الخميس 18 آب (أغسطس) 2011

عودة أخرى لمأزق «الربيع العربي»

الخميس 18 آب (أغسطس) 2011 par د. يوسف مكي

في حديثنا السابق «مأزق الثورات العربية» انتهينا إلى طرح مجموعة من الأسئلة، وعدنا بمحاولة الإجابة عنها في هذا الحديث. لماذا عجزت الحركات الاحتجاجية عن تحقيق هدفها المركزي في إسقاط النظام؟ ولماذا تراجعت قوة دفعها؟ وأين نضع هذه الأسئلة في سياق العلوم السياسية والاجتماعية؟ وهل من مخرج للأزمة الراهنة التي تمر بها البلدان العربية؟

لماذا عجزت الحركات الاحتجاجية عن تحقيق هدفها الرئيس المتمثل في إسقاط النظام؟ سؤال يبدو بديهياً ومنطقياً إذا ما تم طرحه في سياق التحولات التي تجري حالياً في الوطن العربي، لكنه لم يكن دائماً كذلك. فهدف إسقاط النظام كما يطرحه المحتجون هو استبدال نظم فاشلة بأخرى قادرة على مقابلة استحقاقات الناس. ولكن المعضلة أن هذه الأنظمة الفاشلة أثبتت قدرتها على الاستمرارية، لعقود طويلة. وخلال عقود سطوتها تمكنت من تجريف المعارضات السياسية، بمختلف توجهاتها، ولم يعد في الساحة، على الصعيد الشعبي، من بإمكانه التصدي لها.

وإذا ما عدنا إلى «الربيع العربي»، فانطلاقته كما بدت عفوية، وإن كانت طريقة تنظيمها وسياقات تداعيها توحي بغير ذلك. الجوانب العفوية في الحركة لم تقتصر على طبيعة الحراك فحسب، بل تمثلت في غياب الأجندات والبرامج السياسية، لما بعد «إسقاط النظام». ذلك يطرح مسألة غاية في الأهمية، على بساط النقاش: هل يمكن إسقاط الدولة الفاشلة، دونما يقظة أو تهيؤ لما سوف يأتي بعدها؟ لقد سارعت القوى السياسية التقليدية المعارضة إلى اختطاف ثورتي تونس ومصر، ولأن هذه القوى غير متجانسة في توجهاتها ونظرتها للمستقبل، غاب المشروع النهضوي والتنموي عن هاتين الثورتين، وأصبح الهدف مكرساً في المبتدأ والخبر لإسقاط النظام، ولم يتضح أفق المستقبل، سوى في شعارات مبهمة تطرح الحرية والديمقراطية وتداول السلطة، وإعادة صياغة الدستور أو إصدار دستور جديد، دونما اتفاق على آليات لتحقيق هذه الشعارات.

أكاد أجادل في هذا السياق، أن التجربتين الوحيدتين اللتين تمكن فيهما المحتجون من إسقاط النظام، هما تجربة تونس ومصر. والسائد لدى معظم الناس، أن سبب الحسم يعود إلى انحياز مؤسسة الجيش في البلدين إلى الانتفاضة الشعبية، الأمر يبدو كذلك، لكن أليس من حقنا أن نقلب المعادلة فنقول بانحياز الشعب لمؤسسة الجيش، بدلاً من القول بانحياز الجيش إلى الشعب. من غير المنطقي، تصور انقلاب مفاجئ في ولاء الجيش، من التأييد الكامل للنظامين اللذين سادا في تونس ومصر لعدة عقود إلى تأييد ثورة الشعب، هكذا من دون مقدمات.

في الحالة المصرية، على سبيل المثال، حسم الجيش موقفه وانحاز لحركة الشارع، منذ 28 يناير/كانون الثاني بعد ثلاثة أيام فقط من بداية حركة الاحتجاجات، حين قام بطرد الأجهزة الأمنية من الشارع. واستمر ينتظر فرصته لاستلام السلطة إلى 11 فبراير/شباط، بعد ثمانية عشر يوم من حركة الاحتجاجات. هل كان الانحياز محض صدفة، أم أن المقدمات كامنة منذ وقت طويل، وكان الجيش ينتظر فرصة كالتي منحها له شعب مصر، فنفذ في طرفة عين مشروعاً تطلع إلى تنفيذه، منذ بدأ الحديث عن التوريث، وتحييد المؤسسة العسكرية، وإبعادها عن النفوذ الذي تمتعت به منذ ثورة 23 يوليو/تموز عام 1952؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن الشعب هو الذي انحاز للجيش، وأمن له تنفيذ مشروعه وليس العكس.

الذين يتحدثون عن انحياز الجيش الدائم للشعب المصري، ويستدلون على ذلك، برفضه قمع الانتفاضات الشعبية التي حدثت في تاريخ مصر المعاصر، عليهم أن يتذكروا أن انتقالاً استراتيجياً حدث في السياسة المصرية منذ منتصف السبعينيات، واستمر في خط بياني تصاعدي، على حساب سيادة مصر وحضورها التاريخي العربي والإقليمي، وكانت المؤسسة العسكرية شريكة بشكل أو بآخر في هذا الانتقال. نقول ذلك بقصد التشخيص لا التقييم.

والفارق بين الانقلاب العسكري، في يوليو 1952، وبين استلام الجيش الأخير لسدة الحكم في مصر في فبراير/شباط من هذا العام، أن انقلاب يوليو/تموز قام به الجيش، وتحول إلى ثورة سياسية واجتماعية، أسهمت بشكل فاعل في التطورات والتداعيات التاريخية التي شهدتها المنطقة العربية، في حين تسلم المجلس العسكري السلطة في مطلع هذا العام، في ظل غليان شعبي، لكن التحولات السياسية والاجتماعية بقيت حتى هذه اللحظة مغيبة بشكل شبه كامل من أجندة الثوار والعسكر على السواء.

بعد سبعة أشهر من هذه الأحداث يبدو أننا لا نزال في أول الطريق، والقراءة ينبغي أن تكون حذرة ويقظة. وكافة الاحتمالات لا تزال مفتوحة، ومصر حبلى بالكثير من الأعاصير.

لماذا تراجعت قوة دفع الثورات العربية، بحيث يصح القول إنها باستثناء تونس ومصر، تعثرت في مهدها؟ الإجابة عن هذا السؤال بديهية، يختزلها احتفاظ الدولة بمؤسساتها وقوتها العسكرية. وهنا نعود لنظرية ثيدا سكوكبول عن أسباب فشل وانتصار الثورات. فهي ترى أن السبب الرئيس في انتصار الثورات يكمن في فشل الدولة في احتواء أسبابها. إن ضعف مقاومات الدولة، سواء كانت فاشلة أو غير ذلك، هو الذي يمنح خصومها فرصة الانقضاض عليها.

في حالات ليبيا واليمن وسوريا، لم تنهر مؤسسات الدولة في هذه البلدان ولم تنحز جيوشها للثوار. وحتى في ليبيا التي تعيش الآن ما يشبه الحرب الأهلية الطاحنة، فإن العامل الحاسم في الوضع الذي بلغته هو تدخل قوات الناتو وليس قوة الثوار. ومع مختلف الدعم الذي تلقته السلطة الانتقالية في بنغازي لا يلوح في الأفق حتى هذه اللحظة ما يشي بقرب الحسم لمصلحة من يطلق عليهم اسم الثوار.

أما اليمن، فلا يتوقع انهيار شامل للنظام، نظر لتركيبته القبلية، والخشية هي أن ينتقل الصراع القبلي إلى عمق المؤسسة العسكرية. والأمل ألا تتحول البلاد إلى صومال آخر، تضيف إلى حالة الفوضى والتفتت، وتشكل عبئاً إضافياً على البقية الباقية من منظومة العمل القومي العربي.

في سوريا، فشلت الحلول الأمنية في القضاء على الحركة الاحتجاجية، وتصاعدت في هذا الأسبوع حمى التهديدات الدولية والإقليمية بالتدخل في الشأن السوري. والأمل أن يسارع النظام إلى اتخاذ إجراءات عملية نحو تفعيل الحراك الإصلاحي، والنأي عن الإفراط في استخدام العنف.

إنها مناسبة ندعو فيها القادة العرب، إلى تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك، واعتبار موسم الثورات مسألة عربية محضة، ينبغي تجنيب القوى الكبرى التدخل فيها. وهناك أكثر من سابقة لتدخل عربي عسكري لحماية الأمن والاستقرار في الأقطار العربية. حدث ذلك، على سبيل المثال، أثناء تهديد رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت، حيث أقرت جامعة الدول العربية، وجود جيوش عربية، على الحدود الكويتية العراقية لمنع أي هجوم على الكويت. كما حدث ذلك، في منتصف السبعينيات، حين دخلت قوات سورية إلى لبنان، لمنع الاحتراب الداخلي، وعقدت قمة سداسية في الرياض، أقرت تشكيل قوات ردع عربية، لحماية لبنان.

ينبغي الاتفاق على عقد عربي بمقابلة استحقاقات الناس فيما يتماهى مع التحولات التاريخية والسياسية التي يمر بها عصرنا، عصر الحرية والانتقال إلى الديمقراطية، قبل أن يجرفنا الإعصار، وذلك وحده هو الحل، الذي يحفظ الكرامة ويحقق تطلعات الثورات، يضمن بقاء الأمة عزيزة كريمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 80 / 2180685

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2180685 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40