الأربعاء 25 أيار (مايو) 2011

يوم قرر فلسطينيو لبنان الزحف

الأربعاء 25 أيار (مايو) 2011 par د. محمد مصطفى علوش

لم يكن أحد في لبنان يتصور أن جموعاً تقدر بعشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين سوف تزحف إلى مارون الراس في 15 مايو/أيار حيث الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة في الذكرى الثالثة والستين للنكبة الفلسطينية.

وربما لم يفترض أحد أن تكون المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في ذلك اليوم نقطة تحول في الصراع العربي «الإسرائيلي»، أقله على الصعيد الفلسطيني، إذا ما أخذنا بالاعتبار التحركات الشعبية في الداخل الفلسطيني وفي دول الطوق التي زحفت جميعها نحو الحدود الفلسطينية من سوريا ولبنان والأردن ومصر تحت شعار واحد رفعه الجميع «الشعب يريد العودة إلى فلسطين»، ليسقط مع هذا التحول كل المؤامرات التي حيكت غربياً و«إسرائيلياً» وما تبعها من حلول مؤلمة اجترحتها قيادات في السلطة الفلسطينية أملاً في الوصول إلى سلام دائم تبنى فيه دولة فلسطينية مستقلة مقابل التنازل عن بعض الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

وقبل أن نخوض في تداعيات ما حصل في مارون الراس على الوضع اللبناني، وكيف تمت رؤيته لدى الأطياف السياسية المنقسمة على نفسها في لبنان، يفترض بنا الإشارة إلى أن الحراك الفلسطيني أحدث صدمة كبيرة في الشارع «الإسرائيلي» وأربك منظومة الأمن فيه التي ردّت بشكل هيستيري على هذا التحرك من خلال الإيغال في القتل للأطفال الذين قاموا برشق جيشها على الحدود سواء في مجدل شمس في سوريا أو مارون الراس في لبنان.

بل أكثر من ذلك فقد كشفت «مسيرة العودة» عن هشاشة إستراتيجية الردع العسكري المعتمدة من لدن الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة والتي تُؤتي أُكلها مع الجيوش الكلاسيكية طالما أن الغرب حرص ولا يزال على خلق توازن عسكري بين «إسرائيل» من ناحية والجيوش العربية مجتمعة من ناحية أخرى.

على الصعيد الفلسطيني، واعتماداً على حجم الحشد الشعبي الذي تجمع عند بلدة مارون الراس وما حولها، قياساً لعدد الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان، فقد شكلت «مسيرة العودة» استفتاءً شعبياً عريضاً أكد فيه الفلسطينيون أن لا بديل عن حق العودة مهما طال الزمن وأن الشعب الفلسطيني ومن ورائه الشعوب العربية يئست من كل مدراس التنظير في المواجهات التقليدية مع الاحتلال الذي يمعن في سرقة الجغرافيا والتاريخ الفلسطيني منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 وحتى يومنا هذا .

فالشعب الفلسطيني الذي استلهم القوة من إخوانه العرب الذين سطروا ملاحم ثورتهم ضد دكتاتوريات محلية قادرٌ هو الآخر على سحب البساط من تحت أقدام فصائله واستلام زمام المبادرة بنفسه متبنياً خياراً جديداً لم يستعمله في يوم من الأيام، هو ليس بالانتفاضة التي شهدها الشعب الفلسطيني مرتين في حياته، وليس بالتمرد العسكري الذي نعهده في بعض الجيوش التقليدية، إنما هو تمرد بشري يطال جميع شرائح المجتمع الذي قرر الثورة والعصيان خارجاً عن كل قواعد اللعبة السياسية المعروفة وقوانين الصراع العربي «الإسرائيلي» الذي تم وضعه من قبل نظم عربية وغربية.

أما في لبنان فلم ينظر كثيرون إلى ما جرى في مارون الراس، على أنه جزء من كل، في إطار الحراك الفلسطيني في الأردن وسوريا والداخل الفلسطيني، بل نُظر إليه على أنه جزء من مخطط سوري إيراني بالتنسيق مع حزب الله الذي فتح الطريق أمام المتدفقين إلى الحدود لتقديم رسالة إلى الاحتلال «الإسرائيلي» والغرب أن أي ضغط على سوريا ونظامها سوف يكون الرد عليه عبر الحدود السورية واللبنانية مع فلسطين المحتلة.

وإزاء هذا الوضع لا يجد لبنان نفسه بعيداً عن أي تغيير قد يطرأ على وضعه السياسي مع هذه التقلبات التي تشهدها المخيمات الفلسطينية في لبنان على الرغم من أن مسيرة الزحف نحو الحدود كانت تحمل اسم «مسيرة العودة» يعني رفضاً تاماً وعملياً لكل مشاريع التوطين التي تتخوف منها طوائف عديدة في لبنان تخشى على التوازن الديمغرافي للطوائف اللبنانية في حال تم توطين الفلسطينيين البالغ عددهم ما نسبته 11% من مجموع سكان لبنان.

الأخطر من ذلك أن ما حصل كان كفيلاً بإشعال حرب لبنانية «إسرائيلية» لو كان هناك قرار لدى حزب الله بالرد على اعتداءات الاحتلال، أو لو حاول الجيش اللبناني إطلاق النار باتجاه الحدود الفلسطينية في محاولة منه للحد من المجزرة التي راح ضحيتها أحد عشر شهيدا ومائة وأحد عشر جريحاً أمام أعين الجيش اللبناني الذي كان يطلق النار بدوره لإيقاف زحف الشباب نحو السياج الشائك.

لقد نظر اللبنانيون إلى ما حدث في مارون الراس من خلال اصطفافهم السياسي المنقسم أصلاً حول ما يجري في سوريا من اضطرابات وتحركات شعبية، فحزب الله والتيار الوطني الحر ما يسمى بـ«القوى والأحزاب الوطنية» الداعمة لسوريا رأت انكفاء واستهتاراً رسمياً لبنانياً بالدماء التي هدرت عند مارون الراس على يد الاحتلال «الإسرائيلي».

ومن هنا يصف رئيس كتلة التغير والإصلاح ميشال عون ما حصل بالجريمة الموصوفة التي تمت برعاية الأمم المتحدة، متهماً حكومة تصريف الأعمال التي يقودها سعد الحريري بالوقوف على خاطر نتنياهو حيث لا ترقى تصريحاته إلى مستوى الدماء التي هدرت. أما رئيس حركة أمل نبيه بري فقد رأى في الأمر خرقاً واضحاً للقرار الدولي 1701 الذي وضع حداً للحرب التي شنتها «إسرائيل» على لبنان عام 2006.

في المقلب الآخر كان هناك رأي ثان، أنصاره ليسوا قلة بتاتاً، وهم من المنسوبين لقوى 14 آذار وممن يملكون ثارات مع النظام السوري خلال وجوده في لبنان.

وتشكك رؤية هؤلاء ببراءة التحرك نحو مارون الراس. وهي إن لم تطعن أو تغمز من قناة الفصائل الفلسطينية إلا أنها اعتبرت ما حصل جريمة موصوفة سبّبها أولئك الذي دفعوا الشباب الفلسطيني المتحمس إلى التهلكة للتغطية على ما يجري في سوريا من حراك شعبي.

وقد عقب رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع على ما حصل بالقول: «إذا كانوا يظنون أن هذه هي الطريقة لاستعادة فلسطين فهم مخطئون إلى حدّ الجريمة»، مشيراً أن «الجيش والقوى الأمنية انتشروا بشكل كثيف وفاعل عند الشريط الحدودي بأكمله بينما في مارون الراس كان هناك أربعة أو خمسة عسكريين وهذه «فذلكات» لا تمرّ على أحد».

أما عقاب صقر النائب عن كتلة المستقبل في البرلمان فقد كان أكثر وضوحا حين اتهم حزب الله وسوريا وإيران بتعليب الفلسطينيين وإرسالهم إلى حتفهم عند الحدود بذريعة بدء انتفاضة فلسطينية جديدة تقوم على دماء هؤلاء الذين ذهبت دماؤهم هدراً كرمى لعيون النظام السوري وحلفائه.

ويدلل هؤلاء على صحة مذهبهم بما حصل عام 2000، حيث إن الفصائل الفلسطينية في لبنان نظمت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000 بدعم من حزب الله مسيرة باتجاه الحدود الفلسطينية المحتلة سقط خلالها شهيدان وعدد من الجرحى تزامناً مع عملية عسكرية كان ينفذها حزب الله في مكان آخر على الحدود استطاع خلالها أسر ثلاثة جنود «إسرائيليين» في الوقت الذي كانت أنظار الأمن والجيش «الإسرائيلي» تراقب عن كثب المسيرة الفلسطينية.

وبين هاتين القراءتين ينظر الفلسطينيون في لبنان بعز وافتخار لما قام به أبناؤهم من الجيل الثالث للاجئين في لبنان، ما أكد على أن حق العودة والتمسك بالحق لم يفتر مع مرور الزمن وأن المقولة «الإسرائيلية» «الكبار يموتون والصغار ينسون» قد تم نسفها مع ولادة جيل يؤمن بقدرته على التغيير ولا يعبأ بكل ما أفرزته التفاهمات الفلسطينية «الإسرائيلية» أو المفاوضات.

الحقيقة الجلية، وسط كل هذا الصخب، هي أن الفلسطينيين زحفوا نحو أرضهم التي لا يبعدون عنها أكثر من بضعة كيلومترات بعد أن سئموا حياة البؤس والحرمان داخل غيتوات منذ ستين عاماً، كما سئموا انتظار العودة التي يمنيها بهم هذا النظام أو ذاك، وهم يوم يقررون أن ينتفضوا فإنهم لا يملكون ما يخسرونه تحديداً في لبنان، حيث حالات العسر الشديد فيهم هي الأعلى في كل مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة بعد أن منعوا من حقوقهم في التعليم والطبابة والعمل والضمان الصحي والاجتماعي والانتساب إلى النقابات.

ما حصل في 15 مايو/أيار كان مجرد بروفة ستتكرر لا محالة مع كل مناسبة أو ذكرى لنكسة أو نكبة عاشها الشعب الفلسطيني، وإذا كان الاحتلال قادرا على ردع بعض الجيوش النظامية فإنه سيعجز لا محالة في مواجهة شعب قرر أن يستعيد حقه بنفسه عبر زحف صامت نحو بلداته وقراه التي هُجر منها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2181434

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2181434 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40