الثلاثاء 9 آب (أغسطس) 2011

كيف ننقذ الثورة؟

الثلاثاء 9 آب (أغسطس) 2011 par د. علاء الاسواني

في يوم 11 فبراير بعد الظهر كنت أمشي في شارع القصر العيني متوجها الى ميدان التحرير واجتمع حولي بعض المتظاهرين ليسألوني عن توقعاتي وبينما كنت أتحدث معهم استمعت فجأة الى صراخ حاد. أحسست بقلق لأنني كنت قد استمعت الى صراخ مماثل عندما بدأ الشهداء يتساقطون برصاص القناصة في الايام الأولى للثورة، على أن الصراخ هذه المرة كان له وقع مختلف. اندفعت سيدة محجبة خارجة من محل عصير وصاحت:

ـ مبارك تنحى.

لا أذكر بالتفصيل ما حدث بعد ذلك، فقد اندفعت مع ملايين الناس نحتفل بانتصار الثورة.. حالة من الفرح والزهو لم تشهدها مصر منذ نصر اكتوبر. انفعال صادق عميق دفع رجالاً كباراً الى البكاء كالأطفال. ظللت أحتفل مع المتظاهرين في ميدان التحرير حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. بدأ المتظاهرون ينصرفون، وهنا ارتفعت أصوات قليلة تقول اننا لا يجب أن ننصرف من الميدان حتى تتحقق مطالب الثورة كاملة.. لم تلق هذه الدعوة قبولاً. معظم الناس كانوا يرون ان الثورة قد انتصرت وأرغمت مبارك على التنحي ويجب عليها بعد ذلك اعطاء المجلس العسكري فرصته حتى يحقق مطالب الثورة.

كنا جميعاً نحس بامتنان نحو المجلس العسكري الذي انحاز للثورة ضد الطاغية ورفض اطلاق النار على المتظاهرين. أعتقد الآن أن أكبر خطأ ارتكبته الثورة المصرية حدث عندما انصرف المتظاهرون من ميادين مصر، فور تنحي مبارك عن الحكم. كان الواجب ان تشكل الثورة هيئة تمثلها يجتمع أفرادها مع المجلس العسكري ليشرفوا على تنفيذ مطالب الثورة. فقد أثبتت الايام بعد ذلك عدة حقائق:

أولاً : ان تنحي مبارك لا يعني اسقاط النظام، يكفي أن نتأمل تمسك الحكومة المصرية بجهاز أمن الدولة (بعد تغيير اسمه الى الأمن الوطني) ومناورات وزير الداخلية منصور العيسوي المستميتة من أجل حماية ضباط الشرطة والقناصة الذين قتلوا المتظاهرين، بل يكفي أن نتأمل حركة المحافظين الذين ينتمي معظمهم الى النظام القديم لندرك ان مبارك وحده الذي سقط بينما نظامه ما زال يحكم مصر.

ثانياً : يقتضينا الانصاف أن نعترف بفضل المجلس العسكري في حماية الثورة، لكن الحقيقة تقتضينا أيضاً أن نذكر أن المجلس العسكري لم يتفق قط مع الثورة في رؤيتها ولم ينفّذ أي مطلب للثورة الا تحت ضغط شعبي شديد. ربما يكون السبب في ذلك ثقافة أعضاء المجلس العسكري القائمة على الطاعة واحترام الأوامر. لقد كانت ارادة المجلس العسكري دائماً مختلفة عن ارادة الثورة.. بينما أسقطت الثورة حسني مبارك كمقدمة لإزالة النظام القديم بالكامل وبناء نظام ثوري جديد، فإن المجلس العسكري، في ما يبدو، قد وافق على اسقاط مبارك حتى يستطيع أن يحافظ على النظام القديم. هذه الفجوة بين ما تريده الثورة وما يستطيع المجلس تنفيذه هي السبب في كل المشكلات التي نعاني منها الآن. ولو أن المجلس العسكري نفّذ طلبات الثورة منذ البداية لكانت مصر قد بدأت طريقها في التحول الديموقراطي. يجب أن نؤكد هنا ان توجيه النقد لسياسات المجلس العسكري لا يقلل ابدا من تقديرنا للقوات المسلحة لكن المجلس العسكري يقوم بمهام رئيس الجمهورية وبالتالي من حقنا بل من واجبنا ان ننتقد سياساته.

ثالثاً : بعد أن تنحى مبارك تقدم متخصصون ومثقفون وطنيون للمجلس العسكري بدراسات مفصلة للتخلص من النظام القديم وتمهيد الارض لنظام ديموقراطي حقيقي لكن المجلس العسكري لم يستجب وتأخر كثيراً في اجراءات كانت ضرورية لحماية الثورة، مما أعطى فرصة ذهبية للمنتمين للنظام القديم حتى يتآمروا على الثورة. ولا شك ان المؤامرات على الثورة المصرية تدعمها بلاد عربية وأجنبية لا تريد، لأسباب مختلفة، أن تكمل مصر التغيير الديموقراطي لتبني دولة عملاقة ستقود بلا شك المنطقة العربية كلها. خلال ستة أشهر توالت المؤامرات على الثورة وكأنها تعاقب المصريين على قيامهم بالثورة من أجل الحرية والكرامة.. فقد نجح ضباط الشرطة الموالون لمبارك في نشر حالة من الترويع للمواطنين عن طريق تقاعسهم عن حماية الأرواح والممتلكات، أمام هجمات البلطجية الذين غالباً ما تربطهم علاقات مؤكدة مع فلول النظام القديم. في الوقت نفسه، فإن الاعلام الحكومي الذي ينتمي في معظمه الى النظام القديم دأب على تصوير الأمر وكأن الثورة هي المسؤولة عن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. وفي هذا مجافاة كاملة للحقيقة فالثورة المصرية لم تحكم حتى نحملها مسؤولية تدهور الأوضاع.. لكن الثورة سلمت السلطة الى المجلس العسكري الذي يعتبر المسؤول الأول عن كل ما حدث في مصر بعد تنحي مبارك.

رابعاً.. استمرت التظاهرات والاعتصامات من اجل تحقيق مطالب الثورة وكان المجلس العسكري بعد الضغط الشديد يستجيب لبعض المطالب. كانت الاستجابة الأخيرة المحاكمة العلنية لحسني مبارك. وبقدر ما كانت رؤية مبارك في قفص الاتهام لحظة نجاح عظيم للثورة المصرية الا ان ما حدث أثناء المحاكمة يثير القلق : فقد تم منع أهالي الشهداء من حضور المحاكمة وتم السماح للبلطجية من أنصار مبارك بالمرور مسلحين بالطوب الذي قذفوا به أهالي الشهداء وتدخلت أجهزة أمنية لتمنع أسماء بعينها من الاعلاميين والمحامين من حضور المحاكمة وفي نهاية الجلسة نقلت الكاميرات مشهد جمال وعلاء مبارك ووزير الداخلية السفاح حبيب العادلي وهم يخرجون من القاعة فبدوا وكأنهم خارجون من عرض سينمائي، كانوا يضحكون وأيديهم طليقة غير مقيدة كما يقضي القانون بل ان قائد الشرطة العسكرية وكبار ضباط الشرطة الموجودين أدوا تحية الاجلال للوزير القاتل وكأنه ما زال في منصبه. وفي الوقت نفسه فإن أفراد الشرطة العسكرية انقضوا على أهالي الشهداء والمتضامنين معهم في ميدان التحرير ليفضوا اعتصامهم بمنتهى القسوة، وقد سمعت بنفسي شهادات لفتيات مصريات تم الاعتداء عليهن بألفاظ خادشة للحياء وبالضرب المبرح من أفراد الشرطة العسكرية الذين لم يتحرجوا في نهار رمضان من دخول مسجد عمر مكرم بالأحذية، للقبض على المعتصمين السلميين الذين يعاملون الآن وكأنهم أعداء الوطن، بل ان بعض شباب الثورة ذهبوا في اليوم التالي للافطار في ميدان التحرير فتم الاعتداء عليهم مجدداً من الشرطة العسكرية وتلقوا النصيب الأوفر من الاهانات والاذلال والتنكيل تماماً وكأن مبارك ما زال يحكم مصر.. بعد ذلك تم اغلاق ميدان التحرير تماماً واحتلاله بواسطة عشرات الجنود وكأن المجلس العسكري يقول لنا:

ـ لقد شاهدتم مبارك في قفص الاتهام.. من الآن فصاعداً لن نسمح لكم بالتظاهر أو حتى الاعتراض.

الثورة المصرية الآن تمر بلحظة حرجة فعلاً وإذا لم ننقذها سوف تتحول الى انقلاب. الثورة تغيير شامل والانقلاب تغيير محدود في أعلى السلطة. اذا لم نتحرك بسرعة سوف يذهب مبارك ويأتي حاكم آخر بالنظام نفسه والعقلية نفسها والممارسات نفسها ولا بد من الاعتراف بأن المؤامرات المتوالية ضد الثورة قد أنهكت ملايين المصريين الذين كانوا يتوقعون أن تتحسن أحوالهم بعد ستة أشهر من نجاح الثورة. يكفي أن نقارن بين حالة التفاؤل التي سادت مصر بعد تنحي مبارك، وحالة القلق والخوف من المجهول التي تسيطر على الناس الآن. وقد ضاعف من الأزمة أن بعض أفراد جماعات الاسلام السياسي قد اعتبروا أن ارضاء المجلس العسكري هو الطريق المضمون لتولي السلطة، فصاروا أشبه بالمتحدثين الاعلاميين للمجلس العسكري. يمدحونه ليل نهار ويوافقون على كل ما يفعله ويسكتون على أخطائه مهما تكن جسيمة... وقد كانت حالة الضعف التي تمر بها الثورة المصرية فرصة لتوجيه المزيد من الضربات لها، فتوالت اتهامات فارغة بالعمالة على الشباب النبيل الرائع، الذين غيروا بشجاعتهم ودمائهم مصير مصر والمنطقة بأسرها، وتم تدبير حادثة العباسية من أجل الاعتداء على شباب الثورة، فأصيب المئات واستشهد الشاب محمد محسن. وتوالت ضربات القمع والاهانات على المتظاهرين وكأن نظام مبارك ينتقم منهم لأنهم السبب في اسقاط الطاغية وحبسه..

الآن ما العمل؟

أعتقد أن هناك ثلاث خطوات ضرورية من أجل انقاذ الثورة:

أولاً : يجب أن تتوحد كل القوى الثورية الآن وبلا ابطاء. يجب تشكيل هيئة تمثل الثورة حتى تقدم مطالبها الى المجلس العسكري وفي الوقت نفسه تسيطر على سلوك المتظاهرين حتى لا يحدث انفلات يتم استعماله لضرب الثورة.

ثانياً : يجب أن نتفق على الحد الأدنى من المطالب التي تكفل اجراء انتخابات نزيهة ثم نستمر في الاصرار على هذه المطالب والضغط على المجلس العسكري من أجل تنفيذها.. أؤكد هنا ان الضغط على المجلس العسكري لا يعني أبدا التطاول عليه أو المطالبة بإسقاطه فالمجلس العسكري بالرغم من أدائه الذي لا نوافق عليه هو الحائط الأخير للوطن الذي لن نسمح أبدا بأن يتصدع. هذه المطالب تتمثل في منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية والافراج عن كل المعتقلين في السجن الحربي، ثم تغيير النائب العام الحالي وتعيين نائب عام للثورة من رموز حركة استقلال القضاء. يجب تطهير القضاء من القضاة الذين أشرفوا على تزوير الانتخابات أو الذين ثبت تعاملهم مع أمن الدولة، ثم تطهير الشرطة من الضباط الفاسدين والمزورين، وإيقاف الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين عن العمل حتى تنتهي محاكماتهم، وأخيرا تعديل قانون الانتخابات وفقا لمطالب القوى السياسية.. هذه المطالب لا غنى عنها من أجل ضمان انتخابات تعبر عن ارادة المصريين، والتنازل عن هذه المطالب، يعني ببساطة وقولاً واحداً ان الانتخابات القادمة ستكون مزورة.

ثالثاً : اذا استطعنا انجاز هذه المطالب التي تضمن انتخابات نظيفة، فإن واجبنا هو المطالبة بالاسراع بالانتخابات في اقرب فرصة، حتى تنتقل السلطة الى حكومة مدنية منتخبة. لم يعد هناك وقت ولا فرصة ولا معنى للدخول في مناقشات مطولة حول الدستور أو مبادئه الحاكمة. كل هذه المناقشات سوف تؤجل انتقال السلطة الى الشعب، وتزيد من انقسام القوى الوطنية، وفي النهاية لن تفضي بنا الى شيء..

اذا أردنا ان ننقذ الثورة فيجب أن نتخذ هذه الخطوات فوراً.. ان ألف شهيد وألفاً وأربعمئة مصري فقدوا أبصارهم وخمسة آلاف مصاب بالاضافة الى ألف مفقود في الغالب تم قتلهم في الأيام الأولى للثورة. هؤلاء الأبطال قدموا تضحياتهم من أجل تغيير شامل لا اصلاح جزئي.. من أجل ثورة حقيقية مكتملة لا مجرد انقلاب يستبدل طاغية بآخر في النظام القديم نفسه. ان تحقيق مطالب الثورة هو الطريق الوحيد الى المستقبل.

الديموقراطية هي الحل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2178748

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2178748 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40