الأحد 21 آب (أغسطس) 2011

«إسرائيل» المأزومة خطرة

الأحد 21 آب (أغسطس) 2011 par علي جرادات

بفعلِ الطبيعة العدوانية للحركة الصهيونية، كحركة استعمار استيطاني إجلائي إحلالي، تمركز تفكير قادتها على إيجاد السبل الأنجع لتوفير عوامل القوة. وحتى بعد تأسيس الكيان الصهيوني، لم يختلف قادته، إلا حول أي النظُمِ أقدر على توفير عوامل القوة اللازمة للتوسع، ولشن الحروب والاعتداءات، وعلى منْعِ تفجر تناقضات كيانهم الداخلية، (وما أكثرها)، وعلى تركيز كامل إمكاناته وجهوده، وصبها في بوتقة الصراع مع أصحاب الأرض الأصليين، الشعب العربي الفلسطيني، بل ومع العرب عموماً.

عليه، ليس لأسباب مبدئية، بل، لأسباب عملية تتعلق بذات الغرض الصهيوني الثابت، أي توفير عوامل القوة، اختلف القادة الصهاينة على النظام الاقتصادي الاجتماعي الداخلي لكيانهم. وتمخض هذا الخلاف عن ولادة اتجاهين أساسيين، طبع الصراع بينهما تحولات السياسة الاقتصادية الاجتماعية الصهيونية الداخلية.

اتجاه صهيوني أيديولوجي مع ميول براغماتية بادية، قاده بن غوريون، (بعد وايزمان)، وأدرك أن الكذبة الأيديولوجية، «أرض السمن والعسل الخالية»، قد فقدت طاقتها مع انتهاء مرحلة إسهامها في لملمة المستوطنين اليهود واستجلابهم، وأن هذه الكذبة لا، ولن، تقوى على طحن التناقضات الداخلية لهؤلاء المستوطنين، في مرحلة ما بعد استزراعهم في كيان استعماري استيطاني، مفروض على أفراده خوض حروب مفتوحة، تحملَهم أعباء دم دائمة، علاوة على تحملِهم لأعباء ضريبية متصاعدة، تفرضها مقتضيات الصرف الخيالي على شؤون الأمن والحرب والتوسع الاستيطاني غير المسقوفة. لذلك، فإنه ليس لنبلٍ أو لحسٍ إنساني، بل لغرض تعزيز قوة كيانهم وعدوانيته وتماسكه الداخلي، استعمل قادة هذا الاتجاه أفكار بعض التجارب الاشتراكية، ووظفوها في بناء سياسة اجتماعية ضابطة لنظام اقتصادي رأسمالي، تكفل توفير حد من العدالة الاجتماعية، يسهم، مع الضخ الأيديولوجي المتواصل والتداول السلمي للسلطة، في طحن التناقضات الداخلية للكيان الصهيوني، وصبها في بوتقة الصراع مع العرب بعامة، ومع الفلسطينيين منهم بخاصة.

واتجاه صهيوني أكثر أيديولوجية ويمينيةً وتشدداً، قاده بيغن، (بعد جابوتنسكي)، الذي اختلف مع وايزمان، كرئيس للحركة الصهيونية، وقام بتأسيس ما سُمي بـ «الصهيونية التصحيحية»، التي افتتن قادتها بقدرة نظام السوق الحر المتحرر من أية قيود، على توفير عوامل القوة، ذلك بفعل تأثر مؤسسها، جابوتنسكي البولندي الأصل، بأفكار الحزب الليبرالي البولندي، المعادي للحركة الاشتراكية وفكرها، أيام كانت بولندا جزءاً من الإمبراطورية الروسية.

لكن هذا الخلاف بين قادة هذين الاتجاهين الصهيونيين الأساسيين، لم يحُلْ دون إجماعهم على ربط كيانهم، من الرأس حتى الكعب، بالنظام الرأسمالي الغربي، والدُ سياسة الاستعمار، التي كان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني أقبح ولاداتها، بما تفرد به من طابع اقتلاعي ابتلاعي. وفي هذا دليل واضح على أن هدف توفير عوامل القوة، كان، ولا يزال، هدفاً صهيونياً ثابتاً جامعاً، وعلى أن خلاف قادة الاتجاهين الصهيونيين الأساسيين في النظام الاقتصادي الاجتماعي الصهيوني، إنما انحصر في وسائل تحقيق هذا الهدف، ليس إلا.

ظل الاتجاه الصهيوني البراغماتي، بقيادة بن غوريون، هو الاتجاه الحاكم في «إسرائيل»، والمُحدد لسياستها الاجتماعية ونظامها الاقتصادي، لمدة ثلاثين عاماً، إلى أن تمكن الاتجاه الثاني عام 1977، من هزيمته والفوز بالسلطة لأول مرة. وبتسيد هذا الاتجاه، بقيادة بيغن، الصهيوني الغارق في أيديولوجيته اليمينية المتطرفة، كأنها الواقع، وقعت بداية تحولٍ نوعي في السياسة الاجتماعية الصهيونية، وذلك في تزامن، (أعتقد أنه ليس مصادفة)، مع قيادة ريغان وتاتشر لتحولات مماثلة في النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي لبلديهما، وهما البلدان الحليفان الاستراتيجيان للكيان الصهيوني، والأكبر ثقلاً، وخاصة أمريكا، في تحديد السياسة الاجتماعية للنظام الاقتصادي الرأسمالي في العالم، إن كان في «مركزه» أو «محيطه».

وقد أعطى الانهيار اللاحق للنظام الاشتراكي البيروقراطي السوفييتي، فضلاً عن انهيار باقي الأنظمة التابعة له في دول أوروبا الشرقية، دفعة نوعية هائلة، حولت سياسة ريغان وتاتشر اليمينية العدوانية المتطرفة، بالمعنيين السياسي الخارجي والاقتصادي الاجتماعي الداخلي، إلى سياسة طاغية في النظام الرأسمالي المعولم، بقيادة أمريكية، كسياسة قادت، فيما قادت إلى مزيد مِن التقاطب، حيث 30 شركة معولمة تمتلك 70% مِن السوق الدولية، فيما 32% مِن البشرية يعيشون تحت خط الفقر، و850 مليوناً من دون مياه صالحة للشرب، ومديونية ناهزت 1.8 تريليون على بلدان «العالم الثالث» التي لا تقوى على سداد الفوائد. بل، وقادت إلى احتلال أفغانستان والعراق وبنما، والتلويح الدائم بالغزو، ووقوع أكثر مِن 40 حرباً محلية، بما يعاكس تنظيرات أن سياسة تحرير السوق الحر من أية قيود، قد وضعت نهاية للحروب، وخلقت سوقاً واحدة للتنمية الشاملة للكرة الأرضية، فيما الحقيقة أنها لم تفعل سوى تحرير غرائز السيطرة والهيمنة والنهب مِن عقالها، ما أدى إلى تفجير أشرس الحروب العدوانية المدمرة، وإلى التنامي البكتيري لأبشع أشكال الفوضى والركود والمجاعة والبؤس والمافيا وتجارة الجنس والبطالة والفقر وحرمان الشعوب مِن حقها في الاستقلال والحرية والتنمية الحرة، وفرض التخلف الحضاري والاجتماعي على شعوب بأكملها.

هنا، ونظراً للإجماع الصهيوني على العدوان، تلقف قادة حزب العمل الصهيوني هذه السياسة، وتخلوا عن الخط الاجتماعي لحزبهم، ما أدى إلى خلقِ توافق صهيوني عام على إعادة صوغ للبنية السياسية الاجتماعية الصهيونية، بما سمح بتحرير الاقتصاد الصهيوني من أية قيود، وهو ما أدى إلى تحقيق طفرة نمو مبهرة، لكنه في المقابل، وكما هي عليه الحال، في باقي النظم الرأسمالية، قد أدى إلى خلق أزمة اقتصادية اجتماعية صهيونية بنيوية، أظهرتها للسطح موجة احتجاجات شعبية، آخذة في التوسع، ديموغرافياً وجغرافياً، تنادي بتوفير «العدالة الاجتماعية».

هنا، وفي ضوء هذه الأزمة، التي يرفض قادة «إسرائيل» بالإجماع حلها بالتخلي عن سياستهم الرافضة للتسويات السياسية للصراع، والثابتة على شن الحروب والاعتداءات وتوسيع عمليات الاستيطان والتهويد، يثور السؤال : أليس من الوارد لجوء قادة الكيان الصهيوني، إلى حل هذه الأزمة الاجتماعية الاقتصادية، ذات الطابع البنيوي، عبر الإقدام على شن حرب جديدة، خاصة مع توفرِ دوافع أخرى لشنها؟ أظن أن احتمال إقدام قادة «إسرائيل» على شن حرب جديدة، هو احتمال غير مستبعد، بل، ومرجح، إذ دوماً كانت «إسرائيل» المأزومة خطرة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165426

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165426 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010