الخميس 26 أيار (مايو) 2011

موريتانيا تنبش القبور بحثاً عن «الحقيقة»

الخميس 26 أيار (مايو) 2011

بين الدهشة والغضب مساحة من التوجس والترقب، إنها مشاعر تختزل الحالة النفسية التي خيمت على الأغلبية العربية في موريتانيا ساعات بعد قرار السلطات الرجوع إلى القبور لمعرفة ملابسات أناس ماتوا في ظروف غامضة منذ استقلال البلاد وحتى اليوم.

هل اتخذ القرار الأكثر إثارة للجدل عن وعي سياسي وترتيب منهجي ودراية بعواقبه؟ يتساءل محلل سياسي في نواكشوط، لقد وضع القرار الكثير من الضباط والجنود على مقربة من قاعة المحكمة إن لم يكن أمام المقصلة.

جاء القرار المثير على لسان وزير الشؤون الإسلامية الموريتاني أحمد ولد النيني الذي كشف عن أوامر من الرئيس محمد ولد عبدالعزيز بفتح «جسر للتواصل بين الأحياء والأموات»، وذلك عبر القيام بإحصاء شامل «للموريتانيين الذين اكتنف الغموض ظروف وفاتهم» منذ بداية الاستقلال وإلى اليوم، ووضع خرائط طوبوغرافية تحدد أماكن دفنهم وذلك «لتمكين ذويهم من زيارتهم في المستقبل».

أكد وزير الشؤون الإسلامية أن هذا العمل «سيقوي أواصر الترابط والتراحم والتضامن بين شرائح الشعب الموريتاني كافة»، وأضاف : «يدخل العمل في إطار تكريم الميت والقيام بحقوقه المترتبة على الأحياء».

الطريقة التي تم بها تسويق القرار تجاوزت الأبعاد السياسية إلى إضفاء صيغة قدسية دينية على الموضوع إذ قرر مفتي موريتانيا أحمدو ولد المرابط، إمام «الجامع الكبير» تعزيزه بفتوى دينية «بجواز كشف قبور الضحايا ممن توفوا في ظروف غامضة». وهي مسألة ظلت محط خلافات فقهية بين علماء البلد، وبرر ولد المرابط التحقيق في ملابسات موت أولئك الذين اختفوا في ظروف غامضة بأنه يدخل في إطار تعزيز الوحدة وتشجيع المصالحة الوطنية.

وفي هذا الخضم ذهب العديد من المراقبين إلى اعتبار أن العملية برمتها يكتنفها الغموض، فاللجنة الوزارية التي كُلفت بالملف، وضمت وزراء الشؤون الإسلامية، والداخلية، والعدل، وحقوق الإنسان، لم يجر الإعلان عنها من قبل، كما لم يقم الرئيس ولد عبد العزيز باستشارة البرلمان ولا الأحزاب ولا القوى الاجتماعية في خطوة خطيرة كهذه، ما يشير إلى أن للقرار أبعاداً لم تتضح معالمها بعد.

ويقول مصدر مطلع إن التحديد الجغرافي لقبور المفقودين لا يتطلب وقتاً كثيراً على افتراض أن الأسرار موجودة لدى المؤسسة العسكرية والأمنية، وإن الأمر لم يكن يتطلب أكثر من قرار جريء.

من الواضح أن الخطوة تهدف للكشف عن قبور أولئك القتلى الذين راحوا ضحية تصفية حسابات متعددة الفواتير عبر العقود الأربعة الأولى من استقلال الدولة.

ولائحة هؤلاء قد تطول، ويتداخل فيها العامل القبلي بالشرائحي والعرقي، فيما يتزاوج العامل الداخلي بالخارجي في «قران» خانات إحصاء المفقودين.

تمتد لائحة «الضحايا» من الرؤساء فالمسؤولين إلى المواطنين العاديين، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر : ملفات أفراد مثل «دياهي ولد شاش» وهو مواطن يتحدّر من قبيلة الرئيس الحالي اختفى في ستينات القرن الماضي وأول المفقودين الذين تمت تصفيتهم في عهد الدولة الحديثة، ومن بين المستهدفين أيضاً ضحايا مذبحة عمال شركة الحديد والمناجم بـ «أزويرات» (29 مايو 1968)، وربما ضحايا حركة النهضة ومثيلاتها من الحركات السياسية التي تعرضت لقمع الدولة في صمت مطبق، ثم قائد الجناح القومي في جبهة البوليساريو الولي مصطفى السيد (يونيو 1976) وأسر الصحراويين الذين اختفوا في ظروف غامضة داخل الأراضي الموريتانية في السبعينات، ثم الرئيس الأسبق أحمد ولد بوسيف (27 مايو 1979) والذي مات في حادث تحطم طائرة رفقة مجموعة من الضباط والمدنيين، ثم ضحايا انقلاب 16 مارس 1981، ثم ضحايا التمييز العنصري (ما بين 1986و1991)، لتصل اللائحة إلى «والي أنواذيبو» ورفاقه الذين اختفوا عقب انتخابات رئاسية اعتبرت المعارضة الموريتانية أنها مزورة (1992)، والأرجح أن اللائحة قد تكون أطول بكثير، في حال لم تخضع لشفرة «مقص الرقيب».

لكن الهدف الأساس للعملية، في ما يبدو، هو الملف «الأخطر» والأكثر حساسية والمتعلق بالعسكريين الأفارقة الذين تمت تصفيتهم من الجيش وتم إعدامهم خارج القانون في أحداث 1989 و1990 و1991، في مناطق «إنال» و«ولاتة» و«أنواذيبو» و«الضفة»، وذلك إثر محاولات انقلابية قام بها بعض الضباط الأفارقة، والأحداث العرقية التي شهدتها بعض ثكنات الجيش إبان تلك الفترة.

في المقام الأول، تقع مسؤولية الأحداث بطبيعة الحال على ثلاثة رؤساء موريتانيين سابقين (المختار ولد داداه، محمد خونه ولد هيداله، معاوية ولد الطايع في الفترة ما بين 1960و2005) الذين جرت هذه «الاختفاءات» في عهدهم، لكن المنفذين الذين يتحملون بالقدر نفسه من المسؤولية المباشرة قانونياً وأخلاقياً عن الإعدامات تشمل لائحتهم معظم الطاقم العسكري والسياسي والإداري للدولة منذ الاستقلال وإلى الوقت الراهن.

ذلك أن ضباط وأفراد المؤسسة العسكرية والأمنية الموريتانية لا يزالون، باستثناءات هيكلية بسيطة، هم أنفسهم المسيرون للمؤسسة والممسكون بالقرار في البلاد.

ولهذا لا يشكل القرار سبيلاً إلى «العدالة الآمنة» التي تنصف ضحايا عنف الدولة من القوميتين، وإنما يتجاوزه ليعطي الأدلة الدامغة على «جرائم إبادة» لأفارقة البلاد، وهو إجراء قد يصب الزيت على نار التوتر العرقي الحالي في موريتانيا.

كما أنه من وجهة نظر البعض ارتماء زائد من الرئيس محمد ولد عبد العزيز في حضن قوميي الأقلية الإفريقية، الذين لبى جملة من «مطالبهم المستحيلة» كإعادة وتجنيس آلاف الأفارقة، والتعويض لأسر ضحاياهم من دون سواهم، ومضاعفة حصصهم في الحكومة والمناصب العليا في الجيش والدولة، وأخيراً «قرار نبش القبور» كما يسميه الشارع الموريتاني.

من هنا جاء غضب الأغلبية العربية ليترجم مسارات عدة من أبرزها، الخوف من خطوة منفردة أخرى قد تلبي مطلب الحكم الذاتي لأفارقة البلاد، وإلغاء ملف التعريب نهائياً، وتعديل الدستور لتقاسم السلطة وغيرها من المطالب.

ولأن المعالجة الفردية للملف لا تزيده إلا إشكالاً، فقد شكلت خطوة «نبش القبور» مقدمة لنكء جراح الملف العرقي في البلاد من جديد، فيما تتخوف أوساط الأغلبية من قيام ذوي الضحايا الأفارقة والمنظمات المحلية التي «تعتاش على الملف» والمنظمات الحقوقية الدولية بإجراءات محتملة متعلقة بطلب تحقيق جنائي دولي يرحل الملف إلى خانة الجرائم ضد الإنسانية، ما يعني عملياً وضع مئات الضباط والجنود من المؤسسة العسكرية في البلاد داخل قفص الاتهام، وبدء تصفية مضادة هذه المرة بيد العدالة الدولية، الأمر الذي سيضع ملف السلم الأهلي في البلد على كف عفريت.

تقول المعلومات «المسربة» إن الوزير ولد النيني أعلن عن إحصاء المفقودين وتحديد مكان قبورهم بعد اكتمال العمل في أول خريطة لضحايا العنف العرقي في البلاد، لكن «الإفراج» عن الموقع الجغرافي لقبور الضحايا قد يكون خاضعاً لـ «ترتيب» آخر، وفصل «جديد» كلياً في مستقبل البلاد.

فالرأي العام الموريتاني لم يهضم بعد هذه الخطوة الجريئة، ولا الغرض منها، ولا التداعيات التي ستخلفها في مجتمع يزيد «البلسم» جراحاته.

ولأن الحكومة الموريتانية، لم تكشف الأهداف «المرجعية» لهذه العملية التي يبدو أنها اتخذت من جانب واحد، فإن مبرر «جسر التواصل بين الأحياء والأموات»، قد يكون كافياً للقبول مبدئياً بأنها استجابة لذوي الضحايا الذين ما فتئوا يطالبون بمعرفة مكان قبور ذويهم بعد أن «غيبت» الحقيقة فترة طويلة.

وفي هذه الحالة يدخل هذا العمل الإنساني في تصفية الإرث العنفي الذي طال جميع الموريتانيين في «سنوات الجمر والجفاف».

لكن أغلب المحللين في نواكشوط لا يرون أن الأمور ستكون بتلك السهولة، بل إنها بالفعل بداية مرحلة قابلة للاستغلال في الاتجاهين الإيجابي والسلبي، فيما ستكون نوايا الطرفين على المحك بالفعل هذه المرة.

هل قصدت موريتانيا «عملاً خيرياً» من خلاله «تكرم الموتى» بقيام الأحياء بالحقوق المترتبة عليهم، وتسعى إلى تخفيف آلام الأسر المكلومة، أم أرادت الدخول في «جلسات الحقيقة» التي قد تأخذ أبعاداً إقليمية ودولية في ظل مساعي جهات إقليمية لتشغيل هذا الملف «رافعة» للإيقاع بالبلد في أتون الصراع العرقي من جديد.

قالت الحكومة الموريتانية كلمتها، فيما لاذ قرابة ثمانين حزباً سياسياً في البلاد بينها أحزاب المعارضة حتى الآن بالصمت، وإن كانت منى بنت الدي القيادية البارزة في «التكتل» (حزب ولد داداه) تعتقد أن «خطوة من هذا النوع كان من الواجب أن تدرس جيداً ثم تنفذ بعد ذلك بالتشاور مع القوى السياسية، وفي ظل إجماع وطني يمنع تحولها إلى مصدر جديد لإثارة النعرات».

لكن أحد أبرز زعماء المعارضة، طلب عدم كشف اسمه، قال في تصريح لـ «الخليج» إن الهدف من هذه العملية «لا يتجاوز تشويه كل الماضي لصالح عهد الرئيس ولد عبدالعزيز»، وإن «الدليل سيظهر قريباً مع اللائحة المنقوصة»، على حد تعبيره.

وحده حزب «حركة التجديد»، أكبر أحزاب الأقلية الإفريقية في البلاد، والذي أعلن مساندته النظام قبل أشهر، اعتبر القرار «خطوة مهمة» تستجيب للمطالب المتكررة لأصحاب الحقوق بتمكينهم من معرفة مدافن ذويهم للصلاة والترحم عليهم، مضيفاً أن ضحايا مارس 1981 و1986 و1987 وسجن ولاته، ومن ثم «شنقهم» في «إينال» وجميع ضحايا 1989 و1991 «معنيون بهذا القرار».

بينما اعتبر حقوقيون موريتانيون بارزون أن هذه الخطوة تطبعها الارتجالية التي قد لا تكون في صالح الملف.

كما أعرب تجمع أسر الضباط الذين أعدموا في 26 مارس 1981 عن «الارتياح» لقرار الرئيس عبدالعزيز بكشف وتحديد قبور الموريتانيين الذين ماتوا في «ظروف غامضة».

أما «تيار مبادرة الانعتاق»، فقد أعرب عن عدم جدوى هذا القرار ما لم يتبع بأمور جدية ملموسة، ومن بينها «التوقيف الفوري لكل مرتكبي جرائم الإبادة وتقديمهم للعدالة أياً كانوا»، و«إخلاء كل المهام ذات الطابع العمومي وكل ممثليات الشعب من كل الأشخاص الذين تعرّف إليهم أو اتهمهم الضحايا أو ورثتهم الشرعيون بأنهم شاركوا من قريب أو بعيد في هذا التطهير العرقي».

ودعا التيار الدولة الموريتانية إلى القيام بتحقيق جيني لتحديد هويات الرفات وإعادتها إلى الأسر المعنية بها، وطالب بـ «إطلاق مسلسل يهدف إلى إعادة بلورة كرامة وحقوق الأفارقة الموريتانيين الذين يعيشون حداداً منذ محاولة الإبادة الجماعية التي وقفت وراءها الدولة ما بين 1986 و1991».

ويبقى الترقب الأهم هو ما يتعلق بالخطوات التي ستتخذها المنظمات الأهلية والحقوقية الإفريقية التي يقول مصدر من داخلها إن بحوزتها لائحة طويلة بأسماء مئات «الضحايا» و«الجناة» على حد سواء، وإن نبش قبور الموتى وإخراج «العظام» وهي رميم، والتحقيق في أسباب الوفاة، لا بد أن يتوج باشتراط تحقيق العدالة، «وإلا فإن العملية بلا معنى».

إن السؤال المطروح الآن هو حول ارتباط خطوة الرئيس محمد ولد عبد العزيز بـ «قرار نبش القبور» بالوضع العام في البلاد، فهل هي محاولة التفاف على بوادر الثورة التي تعيشها البلاد عبر الحركة الشبابية المناوئة وحركة الاحتجاجات الاجتماعية غير المسبوقة، وبالتالي قرر الرئيس الاستعانة بالأموات بعد أن أعياه الأحياء؟

أم هي ضربة ذكية لـ «الانقلابيين النائمين» في المؤسسة العسكرية، والذين قد يحوّل الملف أحلامهم إلى كوابيس، أم تصفية حسابات سياسية مع شخصيات عسكرية بارزة بينها الرؤساء السابقون (ولد فال نموذجاً) والذين تؤكد المعلومات عزمهم الوصول للحكم بأي ثمن؟ أم هي رد فعل من الرئيس ولد عبد العزيز إزاء التدهور المريع لشعبيته في أوساط الأغلبية العربية الغاضبة على مستوى الأحزاب والقبائل والشرائح والتي تقول التقارير إنها بدأت عملياً رحلة البحث عن «رأس» الرجل بأي ثمن؟

أياً كانت حصيلة أول إحصاء موريتاني «تحت الأرض»، فالمؤكد أن الملف الجديد، سيشكل «جسراً» لعلامات الاستفهام حول النتائج النهائية لتداعيات هذا الملف العويص والذي غالباً سيرفض العبور على كل الجسور.

- **صحيفة «الخليج» الإماراتية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2178300

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178300 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40