السبت 28 أيار (مايو) 2011

الربيع العربي من وجهة نظر «إسرائيلية»

السبت 28 أيار (مايو) 2011 par أمجد عرار

اجتاحت «الشرق الأوسط» في الأشهر الأخيرة تغيّرات عميقة (يسميها «الإسرائيليون» زعزعة)، بعضها لم يسبق له مثيل في الخصائص والقوة. لكن دُرة تاج التغيير هي الثورة في مصر، الدولة القائدة الرائدة بكل ما تعنيه من تأثير في العالم العربي، وأشد الصور عكساً للسلوك والقوة العربية. الصورة الإجمالية للشهور الأخيرة عبّرت عن مفاجأة، وأظهرت أن الشارع العربي الذي اعتبر لعقود عديدة خاضعاً ومحبطاً، عامل عظيم التأثير، يستطيع أن يُغير نظاماً استمر عقوداً خلال أيام، وأن الجيوش العربية التي نظر إليها كمهمّشة وخاضعة تماماً للسلطة، أظهرت استقلالاً غير متوقع، والحركات التي وصفت على نحو عام بأنها التهديد المركزي لأنظمة الحكم في المنطقة، تبيّن - في المرحلة الحالية على الأقل - أنها منضبطة، والاتحاد الأوروبي الذي أظهرت أكثرية أعضائه على نحو عام تحفظاً من استعمال القوة في «الشرق الأوسط» تصرّف ك «رأس حربة القوة» بقيادة فرنسا، والولايات المتحدة المترددة مؤخراً، تدير ظهرها لحلفاء قدماء. وإلى جانب كل ذلك، ظهر لاعبون جُدد عظيمو التأثير والحسم على رأسهم الشبكات الاجتماعية، ووسائل الإعلام العصرية والشباب الذين كانوا عاملاً مركزياً في التغيير.

الخبير الصهيوني ميخائيل ملشتاين نشر تقريراً في مجلة «البحوث الاستراتيجية» في الكيان، حلّل فيه خصائص التغيير في «الشرق الأوسط»، من وجهة نظره، رغم أنها ماتزال في وضع التشكّل.

[**الكيان يرى نفسه وأمريكا في بؤرة دوافع الغضب في الشارع*]

تبشّر التغييرات الإقليمية، برأيه، بقدر كبير بنهاية النظام الذي وجد في دول كثيرة في المنطقة، وقام على التأليف بين عناصر عدة: زعيم قديم عظيم القوة، وحزب حاكم يسيطر على كل مفاصل الحياة، وبيروقراطية متضخمة تخدم مصلحة النخبة الحاكمة، وجيش قوي يظهر الولاء المطلق للنظام.

إحدى الظواهر البارزة في التغييرات الأخيرة هي الخروج الواسع النطاق للجماهير إلى الشوارع في دول عربية عدة، ثائرين على مؤسسات حكم قديمة تملك الكثير من أدوات القوة المادية. يرى الباحث أن هذه الظاهرة كشفت عن نفسها في نظم حكم ادعت لعشرات السنين أنها تبشر باصلاحات في الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي، وأنها ظهرت في صبغة جمهورية في الظاهر، وقامت باعتبارها نقيضاً ثورياً للملكيات التقليدية التي حكمت قبلها. وأصبحت مع مرور السنين أنظمة «جمهوكية» أي جمهورية ظاهرية وملكية فعلية. يختفي ممثلو هذا النظام بالتدريج: فقد خُلع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، فيما يكابد الزعيم الليبي معمر القذافي للحفاظ على سلطته، وتتعرض مكانة زعماء آخرين في العالم العربي مثل الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس اليمني علي عبدالله صالح لتحدٍ غير مسبوق. الظاهرة المفاجئة الأخرى المتعلقة بادارات المنطقة وكشفت عنها الأحداث الأخيرة، هي سلوك الجيوش العربية التي وصفت في الماضي بأنها الدعامة المخلصة المركزية التي تعتمد عليها الأنظمة. هذا التصور نسفه سلوك الجيوش في مصر وتونس وفي ليبيا، بقدر كبير. إثر ذلك أصبح أكثر الجمهور في هذه الدول يتقبل الجيوش ويراها حامية للشعب وقوة تحمي المصالح الوطنية. وقد برزت المكانة المركزية للجيش في النظام الجديد ولاسيما في مصر حيث يُدير الجيش أمور الدولة منذ تنحي مبارك وإلى حين إجراء انتخابات.

يعتقد الباحث أنه في وضع عدم اليقين يزداد، قد يعيد الجيش في العالم العربي بالتدريج ولو على نحو جزئي بناء التأثير الذي كان له في الماضي في الساحة السياسية، حيث إن الجيش اليوم كما في الماضي مازال العنصر الأقوى والأكثر تنظيماً في أغلب الدول العربية. وفي هذا الوضع قد يصبح الجيش أيضاً كابحاً مركزياً للتيار الإسلامي، ولاسيما إذا قوي هذا التيار من خلال الانتخابات. وهذا على نحو يشبه الطراز الذي كان سائداً في تركيا إلى العقد الأخير حيث حافظ الجيش على الصبغة العلمانية للدولة.

يرصد الباحث اتجاهاً عميقاً كشفت عنه الأحداث الأخيرة وأثبت ضعف نظم الحكم العربية وهو خفوت الأحزاب الحاكمة. كان هذا مساراً منذ سنوات طويلة ويبدو أنه بلغ ذروته في الاضطرابات والزعزعة الحالية، حيث انهيار الحزب الوطني الديمقراطي في مصر وحزب التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس. سبق ذلك ضعف أحزاب حاكمة أخرى في «الشرق الأوسط»: جبهة التحرر الوطني في الجزائر، وحركة «فتح» الفلسطينية وحزب البعث في العراق الذي حُطم بعد الاحتلال الأمريكي في 2003. وثمة تساؤل حول قدرة حزب البعث في سوريا على مساعدة نظام الحكم على مواجهة تحديات مشابهة. ويستنتج أنه في حالة سوريا ستنشأ حالة أقوى إزاء التوتر الطائفي والديني العميق.

[**أديمقراطية لا غربية؟*]

يتساءل الباحث الصهيوني عن أهداف المتظاهرين والرؤيا الكامنة وراء شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ويرى أن التحولات الأخيرة تشهد بقيام مجتمع مدني نشيط مؤثر. كانت الثورة في تونس هي الأولى، لكن الثورة في مصر الأهم، وفي ليبيا الأعنف. ويلحظ أن المسارات لم تُستكمل، ففي مصر وتونس خُلع الحاكمان القديمان، لكن الدولتين ماتزالان تحت حكم الجيش الذي يعتبر امتداداً للنظام القديم، إلى أن تُجرى الانتخابات؛ وفي ليبيا مازال القذافي يحاول أن يصد الثورة بالقوة.

وبعدما كان الجمهور العربي يُنظر له على أنه غير ناضج لنظام سياسي عصري ديمقراطي. ها هو يرسّخ الآن «أسطورة الشارع» التي تغيّر الواقع القديم. ومع ذلك يجد الباحث صعوبة في تحديد طبيعة القوة الشعبية الصاعدة على وجه الدقة. وبحسب تحليله، فإن الباعث المركزي لحركة الشباب من أبناء الطبقتين الوسطى والدنيا مراكمتهم لسنوات كثيرة غضباً كبيراً بسبب التردي الاقتصادي، وفساد الحكم، وتقييد النشاط السياسي والعدوان على حقوق الانسان. هؤلاء الشباب عنصر سكاني مركزي، اكتسب كثيرون منهم ثقافة أكاديمية عصرية، ومع ذلك يصعب عليهم أن يجدوا عملاً يلائم ثقافتهم. وفي المجال الاجتماعي يظهر لهم ما يجري في الغرب ويشعرون باغتراب إزاء النظام السياسي والاجتماعي الذي يحيط بهم. لكن القوة الكبيرة لموجة الثورات تجسد مشكلة أساسية بارزة أيضاً. إن هذه الموجة تقوم على رغبة في التغيير ذات صبغة عامة جداً ومن غير برنامج عمل منظم متفق عليه بين العناصر المشاركة.

يلاحظ ملشتاين أن شوق الشعوب العربية إلى الديمقراطية ليس مصحوباً بالإعجاب بالغرب، بل بالعكس، إن جزءاً من العناصر التي تدفع قُدماً بالاحتجاج تُعادي الغرب بعامة والولايات المتحدة و«إسرائيل» بخاصة، أي إن الحديث لا يدور عن تطور «معسكر سلام» بحسب مفاهيم الغرب و«إسرائيل»، وأن بغض نظام مبارك مثلاً ينبع من الجمع بين الفساد والارتباط بأمريكا وتبوؤ موقع الحامي للتسوية والعلاقات مع «إسرائيل».

[**الإسلاميون والدور الحذر*]

وحول العنصر الإسلامي في التطورات الأخيرة، يرى أن له دوراً مركزياً لكنه مفاجئ بقدر كبير. لم يتحقق الكابوس القديم عند العالم الغربي ونظم الحكم العربية من انقلاب عنيف في الحكم بقيادة المنظمات الإسلامية. بدل هذا لوحظ أن هذه المنظمات ولاسيما حركة الإخوان المسلمين في مصر لا تحاول استغلال الزعزعات للسيطرة بالقوة، بل تفضل طرقاً أكثر ليونة وحذراً لتحقيق السيطرة على نظام الحكم. من المعقول أن نفترض أن هذه العناصر يحركها إدراك أن السيطرة العنيفة كانت ستؤدي بها إلى مواجهة مع نظام الحكم، وجهاً لوجه، وكان سيناريو كهذا سيُسهل على نظام الحكم أن يأخذ بخطوات قوية لقمع الاحتجاج الشعبي، بل ليحظى بتفهم من الجمهور المحلي والمجتمع الدولي. في مصر وتونس يندمج الإخوان في الاحتجاج الشعبي ويحظون باعتراف غير مسبوق، وهم يكثّفون استعداداتهم للانتخابات المرتقبة متمتعة بجهاز تنظيمي وناجع وبتأييد جماهيري واسع.

ويعتقد الباحث أن الشكل القديم لنظم الحكم الاستبدادية يحل محله نظام جديد يطمح إلى أن يُبنى على قواعد اللعبة الديمقراطية. مع هدوء العاصفة تقوم في بعض دول المنطقة قوتان مركزيتان: الجيوش التي تمثل بقدر كبير النظام القديم وفي ضمنه الحفاظ على العلاقة بالغرب والوقوف في وجه معسكر الرفض، ويفترض أن تكون بمثابة «حلقة وصل» بين فترتين، والتيار الإسلامي الجهة الجماهيرية والسياسية الكبرى والأكثر تنظيماً في أكثر الدول والتي تستعد للاندماج في النظام الجديد بل لتثبيت مكانة مهيمنة فيه. إن العناصر السياسية والجماهيرية غير المتدينة تحشد قوة بالتدريج لكن تأثيرها أقل كما يبدو من تأثير العناصر الإسلامية. وعلى ذلك توجد علامة سؤال كبيرة تتعلق بقدرتها على حصد نجاحات في امتحانات قريبة، ولاسيما انتخابات ديمقراطية على نحو يُمكّنها من تثبيت هيمنة في السلطة.

هذا الوضع قد يولد تكراراً لسوابق عدة وقعت في المنطقة ولاسيما في دول جربت ثورات حاسمة: السيطرة التدريجية للتيار الإسلامي على الإدارة مع إضعاف المؤسسة العسكرية كما في تركيا (وهذا سيناريو يتوقع أن يكون ذا صلة خاصة في مصر)؛ ومنع الجيش للتيار الإسلامي السيطرة ومواجهة عنيفة بين الاثنين كما حدث في الجزائر، أو انهيار مؤسسة الحكم وسيطرة التيار الإسلامي عليها بالقوة، كما في حالة «حماس» في غزة. وإذا كان من سيناريوهات لا يكون فيها للجهات الإسلامية مكانة مهيمنة، فهو نقل سليم للسلطة إلى جهات ليست لها أي علاقة بالحركات الإسلامية على إثر إجراء انتخابات ديمقراطية، لكن احتمال تحقق هذه السيناريوهات يبدو ضئيلاً الآن، بنظر الباحث.

[**قوة الإنترنت*]

هناك ظاهرة اجتماعية مركزية أخرى عبّرت عنها الأحداث الأخيرة، وهي التأثير العظيم للشبكة العنكبوتية والفضائيات العربية التي تلعب دوراً مهماً في التنظيم وإثارة حماسة الشارع. وتبذل الشبكات الاجتماعية الوهمية الإطار التنظيمي لحركات الاحتجاج، في حين أن الفضائيات تتولى صوغ الشحنة الفكرية للاحتجاجات. ومكّنت الظاهرة الجديدة الجمهور العريض من الاجتماع ونقل المعلومات والتخطيط، في ظل ضعف وقلة حيلة وسائل الإعلام الرسمية. لقد ظهر أن نظم الحكم القديمة لم تعرف معرفة عميقة نوعية الشبكات وجوهر الإعلام الحديث. وصعب عليها أن تلاحظ قوتها وإيقاع نشاطها السريع الذي عبرت عنه احتجاجات واسعة النطاق خلال أيام معدودة. ووقفت الأنظمة عاجزة إزاء اجتماع الجماهير في مراكز المدن الكبيرة على نحو أصاب مراكز السلطة بالشلل. لكن يكمن في أساس قوة الظاهرة الجديدة ضعفها الأساسي أيضاً بقدر كبير، حيث إن الحراك الجماهيري الذي تنشئه وسائل الإعلام والشبكات الوهمية ليس مصحوباً على نحو عام بقيادة ذات مؤسسات وتخطيط منظم لإجراءات وبرنامج عمل. وكل ذلك أسس ضرورية لصوغ بديل حقيقي للنظام الموجود.

في الاحتجاجات الأخيرة، أثبت الجمهور العربي، في أكثر الحالات، قدرته على أن يعمل مثل مجتمع مدني تحركه قوة الشوق للحرية. وقد أثبت في عدد من الدول في السنوات الأخيرة قدرة على إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية. لكن الثبات الكامل لامتحان الديمقراطية لا يقاس فقط بثورات أو انتخابات بل في المراحل الطويلة. سيتم التعبير عن نضج الجمهور العربي للديمقراطية بالقدرة على تدبير ساحات مفتوحة لمختلف الآراء واستعداد كل نظام حكم يحكم فيها لإقامة قواعد اللعبة الديمقراطية. لكن ملشتاين يرى أنه إلى اليوم أظهرت تجربة اللعبة الديمقراطية في «الشرق الأوسط» شكوكاً عميقة في هذه الإمكانية، ففي كل دولة في المنطقة تقريباً جرت فيها انتخابات ديمقراطية سليمة في العقدين الأخيرين حظيت القوى الإسلامية بنجاح كبير. هذا ما كان في الجزائر وفي السلطة الفلسطينية وفي تركيا. ولا تُظهر هذه العناصر تبنياً طبيعياً للفكرة الديمقراطية بمعناها الغربي فضلاً عن الاستعداد لإقامة مجال سياسي واجتماعي تعددي. وإلى ذلك لا يبشر توليها السلطة بالضرورة بكف جماح مواقفها. إنها تلقى عوامل قسرية أكثر مما كان في الماضي حينما تصبح ذات سيادة، لكنها لا تشعر بضرورة تغيير جوهرها العقائدي التقليدي في السياقين الداخلي والخارجي. إن موجة احتجاج الشباب والدعوة إلى إسقاط الحكام المستبدين ليستا بالضرورة ما يعرفه الغرب من تجربته في الماضي أو يطمح إلى رؤيته في «الشرق الأوسط». وهما ليستا تعبيراً عن التمغرب أو العلمانية أو التعدد الفكري، وليستا تعبيراً عن صوغ «معسكر سلام» يسعى إلى مصالحة أعداء العالم العربي والإسلامي وعلى رأسهم «إسرائيل» والولايات المتحدة.

[**معسكر الممانعة لن يسلم*]

في النظرة الأولى، يبدو أن الزعزعة الحالية هي في الأساس لمصلحة ما يسمى معسكر الممانعة في «الشرق الأوسط»، وفي غير مصلحة المعسكر المعتدل. وتبعث على ذلك أسباب عدة بنظر ملشتاين: فالزعزعات تصيب في الأساس دول المعسكر المعتدل وعلى رأسها مصر التي كانت كابحاً مركزياً لمعسكر المقاومة، وتبدو الولايات المتحدة في هذه المرحلة دعامة هشة بالنسبة لحليفاتها وأنها «بلا أسنان» في مواجهة أعدائها في المنطقة، وهو أمر يضعف أكثر مكانتها في «الشرق الأوسط»، وفي الأحداث الأخيرة طاقة كامنة على تعزيز المعسكر الإسلامي ولاسيما في مصر، وانحصار العناية الدولية في التحولات في العالم العربي يصرف الانتباه العالمي ولو لأجل محدود عما يجري في ساحات مشتعلة أخرى في المنطقة وعلى رأس ذلك البرنامج النووي الإيراني. وفي رأي الباحث ليست التغيرات الأخيرة ثمرة مبادرة معسكر الممانعة، لكنها تساعد على تثبيت هيمنته على المنطقة، وتعميق ضعف المعسكر المعتدل.

ومع ذلك يبدو أنه يوجد لدى معسكر الممانعة أيضاً خوف كبير من تفشي موجة الاحتجاج الشعبي نحوه. يبرز في هذا السياق على نحو خاص تطور حركة الاحتجاج في سوريا المصحوبة بمجابهة عنيفة بين النظام والجمهور وتتغذى برواسب العداوة الطائفية العميقة، والتأجيج من جديد لحركة الاحتجاج في إيران بإلهام مما يجري في العالم العربي (وإن يكن النظام ما يزال يحكم بقوة)، وظهور أصوات ضد «حزب الله» في لبنان. إن القيادات في معسكر الممانعة، على خلاف مصر أو تونس، مستعدة كما يبدو لاستعمال قوة كبيرة من أجل قمع الفوران الاجتماعي داخلها لأنه يُرى بحسب رأيها تهديداً وجودياً حقيقياً لها.

تأتلف التطورات الأخيرة مع التحليل الاستراتيجي الواسع الذي تقوم به عناصر الممانعة منذ زمن، وينفخ فيها تفاؤلاً نسبياً فيما يتعلق بالمستقبل. وفي الخلفية تحولات أساسية عدة: التقارب التدريجي بين تركيا ومعسكر المقاومة مع ضعضعة تدريجية لعلاقاتها الاستراتيجية مع «إسرائيل» وعدم الاستقرار المزمن الذي مازال يميز العراق، وهو وضع تراه عناصر المقاومة فرصة لتثبيت التأثير في هذه الساحة، وضعف الولايات المتحدة الذي أخذ يزداد في المنطقة والذي ينبع في ضمن ما ينبع منه من عدم نجاحها المستمر في تثبيت استقرار في مراكز عملها ولاسيما أفغانستان والعراق.

[**أمريكا والتغيير العربي*]

خُصّصت تحليلات كثيرة في الساحة الدولية في الأشهر الأخيرة لوصف الخطأ وعدم الفهم الأساسيين الكامنين في رد الولايات المتحدة على الزعزعة في «الشرق الأوسط»، وقد صُرف انتباه خاص إلى التخلي عن مبارك وهو من أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، من أجل تأييد مثال دفع الديمقراطية إلى الأمام في كل منطقة في العالم من غير حساب ظروفها الخاصة وحتى لو كان ذلك من مصلحة عناصر تعادي الغرب في الأساس.

شبّه كثيرون سلوك أوباما بسلوك الرئيس جيمي كارتر نحو شاه إيران عشية الثورة الإسلامية. ففي نهاية السبعينيات حاول الشاه أن يصد مقدمات الثورة، لكن ضغط الولايات المتحدة اضطره إلى أن يُليّن يده القاسية، وسبّب ذلك ضرراً شديداً بصورته في الداخل وتقليلاً ملحوظاً لثقته بنفسه في مواجهة المعارضة. إلى جانب الماضي البعيد يُثار تساؤل يتعلق بعدم تعلم الولايات المتحدة من تجربة الماضي القريب مثل: الضغط على مصر لإجراء انتخابات نزيهة عام 2005 وهي التي عززت قوة الممثلين الموالين للإخوان المسلمين في مجلس الشعب المصري، وتأييد الولايات المتحدة لإجراء انتخابات حرة في السلطة الفلسطينية عام 2006 بمشاركة «حماس» وهي التي مكّنت من سيطرة الحركة على الإدارة الفلسطينية.

[**«إسرائيل» وما يجري*]

أصبح للتحولات في «الشرق الأوسط» بعامة وفي مصر بخاصة معان استراتيجية ثقيلة الوزن من وجهة نظر «إسرائيل»، وذلك على النحو التالي :

(أ) تقوم في مركز الاهتمام «الإسرائيلي» مسألة استقرار اتفاق السلام مع مصر، وهو أساس استراتيجي بالنسبة لها، حيث أسست عليه جزءاً كبيراً من تصورها الأمني في العقود الثلاثة الأخيرة. إن كل تغيير لنظام الحكم، ولاسيما إمكان زيادة قوة حركة الإخوان المسلمين، يجسد طاقة كامنة على تغيير تصور «إسرائيل» الأمني. في الأمد القصير وما ظل جيش مصر يسيطر على الإدارة في الدولة، يبدو أن اتفاق السلام سيظل مستقرا، لكن «إسرائيل» ترى أنها ملزمة بمتابعة آثار الوضع الداخلي في مصر على سياستها الخارجية وتصورها الأمني ولاسيما بعد الانتخابات المرتقبة نهاية السنة الحالية كما يبدو.

(ب) صرف الانتباه العالمي، ولاسيما انتباه الولايات المتحدة، إلى ما يجري في العالم العربي، أصبح يصرف الانتباه عن قضايا أخرى ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لـ «إسرائيل» وعلى «النووي الإيراني». وإلى ذلك فإن الزعزعة التي جرّبتها المنطقة قد تزيد في عمق صدود دول عدة عن أن تخطو خطوات مضادة لإيران على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العسكري خشية أن تزيد في عدم الاستقرار الإقليمي.

[**(ج) فيما يتعلق بمعسكر المقاومة*]

ترى «إسرائيل» أنه يستمد تشجيعاً كبيراً من ضعف نظم الحكم العربية المعتدلة والحيرة العميقة التي دُفعت اليها الولايات المتحدة. قد ترى عناصر المقاومة في هذا منفذاً إلى مجالات عمل أسهل في جميع الصعد وفي ضمنها العسكري، وفرصة لتعميق تأثيرها في دول المنطقة التي هي الآن في مرحلة صوغ من جديد. فقد أصبحت تحاول الآن الفحص عن مجال عملها بواسطة ارسال السفينتين الحربيتين الإيرانيتين إلى البحر المتوسط مثلاً (فبراير/شباط 2011) أو محاولات نقل إرساليات وسائل قتالية من إيران إلى قطاع غزة بمسارات بحرية وبرية (مارس/آذار 2011). في مقابل هذا، قد تضر ضعضعة سلطة بشار الأسد في سوريا بقوة ووحدة معسكر المقاومة عامة وبتأثير إيران في المنطقة خاصة . وفق سيناريو يقترب فيه نظام الأسد من نهايته قد يدفع بعض الأعضاء في معسكر المقاومة للتصعيد مع «إسرائيل» في محاولة لمنع انهيار النظام في دمشق.

[**(د) في الساحة الفلسطينية*]

قد تُعمق الزعزعة الأخيرة الشعور بالأزمة الاستراتيجية التي تعيشها السلطة الفلسطينية، ولاسيما إزاء فقدان حليف إقليمي عظيم القوة في صورة نظام مبارك، والشكوك العميقة التي تثور في استقرار الدعامة الأمريكية. كل هذه التوجّهات تصب في مصلحة «حماس» التي تشعر - مثل سائر العناصر في معسكر المقاومة - بأن التحولات في المنطقة تصب في مصلحتها ولاسيما ضعف النظام المصري الذي استعمل ضغطاً ثقيلاً على سلطة «حماس» في القطاع، وامكان أن يقوي الإخوان المسلمون، وهم الحركة الأم لـ «حماس»، مكانتهم في الإدارة المصرية. في هذا الوضع يبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يخشى مصيراً يشبه مصير مبارك، ولمنع هذا السيناريو دفع باتجاه المصالحة مع «حماس»، وينشط على الجبهة الدولية ضد «إسرائيل». ويتوقع ملشتاين أن تقدم السلطة على إعلان دولة مستقلة في حدود 1967 (وهذه فكرة تحظى بتأييد أخذ يزداد في الساحة الدولية)، وربما أيضاً زيادة الاحتكاك مع «إسرائيل» في الضفة الغربية.

[**(هـ) في الجانب السياسي - الإعلامي*]

يبدو الآن أن التغيرات الحالية غير قادرة على تقويض الفرض الأساسي السائد عند المجتمع الدولي بعامة، والولايات المتحدة بخاصة، والذي يقول إن الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني هو مصدر عدم الاستقرار الإقليمي. وعلى ذلك فإن التحولات الحالية لا تخفف في هذه الأثناء الضغط السياسي على «إسرائيل» لتقدم المسيرة السياسية مع الفلسطينيين، بل إنها لا تساعد في إضعاف مسار سلب «إسرائيل» شرعيتها والذي يزداد في الساحة الدولية.

[**(و) في الصعيد الأمني*]

ترى «إسرائيل» أن ضعف قوة فرض سلطات مصر للقانون في شبه جزيرة سيناء، يُسهل تهريب وسائل القتال والنشطاء العسكريين إلى قطاع غزة. وهذا الأمر يساعد في تعجيل بناء القوة العسكرية للجهات التي تسميها «إرهابية» في المنطقة بواسطة التسلح بسلاح ذي قدرة محسنة على الإصابة، ولاسيما قذائف صاروخية لمدى بعيد ووسائل قتالية متطورة مضادة للدبابات ومضادة للقطع البحرية والطائرات.

إن التطورات الأخيرة في العالم العربي، ولاسيما الثورة في مصر والزعزعة العميقة في سوريا، تشير في هذه الأثناء في الأساس إلى كثرة التحديات الأمنية وقلة فرص تقديم إجراءات سياسية بالنسبة لـ «إسرائيل». التحولات الإقليمية هي بقدر كبير مرحلة أخرى من مسار سوء وضع «إسرائيل» الاستراتيجي الإقليمي في العقد الأخير. وهو مسار مركب فيه ما يشبه التناقض الداخلي: فعلى مر السنين كانت قوة «إسرائيل» العسكرية والتقنية تزداد ومنعتها الاقتصادية تقوى لكن يلاحظ في نفس الوقت تغير سلبي متواصل أمام المنطقة يعبر عنه في الأساس كثرة التهديدات التي تواجهها وقوتها العسكرية والسياسية (ولاسيما قوة مكانة إيران في المنطقة وسعيها إلى امتلاك قدرة نووية، وكذلك رسوخ معسكر المقاومة)، وبازاء ذلك- تضاؤل الفرص السياسية وعلى رأسها الدفع قدماً بمسيرات سياسية في الصعيدين السوري والفلسطيني.

[**صباح ما بعد الثورة*]

مازال الوضع في «الشرق الأوسط» في مراحل التكوّن. لذلك يرى ملشتاين أنه من السابق لأوانه تلخيصه وصوغ تقديرات استراتيجية بعيدة المدى لواقع لم يره أحد قبل أشهر معدودة. إن صورة «الشرق الأوسط» التي تظهر من خلال غيمة الأزمات التي لم تحسم بعد هي مزيج من ظواهر جديدة وقديمة. يحتاج حل هذه الصورة إلى فهم التيارات العميقة فيها، لكنه يحتاج أيضاً إلى تحرر من تصورات وإدراكات صاحبت عشرات السنين من تحليل الأحداث في المنطقة.

إن ما اشتعل باعتباره نضالاً طليعياً مغلفاً بالنشوة من أجل الديمقراطية قد أصبح في أماكن عدة في المنطقة مجابهات ذات مميزات معروفة من الماضي. فتحت غطاء مكافحة الطغيان عادت وظهرت الصراعات ذات الخلفية العرقية والدينية والطائفية والعقائدية. وإن انفجارها يسبب إحياء ظواهر مغروسة عميقاً في واقع المنطقة: فهناك مستبدون لا ينفرون من قمع أبناء شعبهم بالقوة، وقبائل وطوائف يحارب بعضها بعضاً، والخطر الدائم للانزلاق إلى فوضى داخلية يتوقع أن تربح منها في الأساس العناصر المتطرفة في المنطقة. تضاف هذه التطورات إلى مشكلات أقدم تهدّد سلامة الدول في المنطقة. فالسودان يواجه انقساماً إلى دولتين، والعراق يعاني ضعفاً عميقاً للسلطة المركزية، وقوة كبيرة للأطراف (ولاسيما الإدارة الكردية ذات الحكم الذاتي في الشمال)، ولبنان منقسم سياسياً وطائفياً، والسلطة الفلسطينية انقسمت إلى كيانين.

يستنتج ملشتاين أن الدولة العربية ماتزال باقية برغم جميع التحديات الصعبة التي تواجهها، لكن صورتها في أكثر الحالات تتغير وتقل قوة الحكم المركزي. ويعتقد أنه كلما كانت الدولة العربية أكثر تجانساً في خصائصها كمصر وتونس كانت الثورة فيها أقل عنفاً والنضال من أجل الديمقراطية أكثر وضوحا، ومراحل الانتقال إلى الإدارة الجديدة منظمة نسبياً. وفي مقابل ذلك، في دول أقل تجانساً وأقل مأسسة، تكون الثورات مصحوبة بظواهر عنف وفوضى شديدة.

إن تطور السيناريوهات المختلفة في دول المنطقة، أو نشوء سيناريوهات جديدة يتعلقان بمتغيرات من نوع: قوة الجيوش، وقوة حركة الاحتجاج ومعارضة نظم الحكم، ولاسيما الجهات الإسلامية، وسياسة اللاعبات الدوليات ولاسيما الولايات المتحدة، وكذلك شكل تطور خطوط الانشقاق الداخلي في المراكز المختلفة في العالم العربي.

في الصيحات التي تصحب موجة الاحتجاج الإقليمي اليوم تكمن كما يبدو بذور الثورات القادمة. ففي الغضب الضخم الذي وجه على الواقع الطويل الذي لا أمل فيه يوجد قدر كبير من تجاهل عدد من اللاعبين المحليين وبعض المحللين الخارجيين ايضا، كون ذلك ينبع من مشكلات اجتماعية وسكانية واقتصادية عميقة يُشك في أن يكون لها حل أو حل بالسرعة التي تأملها الجماهير. يمكن كما في سوابق ثورية كثيرة أن تواجه الموجة الحالية خلال زمن قصير أزمة توقعات شديدة. قد يلعب هذا الوضع لمصلحة الجهة التالية التي ستضمن الخلاص لأبناء المنطقة، لكنه قد يساعد أيضاً على نشوء ظواهر استبداد وعنف. كما حدث مرات كثيرة في التاريخ من ثورات رفعت على علمها رؤيا متفائلة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2178626

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

52 من الزوار الآن

2178626 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 49


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40