الثلاثاء 3 أيار (مايو) 2011

وردة علـى بـحر العـرب

الثلاثاء 3 أيار (مايو) 2011 par ابراهيم الأمين

لا مكان للعقل. لا أريد لعقلي أن يعمل. ليس فيه ما يفيد في هذه اللحظات. لا مكان للعقل. ولا أريد له أن يحضر الآن. لا أريد لأحد أن يضع لي حداً، أو حاجزاً، أو فاصلة أو قل أي شيء.

ليحضر بعض ما في قلبي، ولو لوجهة واحدة، أو لبعض الوقت فقط. وما يعنيني الآن هو أن غيظي يمسك بي، بكل ما لديّ من حواس وحراك. ولست أتحمّل أولئك المجرمين المنتشرين في القصور وقاعات الجيوش، في كل الغرب، وفي كل عروش أزلامهم في أنحاء العالم، وهم يعبّرون بسرور عن موت الرجل..

لا مكان إلا لنقطة كبيرة في القلب. حيث كنت، مثلي، ملايين البشر، الذين يطاردهم الموت الأميركي والغربي كل ساعة وكل ثانية. أنظر إلى الرجل، بكل قسوته، وأخطائه، على أنه خصم يؤرّق هؤلاء القتلة الذين حملتهم إلى مواقع القرار شعوب غبية، حاقدة، تافهة، وظالمة، وتستحق ما يصيبها بسبب من تختاره زعيماً أو قائداً أو ناطقاً باسمها.

لا مكان للعقل. ولا داعي له الآن، ولا في أي زمان نواجه فيه الجنون الذي يسكن عقل أولئك الذين يستمرون بقتلنا كل ساعة، في كل مكان من الأرض. لا شيء عندهم يستحق الحياة سوى عائلاتهم القذرة مثلهم. ولا مكان للحياة عندهم سوى لمن يقبل أن يكون خادماً حقيراً في قصورهم، وفي بلاطهم.

لا مكان سوى للقلب المنفطر في هذه اللحظة. أشعر بالغثيان وأنا أرى وجه السيد الأميركي مبتسماً. وأشعر بالقهر وأنا أرى أزلامه في كل العالم يقدمون له التهانئ. وأشعر بالغيظ وأنا أرى فيهم الخصم المستمر في موقعه إلى يوم الدين.

لم يطلق أي أميركي رصاصة خارج أرضه إلا لقتل أبرياء. لا مكان لصرف القوة الأميركية إلا على أجساد الفقراء والأحرار في كل العالم.

لكن الخوف هو المسيطر على كل حواس هؤلاء. عندما هاجموه، وعندما أطلقوا الرصاص عليه، وعندما قتلوه، وعندما فحصوه ليتأكدوا من جريمتهم. لكن الخوف الذي يسكنهم. لا يريدون له مكاناً يتحول مزاراً، ولا علامة تصبح مقصداً، ولا بقية جسد، أو بقية نظرة من عين الصقر!.

ألقوه في البحر. لكنهم لا يعرفون شيئاً عن البحر... ولن يعرفوا.

ليس مثل البحر من حولنا. البحر وحده له الصفات نفسها في كل العالم.

البحر وحده، إذا قرر الغضب يمكنه أن يمحو العالم. البحر وحده لا يميّز عنصرياَ ولا طائفياً أو إثنياً. لا يهتم للون ولا لهوية ولا لمكان ولا لطبقة ولا لشكل.

البحر وحده لا يقول كلامين، ولا يغش من حوله. والبحر وحده يتكلم كل لغات العالم ويفهم كل لغات العالم. والبحر وحده يفهم لغة الصمت كما لغة الإشارات.

البحر وحده مستعد لأن يوسع صدره لكل البشر في الوقت نفسه ولا يعلن يأسه. البحر وحده من يواجه الشمس القاسية التي تمثّل العدم حتى وهي تمنحنا الحياة.

البحر وحده يعوّض لنا عن قساوة الشمس. وهو لا يحمّلها وزر أعمالها. والبحر وحده لا يخشاها، ويعرف أنها قادرة على إزالته متى أرادت. لكنه يعرف أنها ستصاب بالسأم والملل. حتى إذا قررت الانتحار، ستحتاج إليه، لأنه المكان الوحيد الذي يمكنها أن تطفئ شعلتها فيه.

البحر وحده بلون واحد، وطبيعة واحدة، وهو الأكثر احتراماً للنوم عندما يقرر أحد أن يغفو عند رجليه، أو صخرة تريد أن ترتاح من تعب البشر. فالبحر يوفر الغطاء، وعندما يحين الصباح يبتعد البحر ليترك الآخر يستيقظ بهدوء.

والبحر وحده يملأ الدنيا صخباً متى أراد لفت الانتباه، ووحده من ينزوي احتراماً لأحزان الآخرين. وما تلفظه الأرض يستقبله، يكرّمه إلى حدود جعله جزءاً منه، يندمج فيه ويدمجه في نفسه.

غداً، في الصباح، ستحمل الشواطئ، كلها، في بحر العرب وفي غيره، رائحة الرجل. سترتسم صورته فوق كل المياه، سيكون بمقدور الجميع أن يلقي التحية على الرجل، وسيكون بمقدوره هو الابتسام أيضاً.

لا مكان للعقل هنا. ولا مكان إلا لبعض القلب. حبّ يحفظ ما في الرجل من أشياء جيدة، وهي كثيرة، وحقد يرمي بنفسه على قاتليه، أو المسرورين بقتله، أو المبتهجين لغيابه.. ألا يعرف هؤلاء أن للتاريخ حكاية واحدة، وأن الموت لا يخفي حقيقة، ولا يمنع روحاً من العبور فوق الجميع. ألا يعرف هؤلاء الأغبياء أن القتل إنما يستولد القتل، وأن الغياب يستحضر الصورة التي يحبها كثيرون

لا مكان هنا للعقل. ولست في وارد احتمال ضغطه. وإلى جهنم كل منطق يقبل بهذا القهر. وإلى ما بعد جهنم كل علم يقول بحقائق مرة كحقيقة الموت التي أصابت الرجل. وإلى ما بعد جهنم كل الحسابات التي تنتهي مثل مقاصة، لكن على أحلام مقهورين وطموحاتهم.

ولمن يريد أن يسمع ولا يقبل. لم يلحق بأسامة بن لادن إلا من شعر بالقهر ينخر عظامه. ولم يبايعه إلا من شعر بأن الحياة مع الظلم لا طعم لها. ولم يقتنع به إلا من شعر بأن الحرية تحتاج إلى أشياء وأشياء، لكنها لا تحتمل المساومة...

كل نقاش في الرجل وأفكاره بات الآن بلا معنى. وكل بحث في ما قام به وما انتهى إليه صار بلا جدوى، ولم يبق في المشهد غير صورته شهيداً، وغير صورة القاتل، تحفظ في ذاكرة كل حرّ في العالم، أنه هو القاتل نفسه، من نفس الشعب، ومن نفس التربية، ومن نفس البيئة والأفكار. وهذا القاتل لم يعد له من عقاب سوى القتل، كيفما اتفق، وأينما اتفق...

وردة على بحر العرب!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 59 / 2165599

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165599 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010