الخميس 12 أيار (مايو) 2011

العالم، بدون «إسرائيل»، أكثر أمناً

الخميس 12 أيار (مايو) 2011 par د. أكرم حجازي

لو تأملنا قليلاً عينة من كبرى الصراعات العربية والفلسطينية، البينية والدولية، لتبين لنا أن ثمناً باهظاً تم دفعه في كل مرة لطي صفحة صراع ما. فالقطيعة التاريخية ما بين سوريا والعراق (1978) لم تتوقف إلا بعد غزو العراق، واحتلاله، وتمزيقه شر ممزق، وإخراجه من أية فاعلية فيما أسمي بالصراع العربي «الإسرائيلي». وكذا الصراع الليبي مع الغرب. فلم ينته إلا بالخضوع التام للأطروحة الأمريكية، وتفكيك البرنامج النووي ودفع عشرات المليارات من الدولارات تعويضاً عن تفجير طائرة Pan American فوق بلدة لوكوربي في اسكتلندا (1988). والصراع الفلسطيني الأردني، أواخر ستينات القرن العشرين، انتهى بإبعاد الثورة الفلسطينية عن الساحة الأردنية نحو ساحة صغيرة (1971). والصراع الفلسطيني مع سوريا (1983) لم يتم تجاوزه إلا بإخضاع الطرف الفلسطيني ودفعه نحو الاعتراف بحق «إسرائيل» في الوجود قبل التوقيع على اتفاق أوسلو (1993). فهل يعقل أن يتم تصفية الصراع الفلسطيني - الفلسطيني بلا ثمن؟

ظل ملف المصالحة الفلسطينية يراوح مكانه طويلاً بسبب ما اعتبرته حركة «حماس» تبايناً فيما بين مضمون الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع حركة «فتح» والنص المطلوب منها توقيعه. وللوهلة الأولى فإن توقيع اتفاق المصالحة أخيراً في مصر ما بعد الثورة قد يعني زوال الاعتراضات على النص القديم. لكن العبارات اللافتة التي فاه بها خالد مشعل، خلال كلمته التي ألقاها في حفل التوقيع الثورة (4/5/2011)، كانت تعبر عما هو أبعد كثيراً من مجرد تجاوز نقاط الخلاف على الورقة القديمة.

يقول رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» : «إننا مستعدون لدفع أي ثمن من أجل المصالحة ومعركتنا الوحيدة هي مع «إسرائيل» ... نريد الاستعجال منذ هذه اللحظة الصعبة لتحقيق المصالحة لكي نتفرغ لمشروعنا الوطني وترتيب بيتنا الداخلي في إطار السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير ... ونريد أن تكون لنا قيادة واحدة ومرجعية واحدة لأننا شعب واحد ... نريد إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الضفة الغربية وقطاع غزة بدون مستوطنين وبدون التنازل عن شبر واحد وبدون التنازل عن حق العودة».

الثابت أن «إسرائيل» التي دأبت، خاصة مع تولي أرييل شارون رئاسة حكومتها، على ترديد العبارة الشهيرة : «لا يوجد شريك فلسطيني للسلام»؛ ترجمت العبارة واقعياً عبر تصفية كل الرموز الفلسطينية العسكرية والسياسية والأمنية وحتى الاجتماعية. والثابت أيضاً، لدى كل مراقب وخبير بالشأن الفلسطيني، أن السلطة الفلسطينية، التي يديرها فعلياً الجنرال الأمريكي كيت دايتون، باتت، في سلوكها وسياساتها وأدائها وقراراتها، رهينة بامتياز للمطالب «الإسرائيلية» والأمريكية والمصرية. وبالتالي فكيف يمكن لسلطة هي أعجز من أن تتخذ قراراً ولو بمستوى الإفراج عن معتقل زج به، شبهةً، الجنرال دايتون في السجن!!! أن توقع اتفاق مصالحة؟

ذات السؤال الأخير ينطبق على مصر، ما بعد الثورة، لاسيما وأن السلطة القائمة فيها ليست حتى سلطة دستورية، ولا هي بقادرة، حتى اليوم، على استعادة هيبة الدولة التي تخشى شرطتها النزول إلى الشوارع وحماية العامة من حشود البلطجية الذين صاروا كقطاع الطرق في وسط المدن والأحياء؟

وذات السؤال أيضاً ينطبق على حركة «حماس». فما الذي يجعلها متعجلة ومستعدة «لدفع أي ثمن من أجل المصالحة»؟ وما هو هذا الثمن الذي لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال محصوراً فقط بنقاط الاختلاف السابقة على المصالحة؟

المؤكد أن حالة الثورة العربية الراهنة تبعث على القلق لدى «إسرائيل» وكل القوى المحلية والعربية والدولية. فأي تغير جوهري في الحالة العربية سيعني تغيراً مماثلاً في سمات وخصائص النظام الدولي الذي جرى تشييده على أنقاض الخلافة الإسلامية ووحدة العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي. وعليه فإن ما يجب ملاحظته والتوقف عنده ملياً أن هذا النظام لا يمكن له أن يستمر إذا ما حصل العرب على قدر من الحرية، لاسيما وأن مبدأ الحرية للعرب يتناقض بنيوياً مع وجود «إسرائيل» واستمرارها، مثلما يتناقض وجودها مع الشريعة الإسلامية.

إذن؛ لا يمكن للعرب أن تستقر مطالبهم بالحرية في إطار النظام الدولي كما حصل بالنسبة لشعوب دول أوروبا الشرقية مع انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن العشرين. ولو كان الأمر كذلك لما تصاعد سقف المطالب تباعاً. فالثورات العربية انطلقت من شعارات بسيطة لم تتجاوز الاحتجاج على لحظة ظلم. لكنها مع الوقت طرحت مطالب تدرجت من التشغيل والتنمية والعدالة إلى أن أطاح شعار الكرامة بواحد من أعتى أجهزة الأمن والقمع العربية. ومع انطلاقة الثورة المصرية ارتفع الشعار التاريخي الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام»، ثم شعار «الشعب يريد محاكمة النظام». وكلها شعارات يفرزها ويغذيها المخزون التاريخي من الظلم والاستعباد التاريخيين.

ومع أن الحدث الثوري لم يتبلور بعد إلا أنه، رغم الانتكاسات، ما زال حدثاً متفجراً في أكثر من بلد عربي، ومستمراً بكل الشدة التي يحتاجها .. بل أن مفاعيله بادية للعيان، ولو أنها بطيئة، فيما يتصل بمراقبة فلول الأنظمة المتوارية، سواء عبر استمرار الاحتجاجات، أو عبر الملاحقات القانونية للرموز البائدة، أو عبر البحث عن الثروات المنهوبة.

هذه الحالة تشبه بالضبط مرحلة نزع القشرة التي تختصر الوقت وتمكِّن الشعوب من معاينة ما يحتويه اللب من كوارث وفواجع على كل مستوى. وسيكون من المستحيل إخفاء الحقائق لاحقاً عن الشعوب كلما تفجرت الاحتجاجات في بلد ما أو سقط نظام هنا أو هناك. وهذا بلا شك سيعني أن الشوارع ستظل مشتعلة إلى أمد غير منظور، وأن المحتجين لن يتواروا عن الأنظار حتى لو اضطروا إلى رفع شعارات من نوع : «عالجنة رايحين شهداء بالملايين»، كما يحصل لأول مرة في الثورة السورية. والسؤال : ما الذي سيمنع الشارع العربي من رفع شعار : «الشعب يريد إزالة «إسرائيل»»؟ ومن هي القوة القادرة على ردع الشارع حينذاك؟

لا أحد يستطيع منع الشارع، ولا أحد يستطيع ردعه أبداً. لذا، وبخلاف عربدة «إسرائيل» الظاهرية، أو ردود فعلها تجاه المصالحة، فالأكيد أن ورقة تسوية القضية الفلسطينية، وليس المصالحة فقط، هي الأثمن بالنسبة لها باعتبارها خط الدفاع الأخير عنها، إذا ما اعترضت حركة الشارع وجودها في لحظات قادمة لا محالة. وفي هذا السياق، بالضبط، تأتي المصالحة التي تبدو استثماراً، متعجلاً كالعادة، لقوى براغماتية دائماً تأتي مطالبها أقل من مطالب حركة الشارع المتفجرة. وإذا تعمقنا أكثر، وبغض النظر عن القراءات العاطفية والسطحية للمصالحة، وكأنها الإنجاز الأعظم للأمة، فالمصالحة أشبه ما تكون بصفقة سياسية تعبر عن احتياج «إسرائيلي» وعربي وإقليمي ودولي. صفقة تراءت للقوى الفلسطينية، التي طالما سعت إليها دون جدوى، كما لو أنها ثمرة ناضجة سقطت بين يديها دون عناء!!! هذا هو الثمن الذي يجري دفعه لإنجاح المصالحة، وهو الذي، به يجري، قطع الطريق على حركة الشارع بحيث يبدو الفلسطينيين واليهود، مقدمون على التصالح والتعايش فيما بينهما!!! فماذا سيقول الشارع حينها؟

لكن الثابت أن النظام الدولي القائم منذ مائة عام، بصيغة سايكس - بيكو ما كان له أن يستمر دون وجود «إسرائيل» في قلب منطقة حيوية قادرة على تغيير مسار التاريخ باستمرار. وما كان له أن يستمر وسط أي بصيص من الحرية والشعور بالأمن والأمان والقدرة على الفعل .. وما كان له أن يستمر لولا نظم الطغيان والاستعباد .. وما كان له أن يوجد أو يستمر لو كان العرب أو المسلمون شركاء في بنائه.

«إسرائيل» هي الباروميتر الذي تقيس به الولايات المتحدة والغرب قوة النظام الدولي القائم حالياً ومدى تماسكه واستمراريته. ولو لم تكن «إسرائيل» في قلب المنطقة لما تدخلت الولايات المتحدة في الثورات العربية أو في العراق أو في عموم المنطقة وكدست فيها أفتك أنواع الأسلحة، بهدف وحيد هو حماية أمن «إسرائيل» كصمام أمان وعنوان للهيمنة والسيطرة المطلقة والثابتة على المنطقة. وعليه فإنْ كان ضعف «إسرائيل» أو قوتها يعكس، بلا مواربة، قوة النظام الدولي الراهن أو ضعفه، فمن الطبيعي أن يكون كل تهديد لـ «إسرائيل» هدفاً للاعتراض عاجلاً أم آجلاً، وبأية صورة ممكنة.

هذه المعادلة قائمة إلى أن تتخلص الشعوب العربية من رؤوس الطغيان والاستبداد فيها، وتبدأ بإزالة ركام الظلم والفساد، ومعاينة رأس المال المتبقي. بعدها ستدرك أنها لم تحصل على حريتها، ولا هي تخلصت من الهيمنة والتبعية، ولا هي سيدة نفسها وقرارها، ولا هي صاحبة الحق في تقرير مصيرها .. حينها، فقط، ستكتشف أن العالم بلا «إسرائيل» سيكون، قطعاً، أكثر أمناً من بقائها .. وآنذاك، فقط أيضاً، سيبدأ العمل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 65 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010