الاثنين 6 حزيران (يونيو) 2011

حيوية من دون مرجعية

الاثنين 6 حزيران (يونيو) 2011 par د. كلوفيس مقصود

لعل توصيف الانتفاضات المتلاحقة بـ «الربيع العربي» كان بمثابة التوقع والتمني أكثر مما كان كما يجب أن يكون موضوعياً وأكثر استيعاباً لما تنطوي عليه تعقيدات تفرزها طبائع الاستبداد في نظم تتصرف وكأن الاعتراض هو بمثابة تمهيد للتمرد أو المعارضة، أو هو التمرد بحد ذاته. كان ما حصل في تونس ثم مصر ملهماً استولد آمالاً واعدة باستعادة الكرامة الوطنية المفتقدة وحقوق الإنسان المقموعة وحاجات المواطن التي هي إلى حد كبير مفقودة، وفي أحسن الظروف مهمشة. إلا أن النجاحات التي حصلت في كل من تونس ومصر سرّعت في التماثل عند أقطار عديدة في الأمة العربية. هذا بدوره برهن على ظاهرة إيجابية بأن ما كان ولا يزال قائماً على وحدة متأصلة بين الشعوب العربية، فيما كان النظام «الرسمي» العربي مصراً على استمرار هذه الوحدة معطلة تعزز «واقعية» ما يفرق، وبالتالي يمعن في ترسيخ مفهوم يتسم بالتشويه إن لم يكن بالتزوير لمفهوم «السيادة»، كما يصمم على تأكيد التزام «الاستقلال» كحائل أمام التنسيق ناهيك عن أية خطوة باتجاه الوحدة حتى في السياسات المصيرية والمواقف المرغوبة على مستوى القضايا المصيرية خاصة ما يتعلق بقضية مصير الشعب الفلسطيني التي من البديهي أن تبلور قومية الالتزام القادر على انتزاع الاحترام لصدقية واستقامة وجدية العمل لتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره على الأقل في ما وفرته الشرعية الدولية من حق للمقاومة في سبيل إنجاز المطلوب والمرغوب.

جاءت الثورة في مصر تدفع سياساتها باتجاه استرجاع ريادتها ودورها الطبيعي بعدما فرضته معاهدة الصلح مع «إسرائيل» من تغييب قسري للدور التاريخي لها، فكان قرار إعادة فتح معبر رفح ورفع الحصار عن غزة إضافة إلى إصرار مصر على المصالحة بين الأطراف الفلسطينية، أجل كانت هذه الإنجازات طبيعية وغير مفاجئة لـ «إسرائيل» التي أدركت أن اعتداءاتها لن تبقى منفلتة من العقاب.

أشير إلى هذا الإنجاز الذي فتح أبواباً أمام آفاق جديدة للعمل القومي لم ترافقه وحدة في الالتزام الواضح بالبدائل المطلوبة التي توفر لثورة الشباب صيرورة الأهداف التي تؤمن للمجتمع المدني في مصر ما كانت ساحات التحرير والانتفاضات المليونية الرائعة تنطوي عليها من احتمالات التغيير المنفتح والمستنير.

هذا لم يحصل بالقدر المطلوب أو بالأحرى المرغوب ما أدى إلى حالة قلق لا بد من دراستها بسرعة ومن ثم معالجة أسبابها لأن استقامة مسيرة الثورة في مصر من شأنها أن توفر مرجعية مغيبة لحيوية متنامية. أجل إن الافتقار لبوصلة الوعي المتنامي يفسر بعثرة في طلائع من قاموا بإسقاط النظام وما قام به الشباب طوال حركته من تأكيد على إنجاز أولويات إصلاحية ومن تلاحم مضيء يؤكد عناصر ما يجمع بين شرائح المجتمع لا ما يعطلها.

كان الخطاب متلعثماً وكانت الحيوية التي أشرنا إليها تكاد تفرز تعدد الطروحات المتنافسة، والبعض منها متناقضاً ما أدى إلى أن تأتي نتيجة الاستفتاء على الدستور غير متناسبة مع المثل التي ميزت المطالب الإصلاحية الجذرية لثورة الشباب وتجاوب الجماهير مع ما كانت تنطوي عليه شعارات ساحات التحرير في القاهرة والإسكندرية ومدن ودساكر مصر.

القلق ناتج عن حيوية من دون إطار ينظمها ومرجعية موثوقة توجهها، تشير إلى هذا الوضع لأن العلاقة الجدلية بين ما هو حاصل من شطط في اليمن وسوريا هو أن مصر الثورة المستقيمة توفر البوصلة المؤهلة لإنارة مسيرات الحراك الشعبي الحاصل في الأقطار العربية. صحيح أن أمام مصر العديد من القضايا الداخلية الشائكة، وصحيح أن التحديات التي تواجه مصر كما المسؤوليات الملقاة عليها يتوقع منها العرب بحق أو من دون حق تسريع وضوح الرؤية حتى لا تبقى الانتفاضات العربية عرضة للتطويق ما يحول دون إنجاز أي هدف لها، وحيث ما نشاهده في الأقطار العربية من انتفاضات تنطوي على مخاطر كثيرة وكأن استرخاص حياة مواطنيها ينطوي على بذور الثورة المضادة التي أجيز لها تفريخ حروب أهلية، فهذا من شأنه المساس بشرعية الإنجاز لثورتي تونس ومصر، وبدوره آخذ بالتحليق إذا ما استطاعت المقاومة الفلسطينية استعادة نجاعتها وبوصلتها أيضاً.

يستتبع أن وصول المخاض الحاصل في مصر إلى نهايته المرجوة من شأنه أن يجعل مصر بوصلة للحراك العربي إجمالاً وإن تباينت تجلياتها في مختلف الأقطار المنتفضة، أو المرشحة للانتفاضة. فما هو حاصل حالياً مثلاً في اليمن مرشح لأن يتحول إلى حرب أهلية وهذا من شأنه أن يستحضر تدخلاً سافراً من الإدارة الأمريكية بذريعة وجود تنظيم «القاعدة» في اليمن، ما دفع الرئيس أوباما إلى إرسال كبير مستشاريه إلى السعودية كون ما حصل في مدينة زنجبار في جنوب اليمن دلالة على وجود «تنظيم القاعدة» ما يدفع الرئيس عبدالله صالح إلى عناد مطلق بأحقيته في البقاء في السلطة مع ما يحمله ذلك من إمكانية لإجهاض ثورة اليمن.

وفي هذا الصدد صارت عدوى العناد في التمسك والتفرد بالسلطة مؤشراً إلى انتشار عدوى الحروب الأهلية العبثية، ولعل نموذج عناد القذافي تحول إلى عدوى تكرس مرض الإنكار وبالتالي تتم معالجة النقمة المشروعة بممارسة جرائم الانتقام، فيتم الإخفاق الكبير والكارثة التي تسترخص حياة الإنسان في حين أن ثورتي تونس وخاصة مصر أنجزتا جزءاً من حرية الإنسان وتكريس حقوقه.

لكن هذا يستوجب إرجاع حقوق المواطنة، وهذا يعني أن ما يوصف بالعلمانية هو ليس كما يقال ويشاع من أنه «فصل الدين عن الدولة» إن ما تعنيه العلمانية في الحالة العربية هو فصل الدولة عن المرجعية السياسية للمؤسسات الدينية. هذا ما يميز العلمانية العربية عن علمانية الغرب بحيث في الأزمان الغابرة كانت الكنيسة هي المرجعية وجاءت حركات التحرير في الدول الأوروبية تدعو لفصل الدولة عن الكنيسة. فيستتبع أن المواطنة من شأنها أن تؤكد المساواة في الحقوق والتعددية والاعتزاز بالتنوع. ولعل تلقائية ما كان يحصل في ساحة التحرير حيث كانت حماية المسلمين أثناء الصلاة مناطة بشباب الأقباط أيام الجمعة في حين أن الشباب المسلم كان يحمي المصلين الأقباط. وكان هذا يمثل نموذج مفهوم المواطنة الذي بدوره يلغي التمييز، لذا فإن التعددية تنطوي على إرساء بذور الحروب الطائفية كما حصل في لبنان، لأن بطاقة الهوية تنطوي على بند «الطائفة» ما آل إلى حروب عبثية، كما حصل ويحصل في العراق. فالمواطنة تجذر وحدة الوطن وتعزز التنوع. لذا مقولة «دين الدولة» لا تنطبق على شرعية المواطنة، صحيح أن الدول العربية دول أعضاء في منظمة الدول الإسلامية بما فيها مصر والعراق ولبنان وسوريا وغيرها. فهذا تكريس للعلاقة العضوية وتأكيد البعد الإسلامي للدول العربية، لذا فالجدال بهذا الموضوع غير ضروري ومن شأنه أن يستولد الحذر بعضنا من بعض.

لذا كان ما يحصل في العراق بين الشيعة والسنة واستهداف المسيحيين، وكما حصل في مصر منذ أسابيع هو شطط يتنافى مع قيم الإسلام والحضارة التي تفترض من كل مواطن عربي أن يكون قيماً عليها، وهذا لا يكون إلا بتأكيد المواطنة كأساس لهوية عربية واحدة.

مرة أخرى، فلنجعل من مفهوم المواطنة العمود الفقري لحماية مناقبية القيم المشتركة، فالمواطنة هي النمط في حين أن الطائفية والعنصرية هي الشطط الذي يجعل التقوقع مدخلاً للفتنة وفي الوضع الراهن السند الرئيسي لظلاميات الثورة المضادة وبالتالي لمحاولة هدر ما أنجزته ثورتا تونس ومصر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2177694

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2177694 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40