الثلاثاء 6 أيلول (سبتمبر) 2011

غداً ستكون أنت المتهم!

الثلاثاء 6 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. علاء الاسواني

في يوم 9 مارس، كان المواطن جورج مجدي عطا مع أربعة من أقاربه الشبان خارجين من محطة المترو في ميدان التحرير، بينما كانت الشرطة العسكرية تفض اعتصاماً بالقوة. تم القبض على الشبان الخمسة، وكلهم موظفون يعملون في شركات محترمة، لكنهم فوجئوا بتحويلهم الى محاكمة عسكرية عاجلة مع عشرات المتظاهرين بتهمة حيازتهم لزجاجات مولوتوف والاعتداء على الشرطة العسكرية. الغريب أن النيابة العسكرية قدمت عشر زجاجات مولوتوف كدليل إدانة لـ 200 متهم، وذلك يعنى أن كل عشرين متهماً استعملوا زجاجة مولوتوف واحدة، والأغرب من ذلك، أن أحد المتهمين الشبان، واسمه روماني كامل، كان مصاباً بشلل الأطفال مما يجعل اعتداءه على الشرطة العسكرية مستحيلاً من الناحية العملية. بعد 24 ساعة فقط، تم الحكم على الشبان الخمسة بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وبعد أن قضوا في السجن الحربي أسابيع طويلة، وبعد أن توسل أهلهم وبكوا في وسائل الإعلام واسترحموا السلطات تم تخفيف الحكم الى عام واحد مع ايقاف التنفيذ (مما يجعلهم دائماً تحت سيف القضاء العسكري). أما المواطن سيد صبحي عبد الحميد، فهو يعمل سائقاً في محافظة البحيرة، وعندما حصل ابنه على دبلوم التجارة اشترى له سيارة ليعمل عليها سائقاً، وبينما السائق الإبن يقود سيارته على طريق رشيد الاسكندرية فوجئ بأن الطريق مغلق وحدثت مشادة بينه وبين مأمور قسم ادكو، فأمر بالقبض عليه، وتم تحويله الى المحاكمة العسكرية بتهمة البلطجة وحيازة السلاح، وصدر ضده الحكم بخمس سنوات حبس مشدد وخمس سنوات مراقبة.

أما الشاب أحمد عبد الرحمن عبد الرحيم (25 عاماً) من الاسكندرية، فقد أبلغ ضده أحد الجيران بأنه يقوم بتعلية دور إضافي في بيته بدون ترخيص، فتم القبض عليه وتقديمه لمحاكمة عسكرية أصدرت حكماً بحبسه خمس سنوات، وعندما تظلم أهله أعيدت محاكمته ليصدر الحكم مرة أخرى بالعقوبة نفسها.. الحكايات كثيرة عن المحاكمات العسكرية التي تعرض لها مواطنون مدنيون، فبعد تنحي حسني مبارك يوم 11 شباط/فبراير وحتى الآن، أي خلال سبعة أشهر فقط، تم تقديم 12 ألف مصري مدني الى محاكمات عسكرية. إن تحويل المدنيين الى المحاكمات العسكرية انتهاك صارخ لمبادئ العدالة وقواعد القانون وحقوق الانسان، كما أنه يخالف الاتفاقيات الدولية التي وقعت مصر عليها. من حق أي انسان ان يحاكم أمام قاضيه الطبيعي، فالأخير هو القاضي النظامي الذي يعمل مستقلا تماما عن السلطة التنفيذية، وهذه الاستقلالية لا تتوفر إطلاقاً في القاضي العسكري، لأن القضاء العسكري ادارة تابعة لوزارة الدفاع، كما أن القاضي العسكري، بالرغم من دراسته القانونية، الا أنه في النهاية ضابط يخضع للتعليمات والعقوبات الادارية ويتلقى مكافآت من رؤسائه. المحاكمات العسكرية، اذن، ظلم بيّن وانتهاك لحقوق المصريين المدنيين، كما ان الطريقة التي تجري بها المحاكمات العسكرية تفتقر الى أبسط الضمانات القانونية: أهالي المتهمين يعانون الأمرّين ليعرفوا أماكن احتجاز أقاربهم، وعادة لا يسمح لهم باختيار محاميهم، كما أن القاضي العسكري في أحوال كثيرة يحاكم كل خمسة أو عشرة متهمين دفعة واحدة. أضف الى ذلك، أن سرعة التقاضي لا يمكن أن توفر العدالة. هل من العدل أن تُنظر قضية في يوم أو يومين ثم يصدر الحكم بخمس سنوات سجن؟ هل من العدل ان يحاكم مواطن مدني لأنه قام بتعلية دور في بيته بدون ترخيص أمام محكمة عسكرية بينما حبيب العادلي ومساعدوه، الذين قتلوا مئات المصريين، يحاكمون أمام قاضيهم الطبيعي ويتمتعون بكل الضمانات القانونية؟ إن إصرار المجلس العسكري على تحويل المدنيين الى محاكمات عسكرية يفتح الباب لأسئلة عديدة نوجزها في التالي:

أولاً: لماذا تتعامل الشرطة العسكرية مع المصريين بهذه القسوة؟

طبقاً لتقارير منظمات حقوقية مصرية ودولية، فقد ارتكب أفراد الشرطة العسكرية انتهاكات مؤسفة وجسيمة لكرامة المصريين وحقوقهم الانسانية. لأول مرة في تاريخ مصر، يتم القبض على 17 فتاة من المتظاهرين يوم 9 آذار/مارس، فتجبرهن الشرطة العسكرية على اجراء اختبارات للتأكد من عذريتهن. توسلت الفتيات للضباط لكي يتركوهن، لكنهم أجبروهن على خلع ملابسهن والاستلقاء عاريات تماما أمام عيون رجال لا يعرف أحد إن كانوا أطباء أم متفرجين، وتم تصويرهن عاريات والكشف على مواطن العذرية فيهن أمام الواقفين. شهادات البنات موثقة بالأسماء والصوت والصورة، وهذه الواقعة المؤلمة في ذاتها تشكل جريمة هتك عرض لبنات مصريات كان يفترض أن يحافظ أفراد الشرطة العسكرية على أعراضهن لا أن ينتهكوها. عشرات الشهادات الموثقة، يحكي فيها المتظاهرون كيف تعرضوا للإهانات والضرب المبرح والصعق بالكهرباء عندما قبض عليهم أفراد الشرطة العسكرية، الذين كانوا يطلبون منهم الركوع بغرض إذلالهم، أو يجبرونهم على النوم على الأرض ثم يمشي العساكر على ظهورهم. سأكتفي هنا بجزء من شهادة (وثقها مركز النديم) لسيدة مصرية اسمها زينب تم القبض عليها ثاني أيام رمضان في ميدان التحرير اذ تقول:

«كانوا كتير قوي ماسكني من إيديَّ الاتنين.. واحنا ماشيين واحد رفع البلوزة وبدأ يضربني على جلدي على طول ويشتمني شتيمة قذرة في الشرف وعملوا لي زفة قذرة. أنا ما كنتش حاسة بألم من الضرب. أنا كنت أتألم من الإهانة بسبب تعرية جسمي وشتمي. لا إله إلا الله. ده ميدان التحرير اللي أحسن ناس في مصر ماتت فيه؟»

كانت زينب محظوظة، بعد أن ضربوها وهتكوا عرضها، أثار منظرها وهي عارية ومهانة شفقة بعض جنود الشرطة العسكرية، فتشفعوا عند القائد الذي أطلق سراحها.

لماذا تتعامل الشرطة العسكرية بهذه القسوة مع المتظاهرين؟ أعتقد أن الشرطة العسكرية لا تختلف كثيرا عن مباحث أمن الدولة في رؤيتها للمتظاهرين. الذين يعملون في أجهزة القمع يحتاجون نفسياً للتفكير في ضحاياهم باعتبارهم عملاء أو مومسات أو أعداء للوطن. الذي يمارس القمع لا بد أن يشوه في ذهنه صورة ضحاياه حتى يقتل ضميره ويتمكن من قمعهم وتعذيبهم.

ثانياً: هل تساعد المحاكمات العسكرية في القضاء على البلطجة؟

هذا غير حقيقي. أولا، لأن القانون العادي يكفي جداً لمواجهة الجرائم جميعاً، وثانياً لأن المحاكمات العسكرية نادراً ما تم استعمالها ضد البلطجية الحقيقيين. مصر تعيش حالة خطيرة من الانفلات الأمني، فقد أطلق نظام مبارك 23 ألف سجين جنائي من السجون لترويع المصريين، وحتى الآن لم يتم تطهير جهاز الشرطة من قيادات النظام السابق الذين ينفذون خطة، فيما يبدو، بغرض التقاعس عن حماية الأمن حتى يعاقبوا المصريين على الثورة ويجعلوهم يندمون عليها. ماذا فعلت الشرطة العسكرية للقضاء على الانفلات الأمني؟ الإجابة لا شيء تقريباً. إن المحاكمات العسكرية التي طالت صحافيين وإعلاميين وثواراً ومتظاهرين ومواطنين بسطاء لم تقترب من البلطجية الحقيقيين إلا نادراً. في محافظة قنا، تم قطع أذن مواطن قبطي بواسطة بلطجية ولم يتم القبض عليهم، وفي قنا أيضا تم اغلاق خط قطار الصعيد لمدة عشرة أيام بواسطة بعض الأشخاص فلم تقبض عليهم الشرطة العسكرية، بالاضافة الى ذلك، تم إحراق كنائس عديدة في أطفيح وإمبابة وظهر المعتدون في تسجيلات بالصوت والصورة لكن الشرطة العسكرية لم تقبض عليهم، بل ان أحد المواطنين الملتحين ظهر في فيديو مسجل وهو يحرض على حرق الكنائس ولم تقترب منه الشرطة العسكرية، وفي أحداث العباسية، كان البلطجية يعتدون على المتظاهرين، فأصابوهم وقتلوا الشهيد محمد محسن أمام أنظار الشرطة العسكرية التي اكتفت كالعادة بالتفرج ولم تتدخل.

ثالثاً: ألا تعد قرارات المشير طنطاوي بالإفراج عن بعض المعتقلين مبادرة طيبة؟

إن قرارات المشير طنطاوي بالعفو عن بعض المحكوم عليهم، بالرغم من كونها بادرة طيبة، إلا أنها أكبر دليل على أن القضاء العسكري غير مستقل، فالذي يملك العفو يملك بالضرورة فرض الأحكام. وفي دولة القانون، لا يملك أحد، حتى لو كان رئيس الدولة، سلطة تعطيل القانون.

ليس المطلوب مبادرات إنسانية، وإنما إيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين ومحاكمتهم أمام قاضيهم الطبيعي.

رابعاً: لماذا يتمسك المجلس العسكري بالمحاكمات العسكرية؟

التفسير الوحيد، أن المجلس العسكري يريد أن يستبقي في يده وسيلة قمع فعالة تمكّنه من السيطرة على الرأي العام وإخماد الأصوات المعارضة لسياساته. لقد كسر المصريون، أثناء الثورة، حاجز الخوف، كما أن جهاز الشرطة يعاني من ضعف الأداء، وبالتالي فإن المجلس العسكري يجد نفسه وحده في مواجهة رأي عام أيقظته الثورة وجعلته متحدياً مصرّاً على انتزاع حقوقه .. الهدف الحقيقي من إحالة المدنيين الى محاكم عسكرية، هو إرجاع المصريين الى حظيرة الطاعة والخضوع، فعندما يعلم كل شاب أن اشتراكه في تظاهرة قد يكلفه بضع سنوات في السجن الحربي، وتعلم كل فتاة أن اشتراكها في التظاهرة سيؤدي الى انتهاك عرضها وتعريتها أمام الرجال لإجراء كشف العذرية، عندئذ سيعود المصريون الى الخوف والسلبية ويذعنون للمجلس العسكري حتى لو كانت قراراته خاطئة أو ظالمة. حتى الآن، لم تحقق المحاكمات العسكرية الغرض منها، فلا زالت روح الثورة متقدة ولا زال المصريون مصممين على انتزاع حقوقهم مهما يكن الثمن.

ان وقف احالة المدنيين الى محاكمات عسكرية قضيتنا جميعاً. لقد دعت الجمعية الوطنية للتغيير الى تظاهرة في ميدان التحرير يوم الجمعة القادم من أجل إيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين، أظن أن الاشتراك في هذه التظاهرة فرضُ عين على كل مصري. قد نختلف في أفكارنا السياسية أو في رؤيتنا لوظيفة الدين في الدولة، لكننا يجب ألا نسمح لأنفسنا بالاختلاف حول حق المصريين في محاكمات عادلة. لقد قدمت الثورة المصرية ألف شهيد وألف مفقود في الغالب استشهدوا وتم دفنهم في أماكن مجهولة، بالإضافة الى 1400 فقدوا أبصارهم من الرصاص المطاطي وخمسة آلاف مصاب.

لا يمكن بعد كل هذه التضحيات أن نستبدل بمباحث أمن الدولة الشرطة العسكرية. لا يمكن أن نقبل إهدار كرامة المصريين من أي جهة كانت، إن كرامة أبسط مواطن مصري أهم من أكبر سلطة في البلد. هكذا علمتنا الثورة.. عزيزي القارئ، اذا سكتَّ اليوم على المحاكمات العسكرية وسمحت بها لغيرك فقد تكون غداً أنت المتهم. يكفي أن تكون عابراً في الشارع أثناء فض اعتصام أو تفريق تظاهرة لتجد نفسك مقبوضاً عليك والتهم جاهزة: البلطجة واستعمال زجاجات المولوتوف والاعتداء على الشرطة العسكرية وإهانة القوات المسلحة.

المحاكمات العسكرية للمدنيين يجب أن تتوقف فوراً.

الديموقراطية هي الحل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165868

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165868 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010