الثلاثاء 23 آب (أغسطس) 2011

أرض لم تطأها أقدامنا من قبل

الثلاثاء 23 آب (أغسطس) 2011 par مصطفى بسيوني

عندما تدفقت جموع المتظاهرين، إلى محيط السفارة «الإسرائيلية»، بعد الإفطار مساء الجمعة 19 آب/ أغسطس، كانت الأجواء تنذر بالعواقب الوخيمة، فالمنطقة التي تقع فيها السفارة ارتبطت دائماً بالصدامات والعنف، وعُدّت دائماً خطاً أحمر للمتظاهرين. حتى بعد الثورة، عندما احتشد المتظاهرون لإحياء ذكرى النكبة، والتضامن مع التظاهرات الفلسطينية، فوجئوا بأجهزة الأمن تقمع المتظاهرين وتطلق الرصاص في الهواء لإرهابهم، وقنابل الغاز المسيل للدموع لتفرقهم وتطاردهم، وتلقي القبض على العشرات منهم. مع تزايد الأعداد، وتزايد الغضب، بدأ المتظاهرون يشعرون بثقة أكبر، وتقدموا نحو سور «كوبري الجامعة»، وبدأوا ينتزعون أسوار الصاج من أعلى سور الكوبري التي تحجب رؤية الشارع المتفرع من ذاك الذي تقع فيه السفارة. التحصينات التي أحاطت بالشارع من كلّ جانب، لم تكن تبعث على أي أمل في إمكان الاقتراب خطوة واحدة. مسطحات من الصاج المدعّم بقضبان الحديد تعلو سور كوبري الجامعة، تليها أسلاك شائكة، ثم صفوف متتالية من الجنود، وأخيراً مدرعات تعلوها مدافع رشاشة.

ومن ناحية مدخل الشارع، كانت كتل الخرسانة الضخمة تغلق الشارع تماماً وبارتفاع يبلغ حوالى خمسة أمتار، تليها مسطحات الصاج، ثم الأسلاك الشائكة وصفوف جنود مسلحين بالبنادق الآلية. النظرة الأولى إلى تلك التحصينات تؤكد أنّه لا سبيل حتى للاقتراب من محيط السفارة، لكن نظرة أخرى إلى الوجوه الغاضبة التي جاءت من كل اتجاه، كانت توحي بأنّ الأمر ليس محسوماً. عندما بدأ المتظاهرون بانتزاع الصاج عن كوبري الجامعة، ترقّب الجميع ردّ فعل القوات المحتشدة، لكنّه لم يأت، فتأكد المتظاهرون أنّ هناك أوامر بضبط النفس، وأنّ الذين أغضبهم الاعتداء الصهيوني على الحدود، وجاؤوا مطالبين بالثأر للشهداء، لن يلقوا المعاملة المعتادة، وأنّهم يستطيعون الذهاب أبعد من ذلك، وأنّ التحصينات الفائقة ستتكفل وحدها بمنعهم، دون عنف من القوات المرابطة، لكن الخطوات التالية كانت مفاجئة. جماعات من الشباب تعتلي كتل الخرسانة وتبدأ في استخدام قضبان ومواسير حديدية طويلة انتزعتها من التحصينات نفسها كعتلات لخلخلة الكتل التي بدأت تترنح، وتسقط واحدة تلو الأخرى، كما تسقط قطع الدومينو. ألواح الصاج والحواجز المعدنية بدت مفيدة لو استخدمت كبساط فوق الأسلاك الشائكة، فبدأ المتظاهرون يفترشونها فوق الأسلاك الشائكة، ويعبرون فوقها، ليصبحوا وجهاً لوجه أمام صفوف الجنود المسلحين بالبنادق الآلية. جنود بدوا غير عازمين على استخدام العنف، وإن كانوا مصرّين على منع تقدم المتظاهرين الذين أصبحوا بالفعل في مدخل الشارع الذي تقع فيه السفارة. مع مشهد اختراق شارع بن مالك، بدأت الجموع أعلى كوبري الجامعة تتوجه نحو مدخل الشارع، وبدأ الضغط يتزايد على صفوف الجنود التي انهارت سريعاً. اندفع المتظاهرون إلى شارع النيل، ولم توقفهم سوى كتلة من الجنود بعرض الشارع، تليها ثلاث مدرعات أغلقت الشارع بالعرض أيضاً. وقف المتظاهرون متمسكين بالمكان الذي استطاعوا الوصول إليه وهو لا يبعد عن العقار الذي تقع فيه السفارة سوى أمتار. اكتشفوا جميعاً، ومعظمهم في العشرينات، أنّه لم تطأ أقدامهم هذه البقعة من أرض مصر من قبل. فالشارع الذي تقع فيه السفارة «الإسرائيلية» كان محرماً على المصريين من غير سكانه، أو حرس السفارة، المرور فيه. وحتى المنطقة المحيطة به، كان السير فيها يستدعي الحذر، فمجرد الإبطاء في السير فوق كوبري الجامعة في تلك المنطقة، لالتقاط الأنفاس كان يقابَل بالزجر الفوري من الحرس في الزي الأسود بالعبارة الشهيرة «اتحرك اتحرك ممنوع». وبمجرد توقف سيارة في ذاك المكان، كانت الأرض تنشق عن الحرس الذي ينهر السائق ويجبره على التحرك فوراً. وعندما انطلقت التظاهرات من جامعة القاهرة في 1986 احتجاجاً على اغتيال سليمان خاطر - جندي الحدود المصري الذي أطلق النار على مجموعة صهيونية خرقت الحدود وقتل عدد منهم وحكم عليه بالسجن وقتل في سجنه في ظروف لا تزال غامضة - وفي 1991 احتجاجاً على حرب «عاصفة الصحراء» ومشاركة مصر فيها، كان لا يسمح لها بالتقدم خطوات في شارع نهضة مصر المؤدي لشارع النيل. كانت كتل ضخمة من قوات الأمن تغلق الطريق قبل الوصول إلى تمثال النهضة، وتبدأ فوراً في الاشتباك مع التظاهرات، وفضها بالقوة. احتاج الشعب المصري إلى ثورة، وإلى إطاحة نظام مبارك، لكي يصل عدد من أبنائه إلى بقعة لم يكن من حق أحد أن يخطو فيها من قبل. واحتاج وقوف مئات من الشباب في شارع بن مالك إلى إرادة وإبداع تمتعت بهما جماهير الثورة دائماً. مشهد المرابطين في شارع النيل منذ مساء الجمعة والأيام التالية، يذكّر بما قام به عبد اللطيف بغدادي في 1953 عندما كان وزيراً للحكم المحلي وأحد الضباط الأحرار، فهو وجه إنذاراً إلى السفارة البريطانية بإخلاء إشغالات الطريق على كورنيش النيل في 48 ساعة، وإلا فسيخليها بنفسه. وعندما تجاهلت السفارة الإنذار، اقتحم بغدادي طريق الكورنيش، وأزال تعديات السفارة. الفارق أنّ القوات التي حمت بغدادي ساعتها، كانت تمنع المتظاهرين من المرور في أحد شوارع مصر. المتظاهرون الذين هتفوا بإنزال العلم الصهيوني، لم يكن لديهم أي إمكانات تسهل مهمتهم المستحيلة، والمتمثلة في إنزال علم من الطبقة الرابعة عشرة وهم واقفون على الأرض. الهتافات وحدها لم تكفِ لإنزال العلم، فبدأت الإبداعات : ألعاب نارية تطلق في اتجاه العلم، وتحاول الارتفاع مرةً بعد أخرى لعل إحداها تتسبب في إشعال النار في النجمة السداسية، لكن دون جدوى. ومع ذلك لم يبدُ على المتظاهرين أي تراجع، على العكس كانت الأعداد مساء السبت تتزايد، والقوى التي كانت غائبة حضرت، وبدأت الحماسة تتزايد أكثر وأكثر. ودون توقعات أو خطط مسبقة، انطلق أحد الشباب قبل الفجر، متسلقاً العقار المجاور لعقار السفارة. محاولة سبقتها محاولات لم يكتب لها النجاح، بعكس محاولة أحمد الشحات، الشاب الآتي من محافظة الشرقية، التي أنجبت من قبل سليمان خاطر. محاولة الشحات نجحت، ووصل إلى الطبقة الأخيرة، ونزع العلم «الإسرائيلي» للمرة الأولى منذ وضعه في هذا المكان، قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، وأحرق للمرة الأولى في مصر علماً رسمته أيدٍ «إسرائيلية»، وليس علماً رمزياً رسمه المتظاهرون، ورفع مكانه العلم المصري.

كان من الممكن أن تنتهي محاولة الشحات في منتصف الطريق كسابقاتها، لكن من رأى مشهد التحصينات التي تقطع أي طريق للأمل في البداية، وكيف سارت الأمور، سيعرف أنّ ما بدأه المتظاهرون فوق كوبري الجامعة سينهونه، وأنّ كل محاولة ستليها محاولات. إنزال العلم الصهيوني وإحراقه، ووضع العلم المصري مكانه، ليست سوى واحدة من حلقات النضال والمقاومة، سبقتها حلقات، والقادم أكثر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165586

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165586 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010