الخميس 26 أيار (مايو) 2011

عودة إلى الثورات العربية وتجديد مشروع النهضة

الخميس 26 أيار (مايو) 2011 par د. يوسف مكي

الجوامع المشتركة بين الثورات العربية، التي أصبحت أمراً واقعاً مع بداية هذا العام، هو أنها جميعاً شملت من جهة، النسيج الاجتماعي، بكل تمفصلاته وتموضعاته. ومن جهة أخرى، شملت، مختلف التيارات والتوجهات السياسية السائدة، بما يجمعها من وحدة وتناقضات وتنافر. السمة الأخرى لهذه الثورات، أن الذين ارتبطوا بها من كتل بشرية كبرى، بمختلف تجلياتها الاجتماعية والسياسية، لم يربطهم عقد جبهوي، خلافاً لما هو عليه الحال، في ظروف أخرى، اقتضت نزول القوى السياسية العربية مجتمعة، بشكل مشترك إلى الشارع.

ما جمع الثورات العربية أيضاً، أن الشباب كونوا منذ بداياتها عمودها الفقري. وقد كان لهم جميعاً الدور الكبير في استثمار مواقع التواصل الاجتماعي، على الانترنت : (فيسبوك وتويتر ويوتيوب) للإعلان عن أهدافهم ومطالبهم ومشاريعهم، ومواعيد انطلاق ثوراتهم . لقد أدخلت هذه الثورات، للمرة الأولى، مفهوم الاحتجاج السلمي، بشكل واسع في القاموس السياسي العربي، بعد أن اقتصر حضور المفهوم، في العقود القليلة الماضية، على ما ترسخ في الذاكرة الجمعية عن انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين، في نهاية عقد الثمانينينات من القرن المنصرم. وجمعها أيضاً أنها كانت مفاجأة الأمة لذاتها وللعالم أجمع، رغم أن البرامج والأهداف وحتى مواعيد الانطلاق كانت معلنة على صفحات الإنترنت. كان التبشير شيئاً، وتحويل الحلم من إرادة كامنة إلى أمر واقع هو شيء آخر بكل تأكيد.

ماذا تعني هذه المقدمة في سياق الحديث عن تجديد مشروع النهضة العربية؟

نعني بهذه المقدمة، ضرورة أن ينطلق مشروع تجديد النهضة العربية، من تشخيص هذا الواقع، وأن يعيد دعاة المشروع تركيب بنيته النظرية انطلاقاً من المعطيات الجديدة المستلهمة من الحراك الملحمي الشعبي، الذي مرت به المنطقة العربية خلال الخمسة أشهر المنصرمة. تجديد مشروع النهضة، في هذا المنعطف التاريخي، أمر ملحّ ومطلوب، وتعبير حي عن وعي للضرورة التاريخية.

هناك فراغات كبيرة، لم يتناولها مشروع النهضة، بسبب الظرف التاريخي الذي انطلق منه. لقد جاءت الثورات العربية، وبشكل خاص ثورتا مصر وتونس، لتطلق أجراس إنذار، ولتضع مشروع النهضة العربي أمام خيارات عسيرة، إما التماهي مع هذه المتغيرات واستنباط الدروس منها، كأمر لا مفر منه، لأداء الرسالة الحضارية للمشروع، أو القفز فوق الواقع، والانكفاء في شرنقة المقولات التعميمية القديمة البائسة التي تجاوزها منطق التاريخ وحركة العصر.

تسلط الأحداث الأخيرة الضوء على محاور عديدة ينبغي إعادة النظر فيها، في الفكر السياسي العربي، أهمها دور الحركة العفوية للجماهير، والاحتجاج السلمي، ومفهوم النخبة، ودور الطبقة المتوسطة، وإعادة تركيب مفاهيم العمل الجبهوي. وينبغي أيضاً التركيز على منجزات التقانة الحديثة، وبشكل خاص ثورة الاتصالات، ومواقع التواصل الاجتماعي في استنهاض الأمة، والدفع بمشروعها التنموي والحضاري إلى الأمام.

والمطلوب في هذا الاتجاه ليس محاكاة الواقع، وصياغة برنامج نهضوي ليتطابق مع قياساته . إن الهدف هو تقديم مراجعة نقدية لفكر النهضة على ضوء ما استجد إنسانياً، في هذا الجزء من كوكبنا الأرضي. مراجعة لا تستنسخ الواقع، بل تستشرف المستقبل مستندة إلى وعي وتقييم وتحليل نقدي للمستجدات والمتغيرات وإسقاطاتهما المباشرة وغير المباشرة على الفكر.

قراءتنا في الحديث السابق، لمصر الثورة وتجديد المشروع النهضوي، قادتنا إلى نتيجة خلاصتها، أن وجود النسيج الاجتماعي بمختلف طبقاته، وبكل تفاعلاته، في الثورات العربية قد غيّب عملية الحسم باتجاهات سياسية واقتصادية واضحة، وجعل بوصلة التغيير رجراجة. وبالمثل فإن تزاحم التيارات السياسية المختلفة وتسابقها للوصول إلى قبة البرلمان، وسدة الرئاسة، والكثافة الأفقية والرأسية للتوجهات السياسية، من شأن كل ذلك ألا يجعل أي جهة بمفردها قادرة على الاستئثار بالسلطة، وتطبيق برنامجها السياسي، وفقاً لمفهوم تداول السلطة، وسوف يقتصر دورها في أحسن الأحوال على دور الشريك الرئيسي، وليس الأوحد.

إن أفضل ما يمكن الوصول إليه في ظل هذا الواقع، هو تحقيق ائتلافات سياسية مرحلية، بين توجهات ورؤى متنافرة، تصل إلى الحكم عبر مساومات تأخذ من حصة برامج كل منها، بحيث لا يبقى في النهاية سوى القليل القليل من المشتركات. وفي النهاية لن يبقى أمامنا سوى لوحة رمادية تتجاذبها أطراف الحكم يمنة ويسرة، ولن يكون بمقدورها تلبية طموحات وآمال الكتل العريضة في تحقيق التقدم والنماء والنهضة.

على الصعيد الشعبي، أمامنا في بلدان الثورات العربية لوحات سيريالية زاهية، مشبعة بالرجاء والأمل، تحوي كل شيء، وتفتقر إلى الإجابة عن أبسط الأشياء. ما هو على سبيل المثال موقف الثورات العربية من موضوع الهوية؟ وكيف تصنف ذاتها، حين يتعلق الأمر بالمجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ أسئلة غيبت بقصد أو غير قصد. ذلك أمر يصعب الجزم في الإجابة عنه الآن. ربما رأى الثائرون في طرح هذه الأسئلة تفويتاً لفرصة تاريخية، مهمتها الإطاحة برؤوس الأنظمة السياسية التي كانت قائمة، وتأجيل ما بعد ذلك إلى حين إنجاز هذه المهمة العاجلة. وربما بسبب من غياب التجربة السياسية، فاتهم طرح الأسئلة، أو رأوا أن تحقيق الحرية هو المدخل الرئيسي لإنجاز بقية المهمات.

هذه الحقائق تفرض واقعاً جديداً مؤقتاً، على حركة الاحتجاجات السياسية، هو القبول ببرنامج الحد الأدنى، الذي يستطيع جمع كل الأطراف تحت خيمته. لكن هذه بالتأكيد ليست مهمة مشروع النهضة. فهذا المشروع مهمته الغوص في التفاصيل، وتحديد برنامج استشرافي عملي وفكري متكامل يتجه بقوة نحو المستقبل.

ملء الفراغ، في مشروع النهضة، الذي عراه غياب شعارات المشروع، شبه الكامل، عن الشارع خلال الخمسة أشهر المنصرمة، لا ينبغي ملؤه بشكل انفعالي، ينطلق فقط من افتتان بما جرى، من دون وعي بالثغرات الكبيرة التي صاحبت التحولات الملحمية الكبرى في الواقع العربي الراهن. فما يجري الآن من أزمات سياسية واقتصادية في تونس ومصر هو وجه آخر، لعجز الحركات الاحتجاجية الشبابية، أو ما نطلق عليها مجازاً الثورات الشعبية، عن اقتناص طبيعة اللحظة، وتقديم أجوبة عملية عما ينبغي القيام به بعد تحقيق النصر المؤزر.

غابت شعارات كثيرة حركت الشارع والوجدان العربي لعقود طويلة، مثل شعارات التحرر الوطني، وتحرير فلسطين وعروبة الخليج ونفط العرب للعرب، والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية. وحلّت محلها شعارات أخرى، حركت الشارع العربي، ودفعت به إلى معمعان ميادين الكفاح. ماذا يعني ذلك لحركة النهضة العربية؟ هل يعني ذلك نهاية للشعارات التي صنعت تاريخ الأمة؟ أم هي حالة كمون واختمار، تعود بعدها تلك الشعارات، بقوة ولكن بأشكال جديدة في الواقع العربي؟ وهل على مشروع النهضة أن ينتظر الإجابة ضمن سياقات تاريخية جديدة؟ أم يضطلع هو بذاته بصياغة هذه السياقات وتوجيه حركتها؟

الذي يجيب على ذلك، سلباً إو إيجاباً، هو وعي الظروف التي أدت إلى بروز أفكار التحرر والحرية والعدالة والوحدة، وخضوعها لجدل الوحدة والترابط، ووضعها في سياق ديالكتيكي، يرفض تحويل التاريخ إلى «دوغما» من جهة، ويأبى من جهة أخرى أن يتجه التاريخ إلى نوع من الميكانيكية العدمية.

وتبقى الأسئلة قائمة، والمحاور مفتوحة، والحاجة إلى التأصيل والتحليل ملحة، لنتابع القراءة والمناقشة في أحاديث قادمة بإذن الله.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 42 / 2165427

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165427 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010