الاثنين 30 أيار (مايو) 2011

في مجرى الثورات العربية : فلسطين... أنتِ المسألة

الاثنين 30 أيار (مايو) 2011 par زياد منى

لم نقرأ أيّ أدبيّات لقوى الانتفاضات العربيّة، أشخاصاً ومؤسّسات، تشرح ما تعنيه بالمفردات والمصطلحات التي تردّدها وتدعو المتظاهرين، المظلومين في معظم الأحيان والذين استحالوا مشاريع شهداء، إلى رفعها.

فترداد المفردات البرّاقة لا يمكنه إخفاء عجز قِوى، فردية وجمعية، عن إلباس مطالبها لباساً تطبيقيّاً واضحاً. فما هو المقصود مثلاً بمفردة «الحريّة»؟ وكيف تودّ تطبيقه على أرض الواقع؟ وما معنى العدالة الاجتماعية، أو المساواة أو التطوّر الاجتماعي المستقلّ؟ وما معنى حريّة التطوّر الشخصي الإبداعي الحرّ؟

ولنا الحقّ في طرح سؤال: كيف يمكن تصديق قوى شيوعيّة لينينيّة، بل حتّى ستالينيّة حتّى نخاع العظم، الادّعاء، من دون أن يرفّ لها جفن، بأنّها تريد الحرية للغير؟ ثم، كيف يمكن قوىً المناداة بالحرية في الوقت الذي يعتمد فيه برنامجها، بل وفكرها، على فرض رؤيتها الدينيّة التكفيريّة. وكيف يمكننا تصديق قوىً تدّعي أنّها تريد الحرية لشعوبها في الوقت الذي تتلقّى فيه دعم الغرب اللامحدود. فهل استحال حلف العدوان الأطلسي مؤسّسة خيريّة اجتماعيّة في خدمة المظلومين والمهمّشين؟ قيل: الشيء الوحيد الذي يقدَّم مجانًا هو قطعة الجبن في مصيدة الفأر.

هذه أسئلة وتساؤلات نطرحها على «قادة» وداعمي تلك الحركات والتحرّكات، احتجاجيّةً كانت أو ثوريّة أو انتفاضيّة. فالكلّ مُجبر، إن ادّعى لنفسه صفة الطليعيّة، على تقديم إجابات واضحة، ليس فيها تلعثُم ولا سكوت مرتبك أو صمت جاهل. أذكر كلمات سناتور أميركي وجّهها إلى ياسر عرفات عندما طالبه بالاعتراف بدولة العدوّ، فقال: على عرفات الاعتراف بدولة «إسرائيل» وبحقّها في الوجود بكلمات واضحة لا لبس فيها، وليس الاكتفاء بتَمْتمة يلفّ بها ويدور كالقطّ حول وعاء الحساء الساخن. عليه عند النطق بالاعتراف تحريك شفتيه ولسانه على نحو واضح حتّى تخرج الكلمات واضحة، وعندها نصدّقه.

الآن، لا شكّ في أنّه ثمّة قضيّة رئيسة ملحّة واحدة توحّد العرب، وأعني شعوب أمّتنا، هي قضيّة فلسطين. هي القضيّة الوحيدة التي أجمعَ العرب بشعورهم الوطني والقومي الفطري، ومن دون استثناء، على كونها مقياس الانتماء الوطني والقومي الصحّي والصحيح. هذه القضيّة تجمع كلّ أطياف أمّتنا وعناصرها الدينيّة والقوميّة والمذهبيّة– لكن هذا لا يعني أنّ الأمر يسري على «قادتها» اللاهثين وراء الكراسي يتعاركون على ما ترميه «الولايات المتّحدة الصهيونيّة» من فتات عفن في وجوههم.

نعم، لا شكّ في خبوّ الحماسة الشعبيّة العربيّة للانخراط في النضال ضدّ العدوّ الصهيونيّ بعد سلسلة التراجعات والاستسلامات المُخزية لقيادة منظّمة التحرير قبل مهزلة أوسلو بوقت طويل، ومن بعدها سلطة المقاطعة في رام اللّه، لصالح العدو الصهيونيّ. لكنّ ذلك تغيّر كثيرًا إثر العدوان الصهيوني على غزّة والوحشيّة المفرطة التي مارسها مع حلفائه من عربان كامب ديفيد- رغم أنّ أداء «حماس» كان غاية في الرداءة ومفتقراً إلى الحرفيّة الثوريّة- وقَبْل ذلك العدوان على جنوب لبنان حيث تصدّت له قوّات حزب الله بشجاعة وثبات يصعب العثور على مثيل لهما في التاريخ العربي المعاصر.

ومع أنّ صورة الفلسطيني، مناضلاً صلبًا، التي كانت سائدة في وجدان أبناء أمّتنا العربيّة في سبعينيّات القرن الماضي، قد خبت كثيرًا بعد الأداء الاستسلامي الهزلي منذ هزيمة عام 1982، فإنّ النضال الفلسطينيّ اكتسب بعض بريقه الماضي بفضل «الانتفاضتين» الأولى والثانية في مناطق الضفّة الغربيّة المحتلّة وفي مناطق الاحتلال الأوّل المسمّى «أراضي الـ48».

كما أنّ «مسيرات العودة» عند مارون الراس وفي هضبة الجولان المحتلّة وفي قلندية وغزّة، رغم كلّ ما تخلّلها من سلبيّات بائسة، أثبتت من جديد مدى تمسُّك الشعب الفلسطيني بوطنه، واستعداده الدائم لتقديم ثمن الحرية المطلوب. إن الأبطال الذين توجّهوا نحو حدود الوطن المحتلّ عُزّل من دون أيّ سلاح، إلا إيمانهم منقطع النظير بحقّهم وبحتمية انتصارهم، كانوا يعرفون أنّ بعضهم سيسقط في مواجهة عدوّ عنصري أثبت عبر عشرات السنين إتقانه صناعة تزوير التاريخ وقتل الضعفاء، وجبنه أمام الصامدين. وردّد هؤلاء المطلب الخالد والأبديّ حقّاً: الشعب يريد تحرير فلسطين والعودة إلى وطنه.

ومع أنّ كثيراً من القنوات التلفزيونيّة العربيّة الفضائية، وكثير منها قنوات التكفيريّين التي أقيمت للتضليل وليس للإعلام، تجاهلت الأمر ولم تولِه ما يستحقّ، فإنّ تحرّر الإعلام العالمي من أيديهم التي أحرقت الأخضر واليابس، والتي ابتاعت ما تيسّر من صحف و«أقلام للإيجار»، ساهم في النقل عبر الإنترنت إلى الإنسان العربي المحاط بهموم مادية وروحية لا نهاية لها ولكن الذي وصل تفاؤله إلى السماوات، صورة الفلسطيني المناضل، المتمسّك بوطنه حتى الموت، وأعاد له اعتباره الذي داست عليه «قيادات» متخاذلة مهزومة متواطئة. وهكذا انقلب السحر على الساحر، وفقأت العين المخرز وانتصر الدم على السياف.

قديمًا، كنا نناقش الرفاق «اليساريّين والشيوعيّين»، الجهلة بأبجديّة الفكر الماركسي، الذين كانوا يردّدون كالببغاوات، مقولة: حلّ «الصراع في الشرق الأوسط [كذا] يفتح المجال أمام التفرّغ للصراع الطبقي! هذا الهبل توّجته قوى عديدة من منظّمة العمل والجبهة الديموقراطية [جدًّا] التي كانت ترفع شعار «أيادي الكادحين «الإسرائيليّين» والعرب ستبني السلام والمحبة في الشرق الأوسط...»، وما إلى ذلك من اللغو والهذيان والتضليل الوضيع.

في الواقع، إنّ كثيراً من الشيوعيّين العرب، والاستثناء يؤكّد القاعدة، أخفقوا في رؤية الأبعاد القوميّة للصراع العربي الصهيوني، وأنّ الصراع ضد الاستعمار أو الإمبرياليّة، وطنيّ طبقيّ وقوميّ بامتياز، وهو ليس صراعًا سياسيًا فقط، بل هوا أيضًا اقتصادي واجتماعي وفكري... وهو ما يشكّل جوهر النضال الوطني الذي يهدف إلى التحرّر بكافة أشكاله وتجلّياته المادية والروحية.

فمن المعروف أنّ اغتصاب فلسطين لم يكن مشروعًا يهوديًا، بل إن القيادات الروحية اليهودية وقفت ضده، وإن من منطلقات لاهوتية توراتية وتأويلية. اغتصاب فلسطين وطرد أهلها منها وتجميع ما أمكن من يهود العالم فيها مكانهم، مشروع إمبريالي صرف، وُلد في الدوائر الاستعمارية البريطانية البروتستانتية التي هي حركة أصولية رفعت شعارات كثيرة للدلالة على ذلك، ومنها «العودة إلى الأصول (العهد القديم بدلاً من العهد الجديد... أي: إلى السلف»...

الصهيونيّة فكرًا وممارسةً وُلدت في عظات الكنائس البروتستانتيّة البريطانيّة في أواخر القرن السابع عشر التي كانت تبشر بنهاية العالم وقرب قدوم المخلّص (الثاني)، والذي يستدعي بالضرورة أن يتمّ ذلك في أرضه (فلسطين) وبين «شعبه»، أي: «اليهود». ومن الجدير بالذكر أنّ كثيراً من وعّاظ الكنيسة البروتستانتيّة في ذلك الحين حدّدوا موعد يوم القيامة، بالسنة والشهر واليوم، «تمامًا كما حدّد مهووسي في الولايات المتحدة يوم 21 أيّار الماضي موعدًا لنهاية العالم، ثم أجّلوه أخيرًا إلى شهر تشرين الأول المقبل بعدما تبيّن لهم عدم صحّة تصديقهم كذبتهم!».

هذه الهلوسات المذهبية البروتستانتية الإنكليزية اندلعت بعد الثورة الفرنسية التي قضت على الملكية وعلى الحكم المطلق وأطلقت الشعار المثلّث: الحرية والمساواة والإخاء، وإن لم تفلح، حتى يومنا هذا في تحقيق أي منها. لقد كان انطلاق ذلك الفكر القيامي الألفي ردّ الفئات الحاكمة الإنكليزية الأكثر رجعية في المؤسسات الحاكمة هناك ومحاولة لاحتواء آثار الثورة الفرنسية والزلازل التي أحدثتها وقتَها في أوروبا. لقد شكّل الفكر القياميّ الألفيّ جوهر الهجوم المضادّ وأساسه، والذي رتّبته قوى الرجعية الأوروبية وقتها بقيادة الكنيسة الإنغليكانيّة في إنكلترا لاحتواء الثورة الفرنسية وآثارها، والتي شكلت التهديد الأكبر للغريم الأقوى، أي بريطانيا.

ومن الجدير بالذكر أن تلك الحركة الرجعيّة، والتي أطلق عليها مؤرّخو الغرب «الإحياء الإنجيلي» كانت قد اندلعت من قبل، وتحديدًا عند بدء استعمار أوروبا لأفريقيا، ومن ثمّ عند احتلال الأميركيّتين، إذ نُظر إلى ذلك على أنّه «عودة» إلى الأرض المقدّسة، وهو ما يشرح وجود عدد كبير للغاية من أسماء مدن المشرق العربي وتضاريسه في الولايات المتحدة.

بل ربّما ثمّة من لا يعرف أنّ اسم دولة الدنمارك مأخوذ من «العهد القديم»، ومن اسم سبط دان تحديدًا. فمعنى اسم المملكة الأوروبيّة مركّب من المفردتين «دان» و«مارك»، والأخيرة تعني «أرض» أو ما إلى ذلك. ورغم أن علماء التاريخ المتخصّصين يشيرون إلى اشتقاقات لغويّة أخرى، فإنّ أهل البلاد وكثيراً من كتبة التاريخ الأوروبيين يفضّلون المعنى التوراتي.

ما نودّ قوله هو إنّ قضيّة فلسطين واستعادتها على أساس تصويب الخطيئة التاريخية، وفي المقدمة عودة أهلها إليها، يجب أن يشكّل أساس وجوهر أيّ حركة سياسية ترفع شعارات الحريّة. وقد يسأل سائل: ما الذي يجعل من المسألة الفلسطينية لا قضيّةً قوميةً وحسب، بل قضية وطنية أيضاً، وقضيّة سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وفكرية... تخصّ كل بلد عربي وشعبه.

بكل تأكيد، هي ليست أنانيّة فلسطينيّة، ولا عصبيّة للوطن، ولا ليّاً لذراع التاريخ، ولا تجنّياً على الحقائق. وهي أيضاً ليست مجرّد إحقاق العدالة للمظلوم.

فالمشروع الصهيوني مشروع إمبريالي استعماري لا غير. وعدم اتفاق البعض مع قراءتنا لجذور الصهيونية في الفكر القيامي الألفي البروتستانتي وتجلّيه اليهودي، لا ينفي صفته وجوهره وتجلياته. وهذا يعني أن التصدي لهيمنة المستعمر الجديد/ القديم الغربي في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والروحية، يجب أن يتعامل بالضرورة مع تجليات ذلك الاستعمار كلّها.

أودّ هنا التأكيد أنّي لستُ معاديًا للغرب، وإنما لبعض سياساته وأنظمة حكمه الاجتماعية والاقتصادية. أي إنني أتفق في هذا مع قناعات معظم علماء الغرب الاجتماعيين والفلاسفة البورجوازيين (وإن أتبرّأ من هذه الصفة الطبقية المتعالية) الذين كثيرًا ما تستنجد المؤسسات الحاكمة هناك بهم وبتحليلاتهم كلّما حلّت بها كارثة اجتماعية (مثلاً اضطرابات في تجمّعات عامة: حفلات موسيقى وألعاب كرة قدم والحركات الانفصالية مثل ما يحدث في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإسبانيا وما حدث في يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والبوسنة وروسيا، واضطرابات مدينيّة، وما إلى ذلك من أحداث عظام وخطيرة).

بل إنني على قناعة بأنّه ثمة الكثير الذي يمكننا تعلّمه من الغرب، من تطوّره التقني والتقاني المذهلين، وانضباطه ومقدراته العلمية وانفتاحه في كثير من المجالات، وتعامله المتسامح مع قضايا اجتماعية ملحة وخصوصًا مع مشاكله الاجتماعية مهما أثارات من حساسيات أخلاقية أو تربوية، ولكنني ضد تجلّياته الاقتصادية التي تُسَلْعِن البشر والحجر، والتي تصبح بالتالي سياسية.

وبالعودة إلى موضوعنا، فبما أنّ الانتفاضات العربية التي بدأت تستحيل ثورات أحيانًا، هدفها التحرّر والانعتاق، ما أمكن، في كافة مجالات الحياة، فلا مناص من مواجهة أحد أكثر تجلّيات الهيمنة والعدوان فظاظة وبشاعة، وهو كيان العدوّ العنصري المغتصب وموقفه من الشعب الفلسطيني وحقّه في وطنه.

لنعُد قليلاً إلى عقود مضت ونتذكّر اللغو الساداتي بأن المواجهة مع «إسرائيل» أفقرت الشعب المصري، وبأنه امتلك المعادلة السحرية لقيام مصر قوية مستقلّة غنية قائمة على الصلح مع «إسرائيل» والتخلّي عن فلسطين - مقابل الاكتفاء بما يلقى إلينا من فتات. النتيجة نعرفها جميعًا : تبعيّة مذلّة لإملاءات الولايات المتحدة، وبالتالي للعدو، وإفقار لا مثيل له لشعب مصر العزيز حيث وصلت ديون البلاد هذا العام، الداخلية والخارجية، إلى أكثر من ألف مليار دولار (كما قال الشاعر أحمد فؤاد نجم : رجعت سينا وضاعت مصر، يا سادات كفاية نصر).

وبغضّ الطرف عن هذا الجانب، نسأل: لماذا على الشعب الفلسطيني التخلّي عن وطنه «إلى الأبد» حتّى يظنّ شعب شقيق بأنّ ذلك طريق استعادة بقيّة من وطنه، منقوص السيادة. لكنّ الشعب المصري، صاحب أكثر ثورات العالم أناقة، قال كلمته في الساداتيّة، بكافة تجلّياتها ومظاهرها السياسية والاجتماعية والفكرية والعسكرية والقومية.

[**تحيا مصر الجديدة*]

لنأخذ مثلاً آخر نراه يوميًا على شاشات التلفاز، وهو ليبيا. بصرف النظر عن حقيقة أنّه لا بدّ من النظر بعين الريبة، بل والسخرية، إلى حركة تدّعي أنّها تريد الحريّة لشعبها، ويرأسها وزير عدل [كذا!] في النظام الذي تريد إسقاطه ــ ويا لها من مهزلة: ألا يشبه هذا وزير خفر السواحل في بلد لا ساحل له؟ ــ لننظر جيدًا إلى زيّ «القائد» الجديد، مندوب حلف الأطلسي العدواني، وكيف استبدل زيّه الوطني الجميل، زيّ سيّد شهداء ليبيا عمر المختار الذي مثّل تعبيرًا عن الكبرياء في مواجهة الاستعمار الإيطالي المُمْعن في وحشيّته وهمجيّته، ببذلة الرجل الأبيض، السيّد الجديد/ القديم لليبيا، أو لما سيتبقّى منها، ليثبت تحضّره وعصرنته وأهليّته لخدمته.

لأنّ التحرر والانعتاق يعنيان التصدّي لكافة أشكال العبوديّة والأغلال الاقتصاديّة، وبالتالي الاجتماعية والفكرية والروحية، فلا بدّ لأيّ حركة سياسيّة ترفع هذه الشعارات السامية، رغم ضبابيّة أو التباس معانيها لدى كثير من رافعيها أو حتّى جهلهم بها، من التعامل مع كافة معانيها العميقة والسطحية، الواضحة والملتبسة. فلا مكان هنا للتقيّة لأنّ هذه تعني في العمل السياسي الكذب والخداع والجبن والمواربة، وبالتالي: الخيانة. والعمل السياسي، بمعنى اللهاث وراء السلطة فقط لأجل السلطة (ونميّزه هنا من العمل الوطني المليء بالتضحيات العظام)، يُعدّ أكثر المهن «انحطاطاً» إذ يبيع الشخص أباه وأمه وولده وشقيقه، ولنا في العالم الشرقي والغربي ما يكفي من الأمثلة.

ثمّ ما معنى الحرية؟ فهل ثمّة حريّة حقيقيّة عميقة، من دون التصدّي للقضايا الاقتصاديّة - بمعنى منع رأس المال، الوطني والأجنبي، من الهيمنة على مقدّراتنا - وبالتالي الوطنية وحتمًا القومية؟

وهل تعتبر تلك الحركات والتحرّكات في شوارع مُدننا وقرانا وحقولنا أنّ ثمّة قضايا قوميّة يجب التصدّي لها، وفلسطين ليست القضية الوحيدة، وإنما الأساس، فهناك أيضاً قضايا الجماعات القومية الأخرى مثل قضية القرد والبربر الأماغيز وغيرها، أم أنّ لا تصوّر لها لهذه القضايا؟

في حال عدم امتلاكها أي تصوّر بخصوص هذه المسائل الجوهرية والأساس، فكيف يمكن وقتها ائتمانها على وطن يزخر بكلّ هذه المشاكل والكوارث التي لا حصر لها؟

على أيّ حركة سياسيّة عاملة اجتماعيًا استحقاقات لا يمكنها الهروب أو التهرّب منها، ولا يمكن حجب عين الشمس بالغربال. فقد قرأنا العديد من التعليقات التي تريد تأخير حديثها في الموضوع حتى استكمال مهامّها [كذا]. ألا يذكّرنا هذا بطلب الشيوعيّين العرب وغير العرب بتصفية القضيّة الفلسطينيّة حتى يتفرّغوا للصراع الطبقي العالمي؟ وإذا بنا نرى الكثير من قادتهم قد استحالوا عملاء صغاراً للاستعمار الأطلسي الجديد/ القديم، بينما تحوّل «مفكّروهم» إلى قوّادين للفكر الرأسمالي المتوحّش، واختار بعضهم حتى الاستوزار بتوصية من وكالة الاستخبارات المركزيّة.

المجتمعات البشريّة ليست أسواقًا كما يصوّرها الغرب الذي استبدل الرأسمالية (الاسم الدالّ على كلّ ما هو متوحّش وهمجي ومعادٍ للإنسانيّة) بمصطلح «اقتصاد السوق» مضيفًا إليه اللاحقة التجميلية، خالية المعنى، «الاجتماعي». الرأسماليّة سلّعت كل شيء، وفي المقدّمة البشر، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكهولاً، وحتى الزواج ومخدع الزوجية. وهنا نعثر على مفارقة مثيرة للضحك، وهي اتّفاق بين الشيوعيّين (غير القابلين للتعلّم من التاريخ وحتّى من تجاربهم) ومنظّري الرأسمالية. كلاهم غيّر اسمه. الرأسمالية استحالت اقتصاد السوق، والأحزاب الشيوعية أضحت، بقدرة قادر، أحزاب الشعب!

نقول من دون مواربة، ونحن نرى الأحداث الكبرى التي تلاحقنا في شوارع بلادنا العربية، ونحن نعيش مآسٍ كبيرة في ليبيا والعراق والصومال وقبل ذلك في لبنان: لا يمكن أيّ حركة سياسية تدّعي، صدقاً أو كذبًا، أنّها تسعى وراء تحقيق حريّة شعوبها، تجاهُل قضية فلسطين والقضايا الوطنية والقومية الأخرى، الملحة منها والقابلة للتأجيل. لا يمكن أحداً التخفّي وراء الإصبع والادّعاء بأن هذه القضايا الكبرى، قضايا التحرر الوطني والقومي، يجب أن تؤجَّل. حتّى الآن، نرى أن كثيراً من تلك الحركات تحيط بصمت مريب القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في وطنه ــ الرقم غير القابل للقسمة.

للتذكير، في سبعينيات القرن الماضي، تبنّت القيادة الفلسطينيّة المهزومة برنامجًا انحرفت به عن طريق النضال الصعب والقاسي، وأطلقت عليه صفة «المرحليّة»، قبلت بموجبه حلّاً مع العدوّ الصهيوني أساسه التنازل عن فلسطين لصالح المشروع الصهيوني وتأسيس دولة (ولو على ظهر حمار، كما صرح القائد العام في أكثر من مرّة، ردًّا على جورج حبش الذي اتّهمه بأنّه يريد دولة ولو على مجاري أريحا)، وقدّمته على أنه برنامج تكتيكي على طريق فلسطين، لكنّها لم تكلّف نفسها عناء شرح كيفية ذلك.

لقد طرحت برنامجها الانهزامي على أساس أنه يخدم قضية تحرير فلسطين ونتاج لانتصارات مزعومة في حرب تشرين، بينما هو في الواقع برنامج هزيمة عام 1970/1971 المنكرة في الأردن وفقدان العمل الفدائي، كما كان يسمّى، قاعدته الرئيسة بين أبناء شعبنا هناك، واستجابة لتحالفها الذيلي مع السادات. نتائج ذلك البرنامج المرحلي نراها الآن، وحتى حلم تلك الدولة العتيدة (ولو على ظهر حمار) استحال كابوسًا، إذ لم يبقَ منه سوى الحمار.

وحتى لا نظنّ أو أن نتأكّد من أن تلك القوى لم تسكت عمدًا عن مختلف القضايا الوطنية والقومية، الملحّة والأقل إلحاحًا، عليها الإعلان بكلمات واضحة لا لبس فيها عن مواقفها من كافة القضايا الوطنية والقومية، لا بشعارات ملتبسة، كما هي عادة القوى الانتهازية، بل بكلمات يفهمها العدو قبل الصديق– هذا إن سعت إلى قبول الشارع العربي بها وتبرئتها من التبعية والوصولية والانتهازية والسذاجة القاتلة.

طبيعي أن كلامنا هذا ليس موجّهًا إلى جماهير الفقراء والمسحوقين والمهمّشين الذين يتظاهرون في شوارع المدن والقرى والبلدات وحاراتها لأجل كراماتهم المهدورة وحقّهم في العيش الكريم في أوطانهم– لكن لماذا لا يحملون علم فلسطين إلى جانب أعلام بلادهم وصور شهداء فلسطين إلى جانب صور شهدائهم؟ لماذا لا يردّدون القول: إن فلسطين، كما بلادهم وأوطانهم، أرقام غير قابلة للقسمة؟ لماذا على فلسطين وشعبها المظلوم دفع ثمن كل طامع في منصب؟ لماذا علينا ترداد :

قصب هياكلنا

وعروشنا قصب

في كل مئذنة

حاوٍ ومغتصب

يدعو لأندلس

إن حوصرت حلب.

كلامنا هذا موجّه لمدّعي الطليعيّة والريادة ومنتحلي هذه الصفات وغيرها، من الذين لم يتركوا في الماضي قضية في أقصى أقاصي بلاد الماو ماو إلا وتصدّوا لها تحليليًا، واتخذوا منها موقفًا.

على أيّ قوى عربية وليدة تدّعي حمل رايات التحرر والانعتاق، شرح برامجها الوطنية والقومية، والاجتماعية والاقتصادية وبالتالي الفكرية، للبشر المطالبين بدعمها، والهتاف معها: الشعب يريد... ما لا يريده!

[**ماذا يريد الشعب؟*]

المطلوب موقف واضح من كافّة التحدّيات التي تواجه شعوبنا منفردة وأمّتنا مجتمعة، في كل زاوية من زوايا أوطاننا المنكوبة بحكّام أكثرهم لا همّ لهم سوى الاحتفاظ بعروشهم القصبية والهلامية.

وفي حال استمرارهم في صمتهم المريب، فلن يكون بمقدورهم إثبات براءتهم من تهمة السلطات لهم، والذين هم أنفسهم كانوا مطبّلين لها، وراقصين على إيقاعات بياناتها ووعودها لهم بمنصب هنا، أو بفتات هناك.

علينا التصدّي للمهامّ الملحّة الآن، ومن دون أيّ تأخير، حتى لا يكون الضوء الذي يراه البعض في النفق صادراً أحيانًا من القاطرة المتّجهة نحونا على السكّة نفسها، وبأقصى سرعة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010