاج مصائرها، من صنع رجالها المخلصين، وطلائعها المتنورة؛ وإذا كان الغرب قد أفلح في ماضي الأيام بإجهاض ثورات العرب، أو تزييفها، وتحويل معظمها إلى مضادات لأبسط ادّعاءاتها الأخلاقية والحضارية، فإنه اليوم، إزاء انبعاث هذا الربيع من رميم تلك النهضات السابقة المغدورة، كأنه مضطر هذه المرة أن يتقمّص مهمة الحليف الذي لا غنى عنه . يختار شراكة المنتصر بدلاً أن ينهزم مع أتباعه المنهارين، متأملاً استعادة السيطرة بأسلوب مختلف.

يريد الغرب أن يقول للشعوب العربية الغاضبة أنه إنْ كان هو صانع أنظمة الاستبداد/الفساد، فإنه سيكون هو كذلك من يضع حدّاً لشيخوختها الطويلة، إذ أصبح أكثرُها هياكلَ منخورة بأمراضها المستديمة. لكن لن تمتد يد الشعوب وحدها لاسقاطها دون إذن من أصحابها الأصليين، أو دون عونٍ منهم، ظاهر أو خفي، فالمثال الليبي شكّل المعيار الأوضح والأعلى لحجم التدخّل الأجنبي، وكونه عاملَ حسمٍ في تحييد أساسي لعنف البطش السلطوي. لكن الثورة المضطرة لحمل السلاح ستكون مضطرة أكثر لنجدة الأجنبي لصدّ جيوش «الوطن»، من العسكر والأمن والمرتزقة. من هنا ستواجه الثورة الجديدة أحدَ أهم الاستعصاءات حول طبيعتها، وليس حول خياراتها فحسب. سوف يتأرجح وعيها القيادي بين فكيْ الإحراج الوجودي؛ ما بين منطق الإمكانيات، وآخر للضرورات. فالثورة الليبية خاضت حرباً عسكرية تخطّت قدراتها الأصلية الوطنية، جعلتها تحتاج إلى مختلف أشكال الدعم، وإن بدرجات محدودة ونسبية، هكذا تخرج الثورة عن طبيعتها الوطنية الخالصة، لتبدو كأنها صفقة دولية متعددة الرؤوس والأطراف والأهداف. ومع ذلك فإن النصر الناقص حتى الآن، قد يمنحها قوة البرهان المادي والواقعي على جدارتها في عين ذاتها وأنصارها. إنها مدعوة إلى تحمّل أعباء سلطة ناجحة، وقادرة على ترجمة دعوة التغيير إلى برنامج حكم مختلف، شرْطه الأول استعادة الاستقلال مصحوباً بالسيادة الناجزة للدولة المدنية المأمولة. هل سوف تنسف شراكة الضرورة مع الأجنبي، لتقيم شراكتها الديمقراطية مع شعبها وحده.

ليبيا المتحرّرة ليست كعكة منافع مشاعة، يتناهشها القريب والغريب. هكذا تُصوّر صحافةُ الغرب اليوم التالي على الثورة؛ فالنفط وإعادة البناء فَرَسان أسودان يجرّان عربة الاستقلال إلى هاوية الليبرالية المتوحشة، إن لم تستطع الثورة أن تنتج دولتها بأسرع مما يسيطر زبّانية المال الفلكي على مقدرات البلاد والعباد. هنالك سباق جهنمي مفضوح فيما بين ذئاب الغرب، ومعهم بعضُ وكلائهم من رفاق الدرب النفطوي (الثوري). كأنما مقدّر للثورة الليبية، بل العربية عامة، أَلا تتحرّر من دولة الاستبداد/الفساد حتى تقع أسيرة لدولة الاستغلال الدولي والإقليمي لثروات الأمم المغلوبة على أمرها، حتى وإن بَذَلَت أرواح الألوف من شبابها تحت لواء الديمقراطية المستحيلة. حتى وإن لم يتزحزح إيمان هؤلاء الشبيبة بالحرّية في ذاتها قيد أنملة، يعد كل تجربة مغدورة أو ظافرة نسبياً.

الثورة هي بين عدو الداخل وعدو الخارج، تحاول أن تؤكد استقلالها الفكري والسياسي معاً. لكن موجات عاتية من انتهازيات العدويْن معاً، تتنافس على امتطاء متنها، والقفز على ظهرها، إلى ما يتعداها من الغايات الأخرى المشبوهة. وفي جو الاقتتالات الواضحة المعالم مع فلول الأنظمة المتداعية، تتنامى ظاهرات التحريف والتوظيف والاستغلال من كل جهة. فالغرب يعمل بقواه المباشرة ظاهرياً، لكنه متمكّن أكثر، من عادات التسلّل واستخدام الآخرين، من بين الصفوف الأولى أحياناً، وما وراءها، من جماعات المحاربين والمناضلين معاً. فالتدخّل العسكري ليس سوى القمّة الظاهرة لجاهزيات أعمق في الممارسة الشعبوية التي ألَّفها الاستعمار منذ فتوحاته الكبرى. وفي هذه الحقبة الراهنة من غَلَبة نموذج الصراع ضد عدو الداخل، يعتقد مخططو الغرب أنه يمكنهم التضحية كلّياً بنظام الأنظمة العربية المتعفن، والعمل مجدداً لحالة غير مسبوقة في مسيرته، يمكن الاصطلاح عليها منذ الآن، بحالة «تَسَعْمُر» ذاتية. قد ينخرط في وعثائها البعض، من الفصائل المستحدثة تحت تسميات «الناشطين» السياسيين المتعاونين ومشتقاتهم.

الغرب لن ينزاح بعيداً عمّا هي مبدئيات الماكرو استراتيجية لمشروعه الكينوني إزاء الشرق الأدنى منه، وهو قارة العرب والإسلام. وفي ظرفه الاقتصادي العسير الراهن، تغدو هذه الماكرو استراتيجية في أوَج برهانيتها وسيطرتها على الرؤوس الحامية من قادة السياسة والفكر معاً. كأنما يتعلق مصير المدنية الغربية مجدداً، بما يمكّنها من لعب دور شريك الضرورة المفروض على أهمّ ما تنتظره قارة العرب والإسلام من متغيراتها الكينونية الخاصة بشخصيتها المفهومية الصاعدة. بدلاً أن يُمسي الغرب هو موضوع الثورة، يحاول أن يكون فاعلاً رئيسياً في نجاحها أو تعثّرها. فالمثال الليبي قدَّمَ تمريناً صارخاً، برموزه ودلالاته، عن نشأة حالات من ظاهرة «تَسَعْمُر» بعض الثورة ورجالها، باللاإرادة، أو الجهل، أو بحكم الضرورة المفتعلة وحدَها.

ما يحدث لثورةٍ ليبيةٍ مفتوحةٍ على شتّى الاحتمالات، ينبغي ألا تكرّره الثورة السورية. فهي وحدها من بين الثورات الشقيقات، صمدت ستة أشهر بقوة جماهيرها فحسب. وكان صمودها، ولا يزال، يُقارع أوحش إرهاب سلطوي عرفته إنسانية القرن الواحد والعشرين. وقد يُخطئ، أو يتعمّد الخطأ البعضُ من ناشطيها، في طلب حماية من أحد غيرها، سوى تفجير المزيد من إمكانيات شعبها التي لم تقدم منها إلا عينة عن الانطلاق والصمود والنمو حتى الآن؛ حماية الثورة هي من أصول وجودها وأخلاقها؛ وانتصاراتها المحدودة، هي الواعدة حتماً بالأعظم من كنوزها، فاستحقاق الثورة لوقائعها المجيدة، هو وحده استحقاق حمايتها لذاتها. ولا شيء يمكن أن يكسر هذه المعادلة كالاستنجاد بنقيضها المفهومي والمادي. فالثورة الشاميّة اكتسبت قوتها من طهرانية أنبل وأرفع هدف للنهضة وهي: الحرية. لم يساندها جيش «وطني» ولا مدفع أجنبي، وهي انطلقت ببضع عشرات من الشباب لتغدو جماهيرَ ألفيةً. فهي الثورة الحقيقية المستحقّة كلّياً لصفة الشعبية والعفوية الوطنية والبراءة الإنسانية. وقد تتأهل لتكون طليعة مستقبلها اليوم، وغداً؛ لها ولأمتها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2165746

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165746 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010