الخميس 19 أيار (مايو) 2011

مصر الثورة والمستقبل

الخميس 19 أيار (مايو) 2011 par د. يوسف مكي

في نهاية الأسبوع الماضي، سجلت أول زيارة لأرض الكنانة، بعد تفجر الثورة الشعبية، التي تكللت بالنصر في جهادها الأصغر، في 11 فبراير بتنحي الرئيس مبارك عن الحكم. مع وصولي إلى القاهرة، كان شباب الثورة يتهيأون لمظاهرة كبرى، تنطلق يوم الجمعة، في ميدان التحرير، الميدان الذي توجت اعتصاماته ملاحم الكفاح المصري الحديث. موضوع المظاهرة هو الاعتصمام ضد الفتنة الطائفية، التي تسببت باشتعالها حادثة إمبابة، بين متطرفين أقباط ومسلمين. عندما انتقلت إلى ميدان التحرير بعد الظهيرة، رأيت الأعلام العربية مرفوعة، وفي المقدمة منها العلم الفلسطيني. وكانت الحناجر تهتف لعروبة فلسطين، وتندد بالاحتلال «الإسرائيلي»، إلى جانب الهتافات المنددة بالفتنة الطائفية ومحاولات تفتيت وحدة النسيج المصري.

تركت ميدان التحرير، سعيداً. لقد عجزت السنوات الطويلة العجاف عن قهر إرادة شعب مصر، كما عجزت محاولات سلخ هذا الشعب عن عمقه الاستراتيجي العربي. تداخلت الشعارات الوطنية والقومية، وأصبح من الصعب على المراقب التعرف إلى هدف المظاهرة : هل كانت بهدف مناوئة الفتنة الطائفية، أم الانتصار لحق الشعب الفلسطيني؟ اختزل المشهد علاقة موضوعية ألهبت الكفاح المصري، هي علاقة الحرية بالكرامة، التي يمثل الحفاظ على الوحدة الوطنية المصرية، وتحرير الأرض العربية السليبة، شرطيهما اللازمين.

تسوقنا هذه المقدمة، إلى الحراك السياسي المحتدم الآن على عدة جبهات في مصر : جبهة تشكيل أحزاب سياسية، تمثل تطلعات الجيل الجديد، صانع ثورة 25 يناير. هذا الجيل تشكله اتجاهات سياسية مختلفة ومتنافرة، وحدّته الرغبة في إسقاط النظام. وقد حجبت عنه متطلبات اللحظة وعنفوانها وتجاذباتها صياغة برنامج سياسي، لما بعد مرحلة كسر القيود وتحقيق النصر. والآن يواجه بمتطلبات ما بعد التحرير. لقد أدرك هذا الجيل بعد صنعه واقتناصه لحظة التحول، أنه لا يكفي أن تطيح رموز مرحلة أصابها العفن، وتجاوزها التاريخ. إن الأهم هو الانتقال لمرحلة الجهاد الأكبر، مرحلة التنمية والبناء، وذلك ما لا يمكن تركه للحركة العفوية للجماهير، ولا لقوانين الصدفة. ولأن عملية التشكيل الجديد للأحزاب السياسية، وصياغة برامج مستقبلية تليق بالتضحيات وعظمة الحدث الملحمي الذي شهدته ميادين مصر، هي شأن إنساني، فإن من المتوقع أن تتعدد الاجتهادات، لتعكس حقيقة التوجهات السياسية التي آمن بها الثائرون. لكن الحكم في النهاية هو لصناديق الاقتراع. والصراع، في سياق كهذا هو أمر بديهي، بل ومطلوب أخذاً بمقولة زعيم صيني : «دع مائة زهرة تتصارع من أجل أن تتفتح زهرة».

وما دمنا نتحدث عن صناديق الاقتراع، ودورها في تحديد مسار مستقبل مصر، فمن الطبيعي أن ننتقل إلى المعركة التي تجري في أوساط النخب السياسية للوصول إلى مقاعد البرلمان. والحماس في هذا الاتجاه غير مسبوق. فالكل لديه ثقة بأن الانتخابات المقبلة ستعبر بصدق عن رغبة المصريين، ولن يكون هناك تزوير أو إعداد مسبق للائحة الفائزين.

رغم فرحتي الكبيرة بالحراك السياسي في مصر المحروسة، أعترف بأنني شخصياً كنت من ضحايا الحراك الفوار لمناضلي مصر. فالأصدقاء الذين اعتادوا مصاحبتي طوال فترة رحلاتي السابقة إلى مصر، نتناقش ونتحاور في الشؤون الثقافية والفكرية والسياسية المختلفة، انشغلوا هذه المرة بمهمات التحضير، والعمل على كسب معركة الانتخابات. وتركوا مدينة القاهرة، كل إلى دائرته الانتخابية. وأحزاب المعارضة جميعاً تعمل على أكبر حصة من مقاعد الانتخابات. فعلى سبيل المثال، يعمل حزب الكرامة، الذي لم يحظ في السابق، سوى بمقاعد لا يتجاوز أعدادها أعداد أصابع الكف الواحد، على ترشيح مائة فرد للانتخابات النيابية، من بينهم شخصيات كبيرة أكدت حضورها الميداني، أثناء الانتفاضة المصرية. ويأمل الحزب أن يحصد نصف أصوات مرشحيه على الأقل. ومن جهة أخرى، يستعد رئيسه حمدين صباحي، الشخصية القومية المعروفة بانتماء عروبي وانحياز واضح للطبقتين الدنيا والمتوسطة، للدخول في معركة الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية.

وتتباعد المسافات بشكل كبير، بين برامج هؤلاء المرشحين، بين من يركز على المسألة الديمقراطية وترسيخ مبدأ تداول السلطة، ومكافحة الفساد بينما يغفل مسألة العدل الاجتماعي، ويتجاهل قضايا مهمة كمعالجة العشوائيات، والبطالة والفروق الطبقية وتدني الأجور. كما يفعل عدد من البرامج الحديث عن بوابات مصر العربية والإفريقية والإسلامية، والعمق القومي لمصر. وتتجاهل معظم البرامج الانتخابية للمنصب الرئاسي، موضوع الصراع العربي - الصهيوني. وتؤكد باستثناءات نادرة التمسك بمعاهدة كامب ديفيد للسلام في الشرق الأوسط، التي وقع عليها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ورئيس الحكومة «الإسرائيلية» في حينه مناحيم بيجن. وفي سياق العلاقة المستقبلية مع الكيان الصهيوني، ومسألة التطبيع، يتجنب المرشحون الخوض في هذا الموضوع، لكن أقلية منهم تتحدث عن سلام بارد محتمل بين مصر والكيان الغاصب. وأن مصر لن تكون مستقبلاً جسراً للعبور «الإسرائيلي» للمنطقة العربية، ولن تكون حليفاً استراتيجياً لهذا الكيان. وأنها ستقيم علاقة متوازنة مع القوى الإقليمية، من دون استثناء، بما يخدم التطلعات المشروعة لشعب مصر، ومصلحة الأمة العربية.

إن الخلاصة التي نصل إليها من هذه القراءة، هي أن الوضع السياسي في مصر، في بنائه الفوقي، سوف يكون رمادياً في المرحلة المقبلة. وذلك ينسحب على الوضع البرلماني، وموقع الرئاسة معاً . لكن ما يشفع لهذه التجربة، أنها صدى واقعي وموضوعي للخريطة السياسية والاجتماعية المصرية، بعد أن تمكن الشعب من كسر قيوده، وتحقق له الإمساك بزمام مقاديره. ويشفع لها أيضاً، أنها فسحة للتعلم والممارسة الحرة، تتشكل خلالها الأحزاب السياسية الجديدة، ومؤسسات المجتمع المدني، وقوى الضغط الاجتماعي بمختلف تجلياتها. إنها قراءة أولية للمشهد على كل حال، وهي عرضة للصواب والخطأ واحتمال المفاجآت، وليس علينا سوى الانتظار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 92 / 2165470

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165470 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010