الاثنين 1 آب (أغسطس) 2011

الثورات بين الشيطنة والأيقنة

الاثنين 1 آب (أغسطس) 2011 par خيري منصور

لأن الثورة وفق أبسط تعريفاتها فعل اختراقي وعابر للحدود التقليدية، فهي لم تعامل بحياد، فخصومها أو من يتصورون أنها قامت لاقتلاعهم يرون فيها شيطاناً رجيماً. وأنصارها ومن يعقدون عليها الآمال يحولونها إلى أيقونة، وما من ثورة تولد معصومة، بدليل أنها سرعان ما تعترف بالأخطاء أثناء المحاولات، وقد تتعثر أو تفتح الباب الخطأ كما يقال، لكنها عبر مسارها إذا كان مقترناً بالنقد الذاتي ومراجعة الخطوات تنضج وترسخ منظومة قيمها ومفاهيمها. والثورة الفرنسية التي لم تهدأ نارها بعد عقود من اندلاعها عام 1789، قال مؤرخوها إنها أكلت أبناءها وثمة من ذهب إلى ما هو أبعد، وقال إنها قضمت أكتاف أحفادها.

وإذا كان كل شيء قابلاً للشيطنة والأيقنة أو التدنيس والتقديس، فإن المواقف الانقلابية التي توصف بالكوبرنيكية نسبة إلى عالم الفلك كوبرنيكس الذي أحدث ثورة في علم الفلك، تكون أكثر تعرضاً لهذين الحكمين من الخصوم والأنصار، ولا يعقل أن يبارك نظام سياسي ثورة تدعو إلى تطهير البلاد من آثاره، والعكس صحيح أيضاً فمن كظموا الغيظ طويلاً وأوشكوا على ابتلاع السنتهم لفرط الصمت لا يمكن لهم أن يروا نقطة سوداء في المشهد الأبيض الناصع، اللهم إلا إذا مرّ من الوقت ما يكفي للخروج من الدهشة إلى التأمل ومن التفكير الانفعالي إلى التفكير العقلاني.

وإذا كان لشيطنة الثورات من المتضررين منها حدود يصبح تجاوزها بمثابة ثورة مضادة، فإن للأيقنة أيضاً حدوداً، بحيث لا تصل أية ثورة وهي منجز بشري إلى درجة المعصومية والحصانة الكاملة ضد النقد شرط ألا يكون هذا النقد بدوافع ثأرية ومن خصوم يبتكرون البقع الداكنة وحتى السوداء في الرداء الأبيض حتى لو لم تكن موجودة في نسيجه.

وفي المسافة بين الشيطان والأيقونة تزدهر السجالات والتأويلات، وقد يتحول مجرد الاختلاف إلى تخوين وتجريم ولابد من مرور وقت تكون فيه الخسائر غير قابلة للاستدراك قبل أن تهدأ الدوامات، وتستقر الخيمة على أثافيها الثلاث. الدور المسكوت عنه عربياً الآن هو دور النخب الأكاديمية والثقافية، لأن المساحة كلها مكرسة للناشطين، والنخب ليست كلها ناشطة في مجال الحراك السياسي بمعناه اليومي وإيقاعه السريع، فمن مهدوا لثورات كبرى منها الفرنسية منهم من مات قبل اندلاعها، لكن أفكاره واصلت الإشعاع من القبر. والغرب المعاصر أصبح لديه في هذا العصر هاجس التجذير لكل منجزاته. فقد يعود أكثر من ألفي عام ليبحث عن جذر ظاهرة أو تيار عند أرسطو، تماماً كما حاول السورياليون البحث عن أسلاف لهم في مقابر أثينا القديمة ما قبل التاريخ.

والشيطنة في أحد أبعادها إلغاء لأية جذور، لأن من يتعرض للشيطنة لا أصول له، لهذا يقال عن النبات الذي يطفو على الماء وفي الهواء بأنه شيطاني لأنه بلا جذور وهو مجرد حالة طارئة.

أما أدوات وأساليب الشيطنة فهي عديدة وأصبح لها موروثها الكبير منذ ثورة اسبارتاكوس، لهذا أصبح لها قاموس يعج بالمصطلحات التي توظف للهجاء والإدانة والتجريم.

وبالمقابل فالأيقنة أيضاً ليست جديدة ولها هي الأخرى معاجمها وموروثها وأدبياتها. وإلى أن تتحرر أية فورة أو حركة تغيير من ثنائية الشيطنة والأيقنة ستبقى تراوح بين خطابين راديكاليين، قد لا تكون الحقيقة من نصيبهما.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2166076

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2166076 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010