الثلاثاء 9 آب (أغسطس) 2011

استحقاق أيلول : من يُنزل أبو مازن عن الشجرة؟

الثلاثاء 9 آب (أغسطس) 2011 par حسن شاهين

لم يكن ليخطر ببال محمود عبّاس، قبل أكثر من ستة أعوام، حين اعتلى سدّة الرئاسة في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أنّ الأمور ستؤول معه إلى ما آلت إليه، وخاصة أنّ الظروف الداخلية والخارجية كانت حينها مهيّأة له ليمارس الحكم أكثر مما كانت لسلفه الراحل الذي عانى من عزلة دولية، وتآمُرِ رجاله الأقربين عليه.

كانت حصيلة سنوات عبّاس في الرئاسة ثقيلة عليه بكل المقاييس. مع بداية عهده، تلقّت حركة «فتح» التي يرأسها ضربة قاسية عندما خسرت الانتخابات التشريعية الفلسطينية، واهتزّت بشدّة مكانتها كحركة قائدة ومهيمنة على القرار الفلسطيني. ثم ما لبثت أن خسرت غزة لمصلحة «حماس».

وتكرّس في عهده انقسام سياسي عمودي في جسد حركة التحرر الفلسطينية لم تشهد له مثيلاً من قبل. وعلى صعيد المفاوضات، مشروعه الأثير، كان الفشل حليفه، على الرغم من تركّز القرار السياسي في المنظمة والسلطة على نحو غير مسبوق بيد مجموعته التي تنبذ المقاومة مثله، وتشاطره اقتناعاته بأنّ المفاوضات هي الخيار الوحيد والأوحد أمام الفلسطينيين، وتمكنت من نفي كلّ من يعارضها في القيادة الفلسطينية الرسمية إلى الهامش.

وما زاد الطين بلّة كان تعاطي حكومة نتنياهو معه ومع سلطته بصلف وتعال، ففرضت منطقها وسياستها على الأرض بنحو فظ وصارم، دون أي مراعاة لموقف «شريكها» في «عملية السلام» أمام شعبه الذي يزداد سوءاً، يوماً بعد يوم. وعندما لجأ عبّاس شاكياً إلى الإدارة الأميركية لتكبح جِماح نتنياهو، لم يتوان هذا الأخير عن إحراج حليفه الأميركي ورفض مطالبه. وسرعان ما تراجع أوباما أمام تحدّي نتنياهو وعناده، فخفف لهجته من المطالبة بتجميد الاستيطان كشرط لمواصلة المفاوضات إلى مطالبة الحكومة «الإسرائيلية» «بكبح» الاستيطان، وهو مفهوم استعاره من نتنياهو نفسه.

ثم ما لبثت هيلاري كلينتون وزيرة خارجيته أن استدركت بأنّ «الكبح» ليس شرطاً لاستئناف المفاوضات.

ولم يكتف أوباما بذلك، بل حثّ عبّاس على الاعتراف بـ «يهودية دولة إسرائيل»، ووجهت إدارته اللّوم العلني إليه لأنّه رفض - أو لم يستطع - مباشرة المفاوضات والمستوطنات تنتشر وتتوسّع من حوله، وأمام ناظريه، باطّراد. لقد شعر أبو مازن بالخذلان، فهو لم يكن ليتخذ موقفاً حاسماً - على غير عادته - من مواصلة المفاوضات في ظل الاستيطان لولا شعوره بأنّه مسنود من الإدارة الأميركية التي سرعان ما تراجعت وتخلّت عنه، وأبقته على الشجرة التي أغرته بالصعود عليها وحيداً دون وسيلة للنزول!

لقد كان نتنياهو واضحاً. هو يرى أنّ على الجميع، بمن فيهم الإدارة الأميركية، أن يتفهّموا حق «إسرائيل» في الحصول على ما يلزمها من أرض، لتتمكن من الدفاع عن نفسها. عبّر عن ذلك بلا مواربة في خطابه الأخير أمام الكونغرس في 24 أيار الماضي حين قال: «سنكون كريمين بحجم الدولة الفلسطينية، وكما قال الرئيس أوباما، فإنّ الحدود ستكون مختلفة عن الحدود الموجودة في الرابع من حزيران 1967، «إسرائيل» لن تعود إلى حدود 1967 التي لا يمكن الدفاع عنها».

أمام هذا الفشل السياسي الذريع الذي يستنزف شرعية محمود عبّاس، يوماً بعد يوم، لم يعد أمامه غير القيام بخطوة دعائية تبدو خارج السياق، بهدف تحريك المياه الراكدة. فأعلن أنّه ذاهب إلى الأمم المتحدة لمطالبتها بقبول عضوية دولة فلسطين على حدود ما قبل السابع من حزيران 1967 في المنظمة الدولية.

أصبح ما يعرف بـ «استحقاق أيلول» الورقة الأخيرة في جعبة أبو مازن وفريقه لاستخدامها، لا في مواجهة تعنّت حكومة نتنياهو وتخلّي أوباما فحسب، بل وفي المقام الأول لمواجهة السخط الشعبي الفلسطيني المتنامي، وخاصة بين ظهرانيه في الضفة الغربية. فالشعب الفلسطيني الذي صبر طويلاً على صاحب خيار «التفاوض ثم التفاوض»، بعد أن أعطاه الفرصة تلو الفرصة، بدأ صبره ينفد وهو يشاهد الشعوب العربية من حوله تثور وتحاسب الأنظمة التي فشلت في أن تكون على مستوى آمال شعوبها وتطلعاتها.

وكعادتها في مثل هذه المواقف، دعمت المعارضة الفلسطينية داخل منظمة التحرير خطوة عبّاس، ورأت أنّ من شأنها أن تعيد القضية الفلسطينية إلى مسارها الأول كقضية نضالية كفاحية، تستند أساساً إلى شرعية تاريخية وشعبية، ثم إلى شرعية القرارات الأممية ذات العلاقة. أجادت هذه المعارضة، تاريخياً، لُعبة ادّعاء السذاجة وحسن النية، لتُلقي عن كاهلها مسؤولية الوقوف الجدّي في وجه قيادة أبو عمار بالأمس، واليوم أبو مازن.

لكن، لمَ لا يكون محمود عبّاس - الرجل الذي كان عرّاب أوسلو وعُرف طوال تاريخه بدعمه المطلق لنهج التفاوض وللتسوية السلمية ورفضه للمقاومة - جاداً في الذهاب في «استحقاق أيلول» إلى منتهاه، والإصرار على إعلان الدولة الفلسطينية بما يتطلبه ذلك بالضرورة من تحدّ للإدارة الأميركية والقوى الدولية الفاعلة الأخرى، والصمود في وجه عِقاب «إسرائيل» على الأرض؟ الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان عبّاس نفسه، حين طمأن غير مرة من يهمّهم الأمر إلى أنّ خطوته هذه لا تهدف أبداً إلى الخروج عن نهج التسوية.

ففي خطابه الأخير أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الذي انعقد قبل أيام (27/7/2011)، شدد على أنّ الذهاب إلى الأمم المتحدة ليس على حساب المفاوضات، والمفاوضات بحسب تعبيره هي: «خيارنا الأول والثاني والثالث»، وأنّه إذا نجح في هذه الخطوة «فسيكون شكل المفاوضات مختلفاً»، وأنّ المفاوضات تبقى الخيار حتى بعد الذهاب إلى الأمم المتحدة. وزاد على ذلك بالتأكيد أنّه لا يريد التصادم مع الولايات المتحدة، بل يرغب في التنسيق معها فقط! كان واضحاً في خطاب المجلس المركزي، ولم يبق إلا أن يقولها بصراحة : لا تأخذوني على محمل الجد، إنّي فقط أُناور حتى يحضر لي الرئيس أوباما سُلّماً لأنزل بواسطته عن الشجرة التي أغواني بالصعود إليها.

لقد تعاملت جماهير الشعب الفلسطيني بمعظمها مع خطوة عبّاس بكثير من التشكيك والريبة، وظهر ذلك في الفتور والسلبية التي قوبلت بها دعوته لها للنضال «السلمي» ضد الاستيطان، على غرار ثورات الشعوب العربية. إنّ هذه الجماهير قد خبرت أبو مازن وعرفته جيداً، فلا شخصيته ولا اقتناعاته ولا طبيعة فريقه السياسي توحي بأنّ هناك جديّة خلف «استحقاق أيلول». لقد أدركت جماهير الشعب الفلسطيني أنّ دعوته لها للثورة «السلمية» ليست أكثر من محاولة نافرة منه لامتطاء رياح التغيير التي تهبّ على المنطقة. وكأنّه لا يعلم، وهو يطالب الشعب الفلسطيني بأن ينتفض كرمى لعيونه، وليحقق مكاسب سياسية ضيقة على حساب دمائه وتضحياته، أنّ الشعوب العربية حين ثارت، كانت ثورتها على أنظمة مستبدة وفاسدة تشبه نظامه، لا لأجلها.

إن كان على أبو مازن وفريقه أن يستنتجوا شيئاً من الثورات العربية، فهو أنّ التاريخ قد تجاوزهم كما تجاوز حلفاءهم من الأنظمة البائدة، وتلك التي ستباد، وأن يعلم أنّ الجماهير الفلسطينية التي يُهدِد بثورتها «السلمية»، لن يكون تحركها المنتظر في مواجهة الاحتلال فقط!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2165857

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165857 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010