الخميس 26 أيار (مايو) 2011

كرة النار اليمنية تتدحرج

الخميس 26 أيار (مايو) 2011

بإعلان تعليق المبادرة الخليجية لحل الأزمة في البلاد، بعد رفض الرئيس علي عبدالله صالح التوقيع عليها، يدخل اليمن فعلياً أجواء مرحلة الحرب الأهلية، بمختلف تداعياتها، فالأوضاع على الأرض تؤكد أن كرة النار صارت تتدحرج بشكل أسرع مما كان يتوقعه كثيرون، فالسلطة اختارت الطريق الأسهل للحل، وهو المواجهة، فيما تبدو المعارضة غير قادرة على إيجاد واقع سياسي جديد يفرض على الحاكم القبول بالتسوية السياسية، أما «كلمة السر»، فسوف تكون في ساحات التغيير في مناطق البلاد كافة.

بين ليلة وضحاها وجد اليمنيون أنفسهم بين ناري «الحرب» و«الحرب»، فالرئيس علي عبدالله صالح لا يروق له أن يعارضه أحد، حتى لو كانت شخصية من العيار الثقيل، مثل اللواء علي محسن الأحمر، الذي ظل رفيقاً له في محطات حكمه كافة، والممتدة 33 سنة، كما لم يستوعب حقيقة المطالب التغييرية التي يطالب بها ملايين الشباب في ساحات التغيير في مناطق البلاد كافة، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، والذين قُتل منهم ما لا يقل عن 200 شخص، إضافة إلى آلاف الجرحى، كما لم يرق لصالح انقلاب رجال القبائل عليه، وكذلك علماء الدين، وهو لا يريد أن يكون مطالباً بالرحيل بموجب رياح التغيير التي سادت تونس ومصر وعدداً آخر من البلاد العربية.

صالح قرر عدم التوقيع الأحد الماضي على المبادرة الخليجية التي تمت بلورتها بناء على طلبه هو نفسه، بعد أن كان قد وعد في مارس/ آذار بالاستقالة والخروج من البلاد بغير تعهدات أو ضمانات، كما هو حاصل في بنود المبادرة الخليجية الحالية، قبل أن يتراجع للبحث عن «أيد أمينة» ليسلم لها السلطة، ويبدو أنه لم يجد هذه الأيدي الأمينة حتى الآن، على الرغم من أن الكثير اقترح عليه تسليم السلطة أو نقل صلاحياته لنائبه الحالي عبدربه منصور هادي، وهو من «الأيدي الأمينة» بالنسبة له وللنظام، فهو أحد أركان نظام حكمه منذ انتهاء الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد عام 1994، أو رئيس وزرائه الدكتور علي محمد مجور أو نائب رئيس وزرائه وصديقه المخلص الدكتور رشاد العليمي، بمعنى أن هناك «أيادي أمينة» كثيرة يمكن تسليمها السلطة وتجنيب البلاد مخاطر حقيقية تحيق بالبلاد والعباد على السواء.

[**كرة النار المتدحرجة*]

لا شك في أن نار الحرب الأهلية قد اكتمل الإعداد لها، بسلسلة من القرارات التي تم اتخاذها مؤخراً وعبر الخطابات الساخنة التي يلقيها الرئيس علي عبدالله صالح خلال المهرجانات التي يتم تنظيمها كل جمعة منذ شهرين، حيث يؤكد صالح أن قادة المعارضة ليسوا سوى عبارة عن «قطاع طرق وخونة وعملاء»، فيما تصعد المعارضة من لهجة تحديها للرئيس صالح وتؤكد أنها قادرة على التعامل مع التهديدات التي يطلقها صالح بين وقت وآخر حول الحرب الأهلية، كانت آخرها تلك التي أعلن عنها في الكلمة التي ألقاها الأحد الماضي في كلمة تبريرية له عن سبب عدم توقيعه على المبادرة الخليجية التي تم تعليقها من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، عندما قال إن الحرب الأهلية، إذا ما اندلعت، ستكون المعارضة مسؤولة عنها بسبب رفضها الحضور إلى القصر الجمهوري للتوقيع على المبادرة الخليجية، مع أن هناك تفاهمات تؤكد أن صالح والسلطة من جهة والمعارضة بشكل عام وافقتا على طريقة التوقيع، أي أن يوقع كل طرف على الاتفاقية منفرداً.

لا شك في أن الوضع في اليمن ليس كما هو حال بلدان كثيرة، لذلك يحرص الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى دول أجنبية أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، على إنجاح الحل السلمي للخروج من الأزمة الحالية، فالجميع يريدون أن يخرج البلد من أزمته الراهنة إلى طريق آمن بعيداً عن العنف.

ويقول مسؤول يمني كبير مطلع عل طبيعية التحركات العربية والأجنبية لحل الأزمة إن هذه الجهود تبدو وكأن العرب والأجانب صاروا أكثر حرصاً وخوفاً على اليمن من اليمنيين أنفسهم، فهم لا يكلّون ولا يملّون من المحاولات الرامية إلى تجنيب اليمن مخاطر «كرة النار التي تتدحرج من علٍ»، فهم يرونها حقيقة واقعة لا محال من وقوعها في حال فشلت المبادرة الخليجية المعروضة للحل الذي يرضي الجميع، خاصة الرئيس صالح الذي طلب من الخليجيين بنفسه التدخل للحل.

مواقف الداخل تتداخل هي الأخرى بشكل متفاوت، فالرئيس صالح وأنصاره يحشدون كل جمعة أنصارهم ويخطب فيهم الرئيس مؤكداً لهم تمسكه بـ «شرعيته الدستورية»، ويهاجم مخالفيه في الرأي، وبالدرجة الأولى أحزاب اللقاء المشترك ويصفهم بأنهم عبارة عن «خونة» و«قطاع طرق» و«انقلابيين»، ومع ذلك يقول إن قلبه مفتوح للجميع ويريد أن يتحاور معهم، وفي كل جمعة يروج الإعلام الرسمي لهذه الخطابات ويشحن المجتمع بأفكار تؤكد أن الشرعية الدستورية في خطر وأن «قطاع الطرق»، ويقصد به المعارضة، يريدون الإجهاز على النظام الجمهوري بهدف الاستيلاء على السلطة بأية طريقة وبأي ثمن والعودة إلى الانفصال والملكية، بل إن الرئيس صالح قال إن القادم سيكون أسوأ من الحاضر، ووصف المبادرة الخليجية بأنها «عملية انقلابية».

أما المعارضة فإنها، ورغم أنها وافقت على المبادرة الخليجية التي طرحت على الجميع قبل أكثر من شهر ونصف الشهر، إلا أنها لا تزال تراهن على الضغوط الخليجية والأجنبية على النظام وعلى الرئيس صالح تحديداً، خاصة الأمريكية والأوروبية لمعالجة الأزمة في البلاد، وهي بذلك تفقد شارعها بالتدريج، وهو الشارع الذي يدرك جيداً أن حسابات المعارضة في هذه القضية خاطئة، فالرئيس صالح يحاول حصر القضية باعتبارها أزمة سياسية بين سلطة ومعارضة تريد الانقلاب على الشرعية الدستورية ولا تريد مواجهة المؤتمر الشعبي العام الحاكم عن طريق صناديق الاقتراع، لذلك فإن المعارضة تبدو منقسمة حيال القضية برمتها، هل تواصل السير في طريق الحل السياسي، أم تنضم إلى الشارع الموجود في ساحات التغيير وتكون جزءاً منه؟

أما «كلمة السر» في الأحداث كلها فتتمثل في الشباب الثائر في ساحات التغيير، الذين لا ينفك عددهم يتزايد يوماً بعد يوم، وفي مختلف محافظات البلاد، ويشكلون ضغوطاً متزايدة على النظام الذي يحاول أن يجردهم من هذا السلاح الذي يملكونه، ويراهن على الوقت لإنهاء الأزمة في البلاد، التي يرى أنها «مفتعلة» من قبل أحزاب اللقاء المشترك المعارض، كما أنه يراهن على تصدع الجبهة الداخلية في إطار الشباب أنفسهم، خاصة أن هناك خليطاً من الأحزاب السياسية في هذه الساحات، إضافة إلى شباب مستقلين يريدون أن يصنعوا تأريخاً جديداً لليمن بعيداً عن السلطة والمعارضة.

ويطال الانقسام الحاد المجتمع نفسه، والذي يساعد كثيراً على مخاوف تدحرج كرة نار الحرب الأهلية، فالانقسام في صفوف القبائل خطير للغاية، فالحرب الأهلية إذا ما اندلعت ستكون القبائل وقودها، خاصة أن قبائل اليمن لم تعش يوماً مرحلة من مراحل حكم اليمن في حالة استقرار، فهي في حروب مستمرة منذ الثورة اليمنية قبل نحو 50 عاماً وحتى اليوم، وهي وإن دخلت أجواء الحرب الأهلية ستتغير معادلات كثيرة في البلاد، خاصة أنه تقع تحت يدها ملايين من قطع السلاح، وما زاد المخاوف أكثر ما صرح به شيخ مشايخ حاشد الشيخ صادق الأحمر عندما رد على الرئيس صالح باحتمال اندلاع حرب أهلية بالقول إن القبائل «نحن لها».

أما الأخطر في الأزمة القائمة فهو انقسام المؤسسة العسكرية، فالجيش اليمني لم يعد كما كان قبل أشهر موحداً تحت قيادة واحدة، فخروج اللواء علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى مدرع وقائد المنطقة الشرقية والغربية، والذي كان الذراع الأيمن للرئيس صالح طوال سنوات حكمه، وجه ضربة قاصمة للنظام بانضمامه إلى ثورة الشباب.

فوق هذا وذاك تبدو المواجهات المسلحة في الشوارع والأزقة من خلال انتشار الميليشيات التابعة لهذا الفريق أو ذاك وهي تتجول في شوارع العاصمة وبقية مناطق المدن الحضرية مدعاة للخوف أكثر، ففي يوم الأحد الماضي عند رفض الرئيس صالح التوقيع على المبادرة انتشر مئات المسلحين في زيهم القبلي وهم يحملون الرشاشات والأسلحة الخفيفة وقطعوا الطرقات والشوارع في العاصمة، قبل أن يحاصروا مبنى سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة ويمنعوا السفراء وأمين عام مجلس التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني من الخروج من السفارة إلى دار الرئاسة بحجة رفضهم توقيع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية، التي توفر له مخرجاً آمناً ومن دون ملاحقة قضائية، وهو ما لا يحدث حالياً للرئيسين محمد حسني مبارك وزين العابدين بن علي.

[**من ينقذ اليمن؟*]

إن السؤال الكبير الذي يتردد اليوم على ألسنة اليمنيين هو : من لديه القدرة على لجم الاندفاع الهائل نحو انفجار الأوضاع القائمة في البلاد؟ من لديه القدرة على وقف كرة النار التي تتدحرج وتكبر يوماً بعد آخر؟ فالرئيس صالح لم يعط لمواطنيه الاطمئنان بأن زمن الحروب الأهلية قد ولى، فعلى العكس تماماً تبدو مواقفه ومواقف مؤيديه تشير إلى أن الحرب الأهلية قادمة لا محالة، فمرة يقول إن «اليمن قنبلة موقوتة وقابلة للانفجار في أية لحظة»، ومرة أخرى يطالب أنصاره ومؤيدي شرعيته بـ «مواجهة التحدي بالتحدي» في كل مكان، في المدن والقرى والعزل وحتى في الطرقات، ويتذكر المواطنون حديثه قبل نحو عام ونصف العام عندما قال إن الحرب الأهلية لو اندلعت، فإنها ستكون «من طاقة إلى طاقة»، أي من نافذة إلى نافذة.

هل يكون المنقذ من وقوع الحرب الأهلية في اليمن خارجياً؟ أم أن العامل الخارجي سيكون ثانوياً وأن الحل سيأتي من الداخل، حيث تسود البلاد كلها موجة غضب عارمة يقودها شباب التغيير؟ أم تخفق الأطراف كافة في حسم إيقاف «كرة النار» التي تكبر مع مرور كل يوم ويدخلون في أجواء مواجهات شاملة.

يعتقد الكثير من المراقبين للشأن اليمني أن الأوضاع في اليمن شديدة التعقيد وتحتاج إلى نوع مختلف من الحسم، عبر تكوين ائتلاف وطني شامل يضم القوى السياسية والاجتماعية كافة في البلاد لمنع انهيار الأوضاع ودخول البلاد دوامة العنف. صحيح أن الأحزاب والقوى السياسية لا تزال منقسمة على نفسها حتى اليوم، إلا أن المخاطر التي تحدق باليمن يمكن أن تجعل القوى السياسية والاجتماعية كافة وحتى القبلية تستنفر جهودها لمنع انزلاق البلاد إلى المجهول والتوحد من أجل تكوين هذا الائتلاف.

سيكون من المناسب أن تبحث الأطراف الفاعلة في البلاد كافة، بمن فيها القبائل، وهي لاعب رئيس في الأزمة، عن الوسيلة المناسبة لوضع اليمن على السكة الصحيحة، بعيداً عن العنف الذي يهدد كل شيء، ويجب استغلال حالة الغضب الشعبي الكبير الذي يسود اليمن اليوم وخروج الشباب إلى ساحات الحرية للمطالبة بالتغيير الحقيقي، وليس التغيير الشكلي الذي ينشده الكثيرون.

اليمنيون يحتاجون إلى دولة حقيقية تكون قادرة على إعادة الطمأنينة لشعب طحنته الصراعات السياسية منذ اندلاع ثورته وحتى اليوم، صراعات تتداخل فيها عوامل كثيرة، لكنها تشابكت بين عوامل السياسي والقبلي والعسكري والاجتماعي، وحان وقت فك الاشتباك.

المطلوب هو أن يبحث اليمنيون عن ضوء في آخر النفق ليتمكنوا من الولوج إلى واقع يستطيعون من خلاله الحصول على حياة كريمة بعيدة عن الحياة التي يعيشونها اليوم المخضبة بالدم والانتقام، ليس من المناسب بعد هذه التجارب من الحروب الأهلية أن يبقى البعض متمسكاً بخيار الحسم عن طريق القوة مع خصومه، وأن يعود الجميع إلى صوت العقل الذي غاب وإلى الحكمة التي بدأت تتوارى خلف روائح الدم والبارود.

لم يعد اليمن يحتمل المزيد من الكوارث تضاف إلى سلسلة الأزمات التي يعانيها منذ خمسة عقود، بل إن من حق حكامه أن يكرموا هذا الشعب على الصبر الذي تحمله وعلى المعاناة التي تحملها طوال العقود الخمسة الماضية من اندلاع ثورة كان يعتقد أنها ستنتشله من حالة التخلف التي كان فيها، فلم تزده إلا المزيد من المعاناة، في ظل حالة الاستقطاب الحاد في المجتمع لدى الحكام.

لقد تكرس لدى اليمنيين مبدأ حسم الخلافات بشأن السلطة بالقوة، وباستثناء الرئيسين القاضي عبدالرحمن الإرياني في الشمال وعبدالفتاح إسماعيل في الجنوب، فإن انتقال السلطة من رئيس إلى آخر كان على الدوام يحسم بواسطة الدم الذي يسيل في كل مكان ولا يولد إلا مزيداً من الدم.

تعب اليمنيون وهم يبحثون عن مستقبل لهم يجعلهم داخل اللعبة السياسية الحقيقية البعيدة عن العنف والاستئثار بالسلطة، فبعد 33 سنة، أي أكثر من نصف عمر الثورة في اليمن، شمالاً وجنوباً، يحكم الرئيس علي عبدالله صالح، وهو لا يريد ترك السلطة تحت ذريعة «التمسك بالشرعية الدستورية»، مع أنه يعلم أن ملايين اليمنيين يخرجون إلى الشوارع وبشكل سلمي للمطالبة بإسقاط نظامه ورحيله، كما أن «الشرعية الدستورية» لم تنفع الرئيسين المصري والتونسي، فقررا المغادرة بعد أن وجدا أن حرباً أهلية على الأبواب.

خروج الرئيس صالح من السلطة قد يفهم من قبل أنصاره بأنه تمرد على الشرعية الدستورية، لكنه قد يفهم من الشعب اليمني كله بأنه تضحية، جنبّ من خلالها الشعب اليمني حرباً أهلية قد لا تبقي ولا تذر، فالدماء التي سالت وستسيل هو في حكم القانون مسؤول عنها لأنه أقسم أنه سيحافظ على وحدة البلادة وأمنها واستقرارها وعلى حياة كل يمني ويمنية.

الاستنفار الحاصل اليوم والخطاب التحريضي على المعارضة وعلى «الانقلابيين» ستكون له مردودات سلبية على الوضع حتى لو قبل صالح بالخروج قبل فترة ولايته الرئاسية التي تنتهي عام 2013، وهو موعد لن يقدر اليمنيون على انتظاره مع الموجات المتتالية التي تخرج الناس إلى ساحات التغيير، والذين قد يفقدون صبرهم ويفقدون الأمل بالتسويات السياسية فتدخل البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة لن يستطيع أي طرف مهما كانت قوته العسكرية أو الشعبية أن يسيطر عليها، وهنا ستكون الكارثة الكبرى.

- **صادق ناشر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2178039

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178039 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40