الأربعاء 15 حزيران (يونيو) 2011

مصـر وفلسطيـن والموقـع

بقلم / مصطفى الحسيني
الأربعاء 15 حزيران (يونيو) 2011

إذا كان ثمة عامل واحد له التأثير الأكبر في صوغ السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية فهو العامل الجغرافي ـ السياسي (الجيوبوليتيكي) تمييزاً من العوامل الأيديولوجية (القومية العربية، التضامن العربي، الرابطة الإسلامية...). ويتألف هذا العامل الجيوبوليتيكي من عنصرين متمايزين ومتكاملين: الأمن القومي المصري، ورؤية مصر للمركز الإقليمي الذي يجدر بها، أو تستحق أن تشغله في المنطقة التي تقع فيها.

قد نرى العنصر الأول واضحاً فيما رواه الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، للصحافي البريطاني توم ليتل في الخمسينات. استعاد عبد الناصر خلاصة تجربة له عندما كان معلماً في كلية أركان الحرب المصرية، وكان يعمل مع دورة من الضباط المتدربين على تخطيط مشروع للدفاع عن مصر ضد هجوم مفترض من شرقيها، حين تبين لهم ان حدود مصر الدولية، من رفح شمالاً إلى طابا جنوباً، غير قابلة للدفاع عنها ـ فهي مجرد خط على الرمال لا يركن إلى معالم جغرافية أو طبوغرافية، وبالتالي يفتقر إلى الموانع الطبيعية ـ وأن منطقة الممرات الوعرة في وسط شبه جزيرة سيناء لا تصلح خطاً دفاعياً يركن إليه نظراً إلى ما يتخللها من فجوات طبوغرافية، وأن خط الدفاع الأول عن البلد هو قناة السويس. لكن اعتماده هذه النظرة يعني أن تكون شبه جزيرة سيناء بأكملها خارج المسؤولية الدفاعية للجيش المصري،أي خارج السيادة المصرية من المنظور العسكري. وكانت الخلاصة التي توصل إليها عبد الناصر مع ضباطه هي ان خط الدفاع المصري الأول من الشرق هو فلسطين، وأنه بالتالي يعتبر الأمن المصري «مكشوفاً» أو «معرضاً» إذا قامت هناك دولة معادية، أو وقعت فلسطين تحت سيطرة قوة معادية.

أما العنصر الثاني، مركز مصر الإقليمي، فيظهر واضحاً في الرفض المصري الواضح والقوي لما عرضته القوى الغربية من مشاريع «أمن الشرق الأوسط»، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أواسط الخمسينات، وهو رفض صدر عن حكومات مصرية متنوعة الاتجاهات، ما بين موالاة الغرب والتصادم معه. وكانت آخر حلقات هذا الرفض المعركة التي خاضتها السياسة المصرية ضد مشروع الحلف الذي أقيم في النهاية باسم حلف بغداد، والذي لم تشارك فيه أية دولة عربية سوى العراق. وكانت معارضة مصر لمشروع أيزنهاور (1957) استطراداً لمحاولة جديدة لإعادة صوغ ذلك الحلف.

كان في أساس الرفض المصري لتلك المقترحات والمشاريع أنها جميعاً، في حال تحققها، إما تُخرج القرار السياسي ـ العسكري في المنطقة من أيدي دولها، وإمّا تضع مصر في مركز أدنى في المركب الاقليمي، بينما تنعقد الصدارة الإقليمية لدولة أخرى، مثلا: تركيا في حالة حلف بغداد، بحكم عضويتها في الحلف الأطلسي.

على أن السعي المصري لمركز الصدارة الإقليمي لم يقتصر على الصراع مع القوى الخارجية فحسب، بل شمل أيضاً محاولات بعض الدول العربية إحراز تلك الصدارة. يذكر، في هذا الصدد، المقاومة المصرية لمشروع «الهلال الخصيب» الذي كان يرمي إلى تعزيز المركز الإقليمي للعراق، ولمشروع «سورية الكبرى» الذي كان يهدف إلى الأمر نفسه بالنسبة إلى سورية.

أما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فإن الدافع المصري إلى العمل على بلورة «كيان فلسطيني» من خلال القمتين العربيتين الأولى والثانية في خريف سنة 1964 وشتائها، هو انتزاع «الورقة الفلسطينية» من يد سورية المناوئة لسياسة مصر العربية منذ خروجها من الوحدة معها سنة 1961، إذ كانت سورية تتبنى «العمل الفدائي» الفلسطيني بينما كانت مصر تمنع انطلاقه من قطاع غزة الواقع تحت إدارتها، وخصوصاً بعد حرب 1956.

[**(1)*]

إذا نظرنا إلى السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية من هذا المنظور «الجيوبوليتيكي» رأيناها مفتوحة على التناول العملي ـ البراغماتيكي. ومن أهم ما يؤدي إليه هذا التناول أن مصر، في الحقيقة، لم تخض حروباً فلسطينية، أي حروباً في سبيل القضية الفلسطينية. لكن نتائج تلك الحروب أدت إلى ازدياد التشابك والتداخل مع القضية الفلسطينية. وهذا لا يحتاج إلى توضيح فيما يخص حروب 1956 و1967 و1973. أما حرب 1948، فقد خاضتها مصر بدوافع يغلب فيها العنصر الإقليمي على عنصر الأمن الوطني المصري، إذ ان مشروع تقسيم فلسطين، لو كتب له التطبيق، لم يكن ليقيم على حدود مصر دولة معادية أو كياناً يهدد أمنها الوطني. ولذلك لم تكن مشاركة مصر في تلك الحرب محلاً للإجماع السياسي، وتشهد على ذلك المداولات البرلمانية بشأن قرار دخول الحرب، وكان ما تغلب في النهاية ورجح كفة دخول الحرب هو قوة القصر الملكي الذي كان يخشى ان تؤدي نتيجة الحرب إلى تقوية الهاشميين في العراق وفي إمارة شرق الأردن.

[**(2)*]

ركزت نتائج حرب 1967 الضوء على تحقق أسوأ المخاوف المصرية، فمن حيث الأمن الوطني، لم تقف نتيجة الحرب عند إكمال التماس بين إسرائيل وحدود مصر الشرقية، باحتلال قطاع غزة، بل تخطته من تلك الجهة إلى احتلال شبه جزيرة سيناء، بحيث أصبحت القوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية لقناة السويس، خط الدفاع الأول ـ واقعياً ـ عن البلد، بل إن ذراعها العسكرية امتدت ـ لاحقاً ـ إلى العمق المصري، الجغرافي والبشري: من شرق الدلتا (بحر البقر) إلى تخوم القاهرة (أبو زعبل) إلى أعماق الصعيد (نجع حمادي) إلى ساحل البحر الأحمر (الزعفرانة).

أما المركز الإقليمي، فكأنما لا يكفي الانتصار «الإسرائيلي» لإشهار تدهوره، بل أخذت دول عربية، طالما اعتبرتها السياسة المصرية مناوئة أو منافسة، تنازع مصر ما كانت تتمتع به من صدارة في منظومة الدول العربية: المملكة العربية السعودية من جهة، والعراق من جهة أُخرى.

وعلى هذا النحو، ركزت نتائج تلك الحرب الضوء على التشابك المتزايد بين متطلبات وتطلعات السياسة المصرية وبين متطلبات حل القضية الفلسطينية.

وفي التهيؤ لمواجهة تلك النتائج اعتمدت مصر، فور انتهاء الحرب، سياسة متعددة الأوجه. فمن ناحية، قبلت على الفور بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، وركزت على مقدمته التي تنص على «عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة»، وعلى تفسير متنه بأنه يقضي بانسحاب إسرائيل من «الأراضي التي احتلتها...» لا من «أراضٍ احتلتها...»، وعلى كونه يدعو إلى تسوية شاملة وعادلة للنزاع العربي ـ «الإسرائيلي»، أي حل القضية الفلسطينية. واتساقاً مع ذلك القبول، استجابت السياسة المصرية، من حيث المبدأ، للمبادرات الدبلوماسية التي بنيت عليه، مثلا: محادثات يارنغ، اجتماعات الدول الأربع الكبرى، مبادرة روجرز. وفي موازاة هذه السياسة الدبلوماسية، بدأت مصر الإعداد للحرب انطلاقاً من المبدأ الذي أعلنته: «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلى بالقوة»، وبادرت إلى شن حرب استنزاف ضد القوات الاسرائيلية على جبهتها. وفي الوقت نفسه، أخذت بتقديم الدعم السياسي والعسكري لحركة المقاومة الفلسطينية. وقد تبين فيما بعد أن الرئيس المصري آنذاك، جمال عبد الناصر، قدم تغطيته السياسية للملك الأردني لأن «يفعل أي شيء في مقدوره لاسترداد الضفة الغربية».

وكانت هذه السياسة، بأوجهها المتعددة، هي التي أدت إلى حرب 1973 بعدما بدت المسالك الدبلوماسية كلها مغلقة.

[**(3)*]

نجحت السياسة الأميركية التي قادها هنري كيسنجر في إهدار النتائج المحدودة لحرب 1973. وكانت تلك النتائج معنوية أكثر منها مادية، إيجابية على الجانب العربي، وسلبية على الجانب «الإسرائيلي».

وأدت الاستجابة المصرية لمبادرات كيسنجر إلى وصول الوضع السياسي الداخلي في مصر إلى مفترق خطر، فلا مسألة الأراضي المصرية المحتلة محلولة، ولا عادت الحرب واردة. وعلى هذا النحو كان قرار الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، بالذهاب إلى القدس طلباً للسلام مع «إسرائيل»، محاولة يائسة للخروج من ذلك المأزق.

وإذا اعتبرنا خطاب السادات أمام الكنيست هو جدول الأعمال الذي رآه لمفاوضات السلام مع «إسرائيل»، وجدناه معبراً عن ذلك العامل الجيوبوليتيكي الذي يحدد السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية، لكن على نحو يختلف عن التفسيرات والتطبيقات السابقة. فالأمن الوطني يمكن ان يتحقق بالصلح مع «العدو» الذي تكرر تهديده لحدود مصر الشرقية، كما يتحقق بحل متدرج للقضية الفلسطينية، من الحكم الذاتي إلى الاستقلال تحت نوع من الوصاية الأردنية ـ المصرية ـ «الإسرائيلية». أما المركز الإقليمي لمصر فيمكن ان يجد له شرعية جديدة مناطها دور مصر في تحقيق سلام شامل ودائم في المنطقة.

أما في المفاوضات كما جرت، فقد عملت إسرائيل بنجاح على استبعاد العنصر الإقليمي، إذ انها لا ترى من مصلحتها تعزيز المركز الإقليمي للدولة التي تعتبرها أقدر أعدائها. وقبل السادات، في نهاية المطاف، بإسقاط هذا العنصر، والاكتفاء منه بتغطية شكلية وغير حقيقية تمثلت في اتفاقية كامب ديفيد الخاصة بالحكم الذاتي الفلسطيني والتي كانت تفترض تعاون أطراف لم يجر أي تفاوض معها: الأردن والفلسطينيين.

وهكذا أتى الصلح المصري ـ «الإسرائيلي» صلحاً متفرداً، لا من الناحية الشكلية والإجرائية فحسب، بل أيضاً بكونه يحقق السلام مع «إسرائيل» على الجبهة المصرية وحدها، لكنه عملياً يضعف كثيراً قدرة الأطراف العربية الأخرى على شن الحرب أو حتى على التلويح باختيار من هذا القبيل.

[**(4)*]

لكن السياسة المصرية لم تلبث ان أدركت ان من أخطر نتائج هذا الصلح المنفرد مع «إسرائيل» إضعاف مركز مصر الإقليمي لحساب الدولة اليهودية. لذا اتجهت السياسة المصرية، في محاولة للالتفاف على هذه النتيجة، إلى العمل على تعميم مبدأ السلام مع «إسرائيل»، باعتبار ان من شأن هذا التعميم أن ينهي عزلتها العربية، وأن يعيد تفعيل العوامل التقليدية التي كانت تعتمد عليها في احتلال مركز الصدارة في النظام العربي.

وقد نجحت مصر في سعيها للعودة إلى جامعة الدول العربية. وكانت هذه العودة تعني قبول الجامعة والدول الأعضاء للسلام المصري ـ «الإسرائيلي»، كما تعني ضمنياً تعميم القبول العربي للسلام مع «إسرائيل».

لكن هذا لم ينجم عنه ما كانت تتوقعه مصر من تحسن في مركزها الإقليمي، بقدر ما كان إشهاراً لصدارة إسرائيل او محوريتها في العلاقات الإقليمية وموازينها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان من نتائج اتفاقية كامب ديفيد تحقق ما سعت له مصر من إقامة «علاقة خاصة» بالولايات المتحدة الأميركية. لكن التدقيق في تلك العلاقة يكشف أنها، في حقيقة أمرها، علاقة ثلاثية غير متوازنة، أضلاعها الثلاثة هي: الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر.

وتقع نقطة اختلال التوازن في التفاوت الكبير بين طبيعة علاقة كل من مصر وإسرائيل بالولايات المتحدة، إذ تعتبر هذه الأخيرة إسرائيل «حليفاً استراتيجياً» وتدرج أمنها ضمن عناصر الأمن القومي الأميركي، بينما تعتبر مصر بلداً تابعاً يعتمد عليها في بعض أهم شؤونه الحيوية، من الغذاء إلى السلاح إلى علاقاته المالية الدولية. وكان في اساس هذه النظرة ان الولايات المتحدة تدرج المعونة الاقتصادية والعسكرية التي تقدمها لمصر على أنها «مكافأة على السلام» مع «إسرائيل»، وهو ما يجعل علاقة مصر بإسرائيل ميزاناً ومرجعاً لعلاقتها بالولايات المتحدة.

وعلى هذا النحو، أصبحت «العلاقة الخاصة» بين مصر والولايات المتحدة أداة ضمنية لإقرار مصر بأولوية إسرائيل عليها في الموازين الإقليمية.

- [**المصدر : ملحق «فلسطين» | صحيفة «السفير» اللبنانية | العدد 14 - الأربعاء 15 حزيران 2011 - السنة الثانية.*]

- [**راجع : مصطفى الحسيني، «حدود الدور الإقليمي»، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 40، خريف 99.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2181300

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2181300 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40